الحمد لله ربِّ العالمين وربِّ العرش الكريم، والصلاة والسلام على أشرف خَلْقه وأكْرم رُسله محمد الأمين، عليه أزكى الصلوات وأَتَم التسليم.
فقد مُلئت "فاتحة الكتاب" من الأسرار والعلوم ما لو فُتح على العبد أقل القليل منها، لانصبَّت عليه ينابيع العلم صبًّا.
فإنَّ "فاتحة الكتاب" ترسم للمرء الغاية من حياته، وتُرْشده إلى وسيلة تحقيقها، وتنادي على صراط الله، وفيها علاج لأمراض القلب التي متى استحكمتْ فيه أقْعَدَتْه عن السير إلى مولاه، فهي هدايات في باب التصوُّر والعلم، وفي باب الإرادة والعمل جميعًا.
وهي السبع المثاني التي دلَّتْ على معاني الخير مثنى مثنى؛ ليعقلَها المرءُ، وهي أُم الكتاب التي جمعتْ معاني الوحي ومقاصد الشرع، فمن تدبَّرها حقَّ التدبُّر، فتحتْ له جميع مراتب الهداية، كلٌّ على حسب إيمانه.
بداية السير لجوءٌ واستعانة
تبدأ القراءةُ بالاستعاذة: أعوذ بالله منَ الشيطان الرجيم، وفيها اللجوء إلى الله والالتصاق بجَنَابه، والاعتراف بضَعف العبد وحاجته لمولاه، وفيها تذكيرٌ بالعدو الذي أخرج أبَوينا من الجنة، وسخَّر حياته لغواية البشر؛ لعلَّ النار تمتلئ بهم معه.
وما سُمِّي الشيطان شيطانًا إلا لتمرُّده على طاعة الله، واستحقاقه الطردَ من رحمته، وهذا التمرُّد على طاعة الله هو ما يحاول بثَّه بين البشر، فكم قبَّحها وصوَّرها على أنها عاداتٌ بالية وتقاليد رجعيَّة.
وما سُمِّي بـ"إبليس" إلا لإبلاسه ووسوسته في خفاء، تزيينًا للباطل كأنه الحقُّ، وتقبيحًا للحقِّ كأنه باطل، فتراه يزيِّن التَّمَرُّد على شرْعِ الله وأمرِه باسم الحرية والتقدُّميَّة تلبيسًا وخداعًا.
والاستعاذة براءة مِن تمرُّده ووقاية مِن تلْبيسِه لمعاني القرآن وصرْفها عن الحقِّ الذي جاءتْ به.
ثُم نبدأ في قراءة أول آيات الفاتحة - على الراجح -:
﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1]،
والباء تأتي لغةً لمعان منها الاستعانة، فهي استعانة برحمته الواسعة في كلِّ الأمور، وبذلك تُفتح كوامن العلم والفَهْم، ويُوفَّق المرء لِتَمام الخير.
وتنبَّه - لهذا الالتصاق واللجوء في الاستعاذة لدفْع الشر، والاستعانة والتوكُّل في التسمية؛ طلَبًا للعون، وفتْحًا لأبواب الخير، فإنه إرشادٌ إلى أنه لا سبيلَ للمرء لدفْع الضُّرِّ وجَلْب الخير إلا بالعودة إلى مولاه والالتجاء إليه، فمَن أرادَ الصعود في معارج الهداية، ورامَ فتحَ أبواب الفَهْم والتدبُّر في دين الله، فليبدأ المسيرَ بلجوءٍ واستعانة.
تابعونا
تعليق