الحمد لله وحده.
(ستٌّ وستُّون) كلمة، في الاستعداد لرمضان المعظَّم.
===
فكرة هذه الكلمات في بالي من أربع سنوات، ثم وفَّقني الله لكتابتها، قاصدًا بها نصحَ بعض أقربائي، وتذكرة نفسي.
ثم استخرتُ الله على نشرها راجيًا عموم النَّفع، قاطعًا راحتي الاختياريَّة من مواقع التَّواصل، فأعتذر من متابعة الأسئلة والتَّعليقات بعد ذلك.
===
(أوَّلًا) من المخاطَب بأن يستعدَّ لرمضان؟
(ثانيًا) ما فائدة الاستعداد لرمضان؟ وما ضرر عدم الاستعداد؟
(ثالثًا) ما هي أعمال رمضان التي تعِدُّ قلبَك وبدنَك لها؟ وفيه شرحٌ لمعنى (إيمانًا واحتسابًا).
(رابعًا) كيف تستعدُّ لرمضان؟ وفيه أنَّ الاستعداد قائمٌ على (ثلاثة أصولٍ)، وفيه أيضًا خطَّة استعدادٍ، تبدأ من غدٍ إن شاء الله.
(خامسًا) إيَّاك والزَّهوَ!
===
===
(أوَّلًا) من المخاطَب بالاستعداد؟
1- ما غايتك من شهر رمضان؟!
لكلِّ إنسانٍ جوابُه الخاصُّ على هذا السُّؤال.
ومعرفة الغاية من رمضان، هي التي تحدِّدُ لك بدرجةٍ كبيرة: لماذا تستعدُّ، وبماذا تستعدُّ.
===
2- وأصناف النَّاس فيما يريدون من رمضان، وفي تعاملهم مع الشَّهر المعظَّم؛ كثيرةٌ.
وكنت كتبت عنهم، فطال الأمر جدًّا، بلا طائلٍ يتعلَّق بفكرة الاستعداد لرمضان، فتركت ذلك، واكتفيتُ بالتَّنبيه على: (مَن المخاطَب بالاستعداد لرمضان).
===
3- أهمُّ مخاطَب بأن يستعدَّ لرمضان هو:
** كلُّ من يريد أن يحصَّل من رمضان (أعظم استفادةٍ إيمانيَّةٍ ممكنةٍ)، وليس يريد: مجرَّد إسقاط الفريضة، وأداء الواجب على أيِّ صورةٍ كانت.
** كلُّ من يسأل: لماذا لا أشعر بحلاوة رمضان في كلِّ عامٍ، إلا بعد أن يمُرَّ نصفُ الشَّهر، أو ثلثاه؟
** كلُّ من يقول: ذهبَتْ حلاوةُ العبادة في رمضان، تلك التي كانت عندي في أوَّل الالتزام، وأوَّلِ سلوك طريق التَّديُّن.
فكيف أستردُّها؟
** كلُّ من يبحث في رمضان كلِّ عامٍ عن (نقطة تحوُّل) في إقباله على الصلاة، والقرآن، والتلذُّذ بالعبادة.
لا أن يكون مجرَّد مَوسمٍ جاء، ثمَّ انفضَّ، حصَّل فيه بعض الأعمال الصَّالحة، ثم يعود إلى حياة التَّفريط كما كان.
ويريد أن يتَّخذَ (هذه المرَّة) الأسبابَ المعينة على ذلك.
======
======
(ثانيًا) ما فائدة الاستعداد لرمضان؟ وما ضرر عدم الاستعداد؟
4- الاستعداد لرمضان مشروعٌ، ومن ضمن أعمال الاستعداد لرمضان الآتي ذكرُها: ما هو واجبٌ في ذاته، دون أن يكون متعلِّقًا برمضان، وبعضها مستحبٌّ غير واجبٍ.
===
5- فإذا كان سؤالك: إذا لم أفعل تلك الأمور (الواجبة)، فهل (أأثم)؛ فالجواب: نعم بلا شكٍّ.
و(هل يؤثِّر ذلك على درجة صيامك وحسن عبادتك)، فالجواب: نعم بلا شكٍّ.
===
6- وإن كان سؤالك: إذا لم تفعل الأمور (المستحبَّة) ، فهل (يفسد صيامك)، أو (لا يكون مجزئًا)، أو (يؤاخذك الله يوم الحساب)؟
فالجواب: لا، ليس هذا لازمًا.
===
7- لكنَّ عدم الاستعداد بالكلِّيَّة، ودخولَ رمضان ببلايا العام المجتمعة على القلب: هو أهمُّ وأعظم سببٍ للتَّقصير في رمضان، والوقوعِ في المحظور.
ومن باب أولى: هو أهمُّ سببٍ يحجُزك عن الاستمتاع بالعبادة، واستحضار الخشوع، والخضوع بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
===
8- وإن كان سؤالك: إذا فعلت هذه الأمور الواجبة والمستحبَّة، فهل (سيعظم أجرك) أو (سيكون صيامك أصحَّ) أو (سيؤثِّر ذلك على خشوعِك) أو (ستكون حالُك أفضلَ في: الإقبال، والخشية، والتأثِّر بالقرآن، والخشوع في الصلاة) أو (ستتلذَّذُ بالعبادة في رمضان أكثر وأفضل ممن لم يستعدَّ)؟
فالجواب: نعم، هذا هو المجرَّب بحمد الله، وهو ما نرجوه من الله الكريم، الرَّزَّاق.
===
9- في جميع الأحوال: فأعمال الاستعداد لرمضان: كلُّها مشروعة إن شاء الله، إمَّا واجبةٌ، وإمَّا مستحبَّةٌ، فالأجر ثابتٌ مع الإخلاص، إن شاء الله تعالى.
===
10- ولا تخرج فكرة الاستعداد لرمضان عن الاشتغال بتطهير (الباطن) و(الظَّاهر)، و(التهيُّئ) للعبادة، وهما مطلوبان في كلِّ وقتٍ، ومع كلِّ عبادة، خاصَّة الواجبة.
===
11- وصيام رمضان فرضٌ عظيمٌ، وواجبٌ على الإنسان، وهو من أشدِّ ما يحبُّه الله من الواجبات، ولذلك كانت منزلة هذه الطّاعة، أنَّها ركنٌ من الأركان.
والأركان: بُنيَ عليها الدِّين كلُّه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمسٍ»، ثم ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم من هذه الخمسة: «صوم رمضان».
===
12- فليس في دين الله الإسلام، بعد الشَّهادتين، أعظم من هذه الأربعة أركان، والصَّوم أحد الأربعة.
===
13- في رمضانات كثيرة، تدخل إلى الشَّهر وأنت حريصٌ عليه، مقبلٌ على الله في أوَّل يومين، لكنَّك لا تجد معاني (اللذَّة والخشوع والإخبات والخشية) الحقيقيَّة والمتعة؛ إلَّا في آخر الشَّهر.
===
14- سبب ذلك هو: (الرَّين) المجتمع على قلبك من ذنوب طوال العام، فإنَّك لم تبدأ بتبديد هذا الظَّلام الكثيف على قلبك، إلا بعد أن بدأ شهر رمضان!
===
15- فإنَّ الذُّنوب حاجزٌ كثيفٌ بينك وبين الخشوع والتَّلذُذ بالطَّاعات.
===
16- وأعمالك التي تبدؤها في أوَّل رمضان، تبدأ في (إزالة) هذا الرَّين، و(تبديد) ظلام القلب، شيئًا فشيئًا، حتَّى إذا انفتح في قلبك قدْرٌ صالحٌ لمرور (النُّور) إلى القلب: بدأتَ تستمتع وتتلذَّذ، وتخشع، وترقُّ، وتُقبل، وتشعر بحبِّ الله ورسوله في قلبك حقًّا!
===
17- وهذه أعظم متعةٍ في الدُّنيا!
كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «ثلاثٌ، من كنَّ فيه؛ وجدَ حلاوة الإيمان»، ثمَّ بدأ صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم بأوَّل خَصلةٍ فقال: «أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما».
===
18- لا بدَّ من تنبيهٍ مخصوصٍ على أعظم عملٍ رمضانيٍّ يُبدِّد ظلام قلبك، ويزيل الرَّينَ منه، وهو أنَّك تُعرِّض (قلبك) للنُّور الهادي فتراتٍ طويلةً، والنُّور الهادي هو (القرآن)، كلام الله.
===
19- فالاستماع إلى القرآن وقراءته، في الصَّلاة وغير الصلاة، فتراتٍ طويلةً: أعظم الأعمال التي تبدِّد ظلام القلب، لأنَّ الله سمَّاه نورًا.
===
20- فبدلًا من استهلاك أيام من رمضان في (تبديد الظَّلام)، ثم تبدأ في الاستمتاع بالعبادة، خشوعًا وحضور قلبٍ، وتلذُّذًا بعد مرور نصف الشَّهر؛ فلتبدِّد ظلام قلبك قبل بداية الشّهر، وتزيل الرَّين؛ فيخلص لك الشّهر كلُّه إن شاء الله!
===
21- الرَّين على القلب وظلامُه: هو أثر المعصية والغفلة، والمعصية والغفلة: ترك الواجب، أو فعل الحرام.
===
22- الاهتداء بالقرآن، ليس هو (حصول النُّور) في القلب فقط، بل؛ (تبديد الظَّلام) أيضًا، والتَّبديد أسبقُ من حصول النُّور والهدى.
===
23- إذا دخلتَ شهر رمضان بآثار الذُّنوب، ثمَّ وجدتَ غيرك قد قدروا على ما لم تقدر عليه من الطَّاعة؛ فربَّما تسيء الظنَّ بنفسك، ويوسوس لك الشيطان، فتقول: أنا لستُ من أهل الطَّاعة والعبادة.
فتترك المَوسم ليهرب منك، ثمَّ تفيق في آخر الشَّهر، بعد أن ينفضَّ، فتندم!
===
24- هل سمعت يومًا بعدَّاءٍ لا يتمرَّن قطُّ، ولكنَّه يستطيع أن يفوز بالمراكز الأولى؟!
أو يكون له شأنٌ في سباق مهمٍّ؟
من أين جاءتك فكرة أنَّك بدون تدرُّب على الصِّيام ولا الصَّلاة ولا قراءة القرآن ولا ذكر الله، وبدون ترك اللغو والفُحشِ والظُّلم؛ أنك سيأتي رمضان فتتحوَّل فجأةً إلى وليِّ صالحٍ من أولياء الله، يفعل كلَّ خيرٍ ويترك كلَّ شرٍّ، ويتلذَّذ بكلِّ طاعةٍ، ويكره كلَّ معصيةٍ، تأمره نفسه بالمعروف، وتنهاه عن المنكر؟!
هذا محالٌ!
===
25- اتَّفق النَّاس على أنَّ الشَّرف الدُّنيويَّ والعزَّ والمالَ والقوَّة والعلم؛ لا تُحصَّلُ إلا بالكدِّ والتَّعب.
والنَّاس: يمدحون من يتعب السِّنين الطَّويلة في تحصيل شيءٍ من هذه الأمور الدُّنيويّة، ويذمُّون من لا يسعى إلى أيّ شيءٍ منها!
وأنت تريد أن تحصِّل أعظم ملذَّات القلب؛ بلا أيِّ استعدادٍ!
===
26- الخلاصة: عدم استعدادك كلَّ عام؛ هو سبب تأخُّر تلذُّذك بأعمال رمضان.
ولا يتلذذُّ بالعبادة في رمضان أو غير رمضان، إلَّا من أفسحَ الطَّريق للنُّور، وأزال حجاب الذُّنوب الكثيفِ من على قلبه، ثم يبدأ في التقوِّي بعد ضعفٍ، شيئًا فشيئًا!
===
27- بقدر ما في قلبك من ظلام المعصية، وما عليه من حجاب كثيفٍ: تكون بحاجةٍ إلى مجاهدةٍ وصبرٍ وتعرُّضٍ للنُّور، قبل أن تجد طريقَ التلذُّذ والمحبَّة، فلا تعجل!
لكن؛ سِر على الدَّرب، ولا تملَّ وإن طال الأمر، فمن سار على الدَّرب؛ وصَل.
======
======
(ثالثًا) ما هي أعمال رمضان التي تستعدُّ لها؟
28- الأعمال الرمضانيَّة (الأساسيَّة) التي نريد أن نتهيَّأ لها ونستعدَّ، لتحصيل أقصى استفادةٍ ممكنةٍ هي: الصِّيام، والقيام (التَّراويح)، وقراءة القرآن، والصَّدقة.
وبنفس درجة الأهميِّة: (المحافظة على الحسنات من البطلان).
===
29- الصِّيامُ (إيمانًا واحتسابًا): لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله سلَّم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه» [رواه البخاريُّ ومسلمٌ].
والصِّيام (إيمانًا) معناه: أن يكون ما يبعثك لأن تصوم: التَّصديق بالله، وبأنَّ الصِّيام شرعُه الحكيم المحبوب إليه، عاملًا بهذا الشَّرع، متَّبعًا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
فالإيمان (تصديق وعمل، بالاتِّباع).
===
30- العمل الرَّمضانيُّ الثَّاني الذي نستعدُّ له: قيام كلِّ رمضان (إيمانًا واحتسابًا): لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله سلَّم: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه» [رواه البخاريُّ ومسلمٌ].
والقيام (إيمانًا) معناه: أن يكون الحامل لك على القيام والتَّعب في الصلاة: التَّصديق بأنَّه شرع الله النَّافع المحبوب، فيعمل بالشَّرع، ويتَّبع الرَّسول.
فالإيمان: (تصديقٌ وعملٌ، بالاتِّباع).
===
31- وأعظم القيام: قيام ليلة القدر (إيمانًا واحتسابًا): لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «من يقم ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه» [رواه البخاريُّ وهذا لفظه، ورواه مسلمٌ].
والقيام (إيمانًا)؛ كما سبق.
===
32- ومعنى (احتسابًا) في كلٍّ من الصِّيام والقيام، وكلِّ طاعة في رمضان وغير رمضان:
أن ترجو أنَّ العمل قد سُجِّل لك في صحيفة حسناتك، خاليًا من الفساد، ودون أن تتبعه بما يضيِّع أجره، وسيأتي مزيد شرحٍ.
===
33- ومن الأعمال الرَّمضانيَّة المستحبَّة المهمَّة (قراءة القرآن)، فهو أشدَّ استحبابًا في رمضان من غيره، يدلُّ عليه الحديث الآتي.
ولذلك كان السَّلفُ الصَّالحون؛ يعتنون بقراء القرآن في رمضان، عنايةً تفوق عنايتهم في سائر الشُّهور، وأخبارهم في ذلك مشهورة.
وكذلك: فقراءة القرآن من أعظم ما يؤجَر المسلم عليه، فإنَّ خصيصته أن بكلِّ حرفٍ منه: حسنة، أو بكلِّ كلمةٍ منه: حسنة، والحسنة: بعشر أمثالها.
وكذلك: لأنَّ الله تبارك وتعالى يضاعف الثَّواب في الزَّمن الشَّريف.
فيضاعف العشر حسناتٍ في رمضان ، إلى ما شاء، سبحانه وتعالى.
===
34- وأهمُّ من مجرَّد القراءة (مدارسة القرآن)، قال ابن عبَّاسٍ: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود النَّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود َبالخير من الرِّيح المرسَلة».
وقال النَّوويُّ رحمه الله إنَّ من فوائد الحديث: «استحباب الإكثار من القراءة في رمضان».
===
35- وكذلك ممَّا يتأكَّد طلبه في رمضان (الصَّدقة)، ويدلُّ عليه الحديث السَّابق، فإنَّ طوائف من العلماء استدلُّوا بـ(الجود) على ذلك.
وممَّا يدلُّ عليه أيضًا قول رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «من فطَّر صائمًا؛ كان له مثل أجره» [رواه أحمد بن حنبلٍ وغيره].
وفيه دلالة إن شاء الله على أنَّ إطعام الطَّعام في رمضان؛ أعظم من الإطعام في غيره.
===
36- والمطلوب في كلِّ الأعمال دائمًا، أن تفعلها (إيمانًا واحتسابًا).
===
37- (فالإيمان): تخليص العمل مما يبطله مما يأتي معه، مثل الرِّياء: إرادة غير الله به، ومن إرادة غير ثواب الله به، فلا تفعله رياء، ولا لمصلحة الدنيا، من مصالح البدن مثلا.
===
38- (والاحتساب): تخليص العمل ممَّا يبطله من أنواع الذُّنوب مما يأتي بعد العمل، ومن أعظمها: العُجْب بالعمل.
===
39- وقد دلَّ الوحيُ أنَّ من أعظم ما يضيِّعَ حسنات الصِّيام ممَّا يأتي بعده: أن يظلِم الإنسان غيره، فيأخذون حسناتِه.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المفْلِس من أمَّتي: يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، و(صيامٍ)، وزكاةٍ، ويأتي قد (شتَم) هذا، وقذَف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفَك دم هذا، وضرَب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيت حسناتُه قبل أن يَقضى ما عليه؛ أُخِذ من خطاياهم فطُرحَت عليه، ثم طُرح في النَّار» [رواه مسلمٌ]!
===
40- لذلك كان من أهمِّ الأعمال الرَّمضانيِّة: كفُّ النَّفس عن المعاصي بأنواعها، فهذا هو أهمُّ أعمال (الاحتساب) إن شاء الله.
وقد كان العبَّادُ الصَّالحون يحترزون في أيَّام صيامهم كما لا يفعلون في غيره، كما جاء عن أحمد بن حنبلٍ رحمه الله أنَّه سئل عن أحد رواة الحديث، فأراد أن يضعِّفه، فاكتفى بأن يقول: (نحن قوم صيام).
===
41- وقد جاء التَّنبيه على ترك ذلك في الصِّيام خاصَّةً، لعظم أمر الشَّهر المعظَّم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «مَن لم يدَع قولَ الزُّور، والعملَ به، والجهلَ؛ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه» [رواه البخاريُّ]!
فالمقصود بالحديث: ترك المحرَّمات بالقلب واللسان والجوارح، وأنَّها مفسدةٌ لأجر الصَّائم.
===
42- وفي الحديث أيضًا عن رسول الله صلَى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه: الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامه: السَّهر» [رواه أحمد بن حنبلٍ وغيره].
===
43- *** فالخلاصة:
أنَّ المطلوب في رمضان من الواجبات والمستحبَّات هو: (الصِّيام) و(القيام) و(قراءة القرآن) و(تدبُّره) و(الصَّدقة).
* وكذلك: (المحافظة على ثواب كلِّ هذه الأعمال من البطلان والحبوط، ومن ضياع أجرها).
* وكذلك: (ترك قول الزُّور، ترك العمل بالزُّور، ترك الجهالة)، فإنَّ آثار هذه الأمور مقلقٌ للقلب، مزاحِمةٌ للنُّور الذي تريد أن تدخله إليه، لتتلذَّذ وتجد حلاوة الإيمان!
======
======
(رابعًا) كيف تستعدُّ لرمضان؟
44- الاستعداد لرمضان طلبًا لأكبر استفادة من أجر وخشوع وتلذُّذ، يقوم على ثلاثة أصولٍ من الأعمال هي: (منع كلِّ مادَّة الظَّلام والرَّين) و(البدء مبكِّرًا في تبديد ظلام القلب) و(التدرُّب على المطلوب في رمضان).
===
45- الاستعداد في (شهر رجبٍ)، ثمَّ في (شهر شعبان)؛ هو أهمَّ الاستعداد، وأكثره فائدةً، وهو الذي دلَّ الشَّرع عليه.
===
46- أهمُّ الاستعداد في (رجب) هو: منع مادَّة الفساد (الظَّلام والرَّين) الدَّاخل على القلب، وهي (التَّوبة).
فليكن انشغالك الأعظم في شهر رجب بـ(التَّوبة)، أو (بترك المعصية والكفِّ عن الذُّنوب).
===
47- وترك المعصية واجبٌ في كلِّ وقت، والتَّوبة هي وظيفة الإنسان في عمره كلِّه، كلَّ يومٍ، وكلَّ ساعةٍ، وكلَّ لحظةٍ، وليس تركُ المعصية وتركُ الذَّنب وترك ظلم النَّفس خاصًّا برجبٍ، ولا غير رجبٍ.
===
48- ومع ذلك: فالأصل في اختصاص شهر رجبٍ بتعظيم التَّوبة فيه، وتعظيم أمر الذَّنب فيه؛ هو قول الله تعالى: {إن عدَّةَ الشُّهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السَّماوات والأرض
منها أربعةٌ حرُم
ذلك الدِّينُ القيِّمُ
فلا تظلموا فيهنَّ أنفسَكم}.
===
49- فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن شهر رجبٍ؛ هو أحد الأشهر الحرُم الأربعة [رواه البخاريُّ ومسلمٌ].
===
50- وأحد التَّفاسير الصحيحة المشهورة، المأثورة عن السَّلف والأئمَّة، لمعنى قول الله تعالى {فلا تظلموا فيهنَّ أنفسكم} هو: لا تظلموا أنفسَكم في الأشهر الحرم (ومنها رجبٌ) بارتكاب الذُّنوب، لأنَّ الوِزرَ في هذه الشُّهور؛ أعظم، والمعصية فيها؛ أشدُّ!
===
51- ابدأ من رجبٍ (أو ما بقي منه) في (منع زيادة الرَّين على قلبك)، بالتَّوبة، وبالكفِّ عن مشتِّتات العزم.
===
52- التوبة:
** اترك كلَّ معصية تعرفها، وافعل كلَّ واجبٍ تعرفه.
** لا تتكلَّم بالذَّنب: لا تكذب، لا تغتَبْ، لا تشتِم، لا تنمَّ.
** لا تنظر إلى الحرام، فالنَّظرات سهامٌ مسمومةٌ، مغيّرةٌ للقلب، حاجزةٌ عن للخير.
** لا تستمع إلى الحرام، لا تستمع إلى الغيبة والنميمة، والظلم والبهتان، لا تستمع إلى المعازف والغناء!
** فحتَّى أولئك الذين لا يقولون بحرمة المعازف والموسيقى، يعترف العقلاء الحاذقون منهم أنَّه المعازف والموسيقى: مُزاحِمة للقرآن، مبعِدة عن فهمه والتَّأثُّر به، كما يقوله فريد الأنصاريُّ وغيره.
** لا تأكل الحرام، «أطِب مطعمك؛ تكن مستجاب الدّعوة».
** لا تشاهد الأفلام، ولا المسلسلات، فإنها لا تخلو أبدًا من المحرَّمات.
** أبعِد قلبك عن المؤثِّرات التي تشتِّت عزمَه، امنع مواقع التَّواصل إلا فيما تتيقَّن فائدته، لا تلهث خلف الأخبار، والجدال، تقرأ نفس الخبر مائة مرَّة، وألف تعليق عليه، وتدخل في ألف جدالٍ حولَه!
** لا تقرأ للبطَّالين، الكذَّابين، أهلِ البُهْت، قليلي الأدب والمروءة.
** قاطع أصحاب السُّوء، الذين يدعونك إلى الشرِّ، ولا يطيعونك في دعوتك إلى الخير، أو الذين لا تستطيع أن تدعوهم للخير لشدّة بُعْدِهم، وصاحب أهل الطَّاعة، الذين إن عصَوا؛ ندموا، ولم يجاهروا.
** مُرْ نفسك والنَّاس بالمعروف والطَّاعة، وانه عن المنكر والعصيان.
===
53- واعلم أنَّك تمدُّ قلبك بما تريد، من طريقين (السَّمع) و(البصر).
كما قال الله تبارك وتعالى: {والله أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السَّمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون}.
فاحم سمعك، وبصرك، أن يَدخل من أحدهما الزَّيغُ والرَّيب إلى قلبك.
** واعلم أنّك إن أدخلت خيرا وحقًّا (كالقرآن والسُّنَّة)، سعِدتَ، فإذا أكثرت منه؛ تلذَّذتَ.
وإن أدخلتَ شرًّا وباطلًا، كالغناء والمعازف، ومشاهدة الأفلام والعورات؛ أثِمتَ وحزِنتَ، فإن أكثرتَ؛ كانت عيشتُك ضنكًا، وكنت واضعًا بنفسك حجابًا على قلبك، تحتاج إلى المجاهدة الطّويلة حتى تزيله، ثم يعود قلبك صافيًا، فتفهم الحقَّ وتحبُّه!
** واعلم أنَّ (الإكثار) من الباطل غير المحرَّم، كاللّهو المباح والمكروهات؛ لا خير فيه، بل هو باب الغفلةِ الواسع.
وقد يُطلب اللهو المباح أحيانًا، بلا إكثار، ولا اتِّخاذه حرفةً، حتى لا تسأم النَّفس، والكلام عن الإكثار، واتِّخاذه عادةً دائمةً، أو حرفةً، مع خلو حياتك من حقٍّ يقابله، يغذِي قلبك، فهذا هو المذموم.
===
54- فأهمُّ وظيفةٍ لك في (رجبٍ): التوبةُ، فبذلك توقِف إمداد قلبك بمادَّة الفساد والظُّلمة.
===
55- ويساعد على ذلك: أن تزيد في أعمال البرِّ في رجبٍ:
** أضِف ربعًا أو ربعين (يوميًّا) إلى ورد القرآن في رجبٍ، وإن كنت لا تقرأ شيئًا، فاقرأ ربعين كلَّ يوم إلى نهاية رجب، ولا تزد.
** أضِف صيام يومٍ في الأسبوع في رجبٍ، ولا تزد، ابدأ بصيام غدٍ الاثنين.
** لا تؤخِّر صلاة الفريضة عن وقتها، ثمَّ يأتي رمضان فتسأل (لماذا لا أصبر على صلاة النافلة)؟!!
** تصدَّق ولو بالقليل، أطعم مسكينًا!
===
56- وأمَّا شهر (شعبان)، فأعظم وظائفك فيه استعدادًا لرمضان، مع استمرار التَّوبة الرجبيَّة وكفِّ الأذى عن النَّفس:
أ- (تبديد الظَّلام والرَّين، وإزالة أثر المعصية).
ب- (التدرُّب على أعمال رمضان).
===
57- السِّحر الحلال، في إزالة أثر المعصية، وتبديد ظلام القلب، وجلاء الرَّين من عليه هو: ذكر الله!
** حافظ على مجلس ذكرٍ كلَّ يومٍ في أوَّل النَّهار، تقعد فيه خاليًا من كلِّ شيءٍ، إلا ذكر الله.
** وأصول الأذكار: (سبحان الله) و(الحمد لله) و(لا إله إلا الله) و(الله أكبر) .
** (لا حول ولا قوَّة إلا بالله)؛ كنز من كنوز الجنَّة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم.
** وأذكار بعد الصلَّاة (التَّسبيح والتحميد والتكبير، ثلاثة وثلاثون مرَّة لكلٍّ، ثم تقول تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلِّ شيءٍ قدير): تغفر الخطايا، وإن كانت مثل زبد البحر، [رواه مسلم].
** وقال رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «من قال: سبحان الله وبحمده، في يومٍ مائة مرَّةٍ؛ حُطَّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» [رواه البخاريُّ ومسلمٌ]!!
** وحافظ كلَّ يوم على (حرزك من الشيطان):
(لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيءٍ قدير) مائة مرّة، بتدبُّرٍ وتخشُّع!
أخبر رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم أنَّ من قالها في يومٍ: «كانت له عَدل عشر رقابٍ، وكُتبت له مائة حسنةٍ ومُحيت عنه مائة سيِّئةٍ، (وكانت له حرزًا من الشَّيطان، يومَه ذلك، حتى يُمسي) ولم يأت أحدٌ أفضل ممَّا جاء به، إلا أحدٌ عمل أكثر من ذلك» [رواه مسلمٌ]!!
===
58- أعظم ما يزيل الرَّين، هو تعريض القلب (للقرآن) كما سبق، فإنَّه نور، وهدى، يبرئ من الظَّلام والضلال!
===
59- قرآن شعبان استعدادًا لسباق رمضان:
** قال سلمة بن كهيل: «كان يقال: شهر شعبان؛ شهر القرآن» [وسلمة تابعي، رأى بعض الصحابة وروى عنهم، وعاش في زمن التابعين، مات سنة 122].
** وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: «هذا شهر القُرَّاء» [وهو مثل سلمة، وتوفي سنة 122].
===
60- فاقرأ القرآن في شعبان، كما تحبُّ أن تقرأه في رمضان، جاهد نفسك، وزد، وتدبَّر، واستعن بمختصَرٍ في التَّفسير.
===
61- صيام شعبان استعدادًا لرمضان (مع استمرار التَّوبة وكفِّ الأذى عن القلب):
** قالت عائشة رضي الله عنها: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهرٍ إلَّا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان » [رواه البخاريُّ ومسلمٌ].
** وقالت رضي الله عنها: «لم يكن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنَّه كان يصوم شعبان كلَّه» [رواه البخاريُّ وهذا لفظه، ورواه مسلمٌ].
** وقد سألَ أسامة بن زيدٍ رسول الله عن سبب ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم: «ذلك شهرٌ يغفُل النَّاس عنه، بين رجبٍ ورمضان، وهو شهرٌ ترفَع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأُحبُّ أن يُرفع عملي وأنا صائمٌ» [رواه أحمد بن حنبلٍ وغيره].
===
62- نوافل الصلاةِ والصَّدقة، وأعمالُ البرِّ:
خُذْ هذا النصَّ الجامع النَّفيس، قال ابن رجب رحمه الله في ذكر أحد معاني صوم شعبان، وعباداته:
«** صيامُه كالتَّمرين على صيام رمضان، لئلَّا يدخلَ في صومِ رمضان على مشقَّةٍ وكُلفةٍ!
** بل؛ قد تمرَّن على الصِّيام واعتادَه، ووجد بصيام شعبان قبلَه حلاوة الصِّيام، ولذَّته، فيدخل في صيام رمضان بقوَّةٍ ونشاطٍ.
** ولَّما كان شعبان كالمقدِّمة لرمضان: شُرِع فيه ما يُشرَع في رمضان، من الصِّيام، وقراءة القرآن.
** ليحصل التَّأهُّبُ لتلقِّي رمضان، وترتاض النُّفوس بذلك على طاعة الرحمن» انتهى كلام ابن رجب.
===
** أعظم النَّوافل، هي السُّنن الرَّواتب، قبل وبعد الصلوات الفرائض، لا تدَعْها في شعبان، من باب التمرين على رمضان!
** لا تحرم نفسك من ركعتين كلَّ ليلةٍ في شعبان!
قم بالليل وقف بين يدي الله، تتمرَّن على رمضان، وما تريده في ليلة القدر!
فإنما العلم بالتعلُّم!
اقرأ من المصحف إن شئت، اسجد وقل لله ما شئت، واطلب منه أن يجمع عليك شملك، ويكتبك في أهل الطّاعة والإيمان.
** زد في الوقت كلَّ يوم، إما تطويلا في القراءة، أو زيادةً في عدد الرَّكعات..
فتدخلُ رمضان وأنت متهيِّءٌ للسباق بإذن الله.
======
======
(خامسًا) إيَّاك والزَّهوَ!
63- إيَّاك والزَّهوَ، يا مسكين!
فإذا أتيت بكلِّ هذه الأعمال على وجهها، فالمرجوُّ أن يمنَّ الله عليك، ويدخلك في زمرة الطَّائعين، فالخير كلُّه منه، وإليه، وبيده.
ادخل على الله (دائمًا) من باب (الفقير الذي يطلب من الغنيِّ)، والمحتاج الذي (يتسوَّل) الهداية، مهما كان عملُك!
64- ولا تنظر إلى نفسك، فإنّك قد تفعل كلَّ هذه الأسباب، ثم تُحرَم بالكبرياء المذموم!
65- وقد لا تفعل إلا القليل، مع التذلُّل لله، وكثرة الدُّعاء بالهداية، فيقبلك الله، ويشكر لك!
66- اطلب من الله أن يهديك، وألحَّ عليه في الطلب، ولا تدَعْ دعاء الله أن يلهمك رشدَك، فإنَّه هو الذي يَهدي، ويرفع، ويحوط وينصر، ويزكِّي من يشاء، والله يقول الحقَّ {وهو يَهدي السبيل}!
سبحانك اللهمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الشيخ خالد بهاء الدين
تعليق