بالرغم من ذلك الإسفاف المهين، والفساد العريض؛ فقد فوجئ العالم كله بصحوة شبابية عارمة، وعودة قطاع كبير من الناس إلى الإسلام، بقناعة تامة، ورغبة أكيدة.
بعد أن سأم الجميع حياة الترف والمجون، وأدركوا حجم الوهم والهون الذي كانوا يتخبطون فيه، ومقدار الانحطاط الذي صاروا إليه.
وأيقن الجميع بحتمية الصلح مع الله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء: 88-89].
أيها الأحبة في الله: وكان ممن ركب الموجة الثائرة، وانضم إلى قوافل العائدين إلى الله: أناس لم يلامس الإيمان الحقيقي شغاف قلوبهم، ولم تعانق القناعات الراسخة شفافية أرواحهم، لكنهم أظهروا شيئا من سمات الالتزام، وأدوا بعضا من فرائض الإسلام؛ حتى إذا ما طال الأمد عليهم، وبعدت عليهم الشقة، إذا بهم يستوحشون الطريق، ويتباطؤون نقطة النهاية، وساعة الوصول، ومن ثم يفاجؤون الجميع بارتدادهم على أعقابهم، وتخليهم على التزامهم.
وبتعبير آخر: إذا بهم يسلكون طريق الانتكاسة، ويخطون خطوات الانحراف تحت مطارق الشهوات والفتن، وتحت هذه المغريات والمحن، ورغم قناعتنا التامة أن أولئك المتراجعين، أو سمهم بالمنتكسين، لا يشكلون أي نسبة تذكر أمام طوفان الالتزام الجارف، وتيار الوعي المتنامي، ولا تعد انتكاستهم بحمد الله لا تعد ظاهرة مخيفة تثير القلق، إلا أن واجب النصح، ولازم الوعظ لأولئك المتراجعين تحتمان علينا ضرورة التنويه بهذه القضية، خشية استفحالها، أو على الأقل بأن لا يصاب الملتزمون الجادون بإحباط لا مبرر له، نتيجة انتكاسة أشخاص لا يشكلون نسبة ذات بال، أو رقما ذا معنى ودلالة، وليثق الجميع أن دين الله باق، وأن رسالته ماضية، ولن يضر المنتكسون إلا أنفسهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ)[المائدة: 54].
"يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا".
أيها الأحبة في الله: يجدر بنا، ونحن نناقش هذه القضية المهمة، ونطرح هذا الموضوع البالغ الحساسية، خصوصا في ظل هذه الظروف والمتغيرات؛ يجدر بنا أن نسلط الضوء بكل تجرد وموضوعية على أسباب الانتكاسة، ودوافعها، وعوامل الانحراف، وبواعثه، اتقاءً لشرها، وحذرا من شباكها.
فأما السبب الأول والدافع الرئيس وراء انتكاسة البعض -نسأل الله العافية والسلامة والعون والثبات- السبب الأول: هو الغرور والعُجب.
آفتان -يا شباب الإسلام- كبيرتان كافيتان لتحطيم كل ما بناه الإنسان من استقامة، وصلاح طيلة فترة التزامه.
إنهما مرضان خطيران، وشران مستطيران، ينتهيان بالمبتلى إلى أوكار الرذيلة، ومواقع الخنا -والعياذ بالله تعالى-.
إن الإنسان -أيها الأحبة في الله- مهما بلغ من علم وفضل، ومهما حقق من التزام وصلاح، فهو عرضة للانتكاسة والضلال، والعصمة لمن عصمه الله.
وإليك –يا رعاك الله- إليك خبر هذا المنتكس من القرن الأول، أفضل القرون وأشرفها، لنعلم وتعلم أنت، ويعلم الصالحين جميعا: أنه لولا فضل الله ورحمة ما زكى منهم أحدا أبداً، وأنه لولا فضل الله ورحمة ما ثبت منهم من أحد أبداً: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء)[إبراهيم: 27].
عند البخاري من حديث أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رجل نصرانيًا فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفجأة عاد نصرانيا، وكان يقول: "ما يدري محمد ما كتبت له".
فأماته الله، ودفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض بعد أن دفن، فقالوا: "هذا فعل محمد وأصحابه لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا فألقوه" فحفروا له، وأعمقوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض مرة ثانية.
وهكذا ثلاث مرات، إي –والله- ثلاث مرات يحفرون له، ويعمقون له في الحفر، فيصبح وقد لفظته الأرض.
انظر -حماك الله- هذا رجل نال شرف الصحبة، شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولازمه، ورأى الصحابة ولازمهم، وحفظ البقرة وآل عمران.
لقد تهيأت أمامه كل أسباب الشرف والاستقامة، تهيأت له أن يكون رجلا سويا، لكن لأمر ما ينتكس هذا الشقي، ويرتد على عاقبيه بإقرار همجي، وتصرف غير مسئول، فيعود إلى نصرانيته النجسة، وملته المنحرفة، فما لبث غير يسير حتى أهلكه الله، وأخزاه، فانتزع روحه الخبيثة إلى سقر.
وأما جسده النتن فإلى القبر، لكن القبر أبى، فإذا به يلفظ ذلك الجسد المشئوم كراهة لمصاحبته، وبغضا لمجاورته.
أرأيت -أيها الأخ المبارك- ضعف الإنسان، وشدة حاجاته، إلى عون الله.
إنه محتاج إلى عون الله وتوفيقه.
يتبع
تعليق