أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي الدرداء ومعاذ عليهما الرضوان أن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام قال : " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال : ذكر الله".
وأخرج مسلم عن أبي مالك عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال :
" الطهور شطر الإيمان والحمد تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".
ما معنى الذكر:
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام " أذكرني عند ربك "
وقال على لسان إخوة يوسف " تفتأ تذكر يوسف "
وقال على لسان قوم إبراهيم " سمعنا فتى يذكرهم "
وقال على لسان الخضر صاحب موسى عليهما السلام " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ".
الذكر : يكون في القلب بحضور الشيء المذكور في النفس وفي اللسان بالقول. الذكر بكسر الذال من النبو والنتو والبروز ولذلك سمي بعض الشيء بالذكر بفتح الذال والمقصد هو : أن الذكر ( موضوع الموعظة ) ما يظهر في النفس فلا يختفي فيها بل يبرز عملا وقولا وحياة وحركة.
كيف يكون الذكر:
1 ــ بالقلب. قال تعالى : " وإذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ". وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير من ملئه ".
2 ــ باللسان. قال تعالى : " وأقم الصلاة لذكري " وقال عليه الصلاة والسلام : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ".
3 ــ بالعمل. قال تعالى : " فأذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون" وقال " إذا لقيتم فئة فأثبتوا وإذكروا الله كثيرا".
4 ــ بالتواصي والتحاض والتحارض والمشاركة الجماعية. قال تعالى " وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" وقال" وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".
5 ــ بالعقل والفؤاد. قال تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ". يكون العقل ذاكرا عندما يتبع المنهج القرآني القائم على النظر وإعتماد البرهان وتجاهل الخرافة وعلى طلب العلم بدليله الشافي وإجراء المقارنات والمقابلات وتحرير الإنسان بالإرادة وتكريمه بالحرية " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ". ولا يمنع ذلك من إشتراك العقل والقلب في تحصيل الإيمان إذ قال سبحانه " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ". لإن الإنسان وحدة واحدة لا تقبل التجزئة.
ذكر الله حال لحياة المؤمن وليس مناسبة خشوع معزولة.
1 ــ أعظم الذكر طرا مطلقا : القرآن الكريم. قال تعالى :" إنا نحن نزلنا الذكر" وقال " ولقد يسرنا القرآن للذكر". وقال سبحانه في موضع آخر " وإنه لذكر لك ولقومك " وقال " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم". ذكر القرآن يكون بتجديد الإيمان وبالتلاوة وبطلب العلم والفقه فيه وبالإهتداء بهديه تقديما لما قدم وتأخيرا لما أخر وبالدعوة إليه وأعلى مقام في ذلك هو " خيركم من تعلم القرآن وعلمه". تعلم حرفه وحده ثم علم حرفه وحده.
2 ــ الصلاة آمن مرفإ للذكر وأخصب محطة له. قال تعالى " وأقم الصلاة لذكري " أي لأجل ذكري. والعبادة الموقوفة عامة.
3 ــ الذكر أدبار السجود. قال تعالى " فإذا قضيتم الصلاة فأذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم". ( معقبات الصلاة).
4 ــ الذكر بمناسبة :
أ ــ مناسبة الغدو و الآصال. قال تعالى " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون".( أذكار الصباح والمساء).
ب ــ مناسبات طبيعية مناخية ( صلوات الضحى والكسوف والخسوف ـ هبوب الريح ـ بزوغ البدر ـ نزول الغيث إلخ..).
ج ــ مناسبات زمانية ( صلوات العيدين ـ أيام التشريق " الأيام المعلومات " ـ رمضان وعشراه الأواخر وذو الحجة وعشراه الأوائل ).
د ــ مناسبات عائلية ( النكاح ـ هبة الولد ـ المرض والمصيبة والموت ـ فوز ونجاح إلخ ...).
ه ــ مناسبات إجتماعية ( تبادل تهنئة وتعزية ـ لقاء مبتلى في بدنه أو عقله أو ماله ـ إلخ ..).
و ــ مناسبات مالية ( الصيد " إذكروا إسم الله عليه " ـ ).
ز ــ مناسبات حربية وعسكرية " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا وإذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون".
ح ــ مناسبات فنية ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وإنتصروا من بعدما ظلموا".
ط ــ مناسبات يومية لا تحصى في كل واحدة منها سنة من سنن محمد عليه الصلاة والسلام فيما عرف بالأذكار في مناسبات مختلفة ( اليقظة ـ لبس الثوب ـ الأكل والشرب ـ الخروج والدخول ـ المعاشرة ـ الغضب والفرح ـ اللقاء ـ النوم إلخ ..).
5 ــ التفكر في ملكوت الله سبحانه.
أ ــ التفكر في الخلق الكوني. قال تعالى " إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون". ذكر السماء والأرض في هذه الآية مرات ثلاث ليقول بأن الإنسان يعيش فوق مسرح معرض كوني واسع رحب سقفه السماء وأديمه الأرض وما بينهما موضوع له بغرضي : التفكر والتسخير.
ب ــ التفكر في الخلق البشري. قال تعالى " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون".
ج ــ التفكر في قانون الزوجية وسنة التعدد. قال تعالى " ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
د ــ التفكر في عجائب قدرة الرحمان سبحانه وبدائع صنع الخلاق. قال تعالى " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده" وقال " كل شيء هالك إلا وجهه".
ه ــ التفكر في عبادة الكون لربه كرها. قال تعالى " يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته".
و ــ التفكر في التاريخ وقصصه. قال تعالى " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
6 ــ أذكار بغير مناسبة :
أ ــ تجديد التوبة ( ندما في القلب وعقدا لعزيمة الإقلاع مرة بعد مرة ولو عاد ألف مرة ومرة وإستغفارا باللسان وإتباع السيئة حسنة لتمحوها ورد المظالم لأصحابها قدر المستطاع ).
ب ــ الدعاء الذي هو مخ العبادة وهو بغير مناسبة يتقي الإنسان به مصارع السوء وينشد الخلاص من مطبات مهلكة ومن أسباب ذلك دعاء الله في الرخاء وذكره في السعة ليذكرك في الشدة ولا يمنع ذلك من الإلحاح في الدعاء زمن العسرة إتساء بذي النون عليه السلام " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وتأدبا بأدب أيوب عليه السلام " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وليس بين ذلك وبين هديه عليه الصلاة والسلام في سؤال ربه حتى شراك نعله .. من تعارض إذ يسأل الله كل شيء ولكن بأدب النبوة " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
أغراض ومقاصد الذكر :
1 ــ شكر ولي النعمة على نعمائه والواهب على هبته. قال تعالى " فإذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون" معناها أن الذاكر شاكر وأن الغافل كافر فإن غفل إعراضا فهو كافر ملة وإن غفل لهوا فهو كافر نعمة.
2 ــ التوبة. قال تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم".
3 ــ التدبر لكسب أمرين ( تجديد الإيمان و تسخير الكون ). قال تعالى " أفلا يتدبرون القرآن" وقال " إنما يستجيب الذين يسمعون". وقال " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان " وقال " وعلم آدم الأسماء كلها" وقال " لتعلموا عدد السنين والحساب ".
4 ــ تغذية القلب بقوته المناسب طردا للغفلة وهيمنة الشيطان. قال تعالى " ولا تكن من الغافلين " وقال " إنما يريد الشيطان أن يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ".
5 ــ تحصيل الطمأنينة اللازمة لتذوق حلاوة الإيمان والسكينة المطلوبة لإستواء الشخصية النفسية. قال تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
6 ــ تحصيل الخشوع الصارف عن إقتراف المعاصي سيما من كبائر الذنب. قال تعالى " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ".
7 ــ تهيئة العقل لكسب العلم النافع المفيد. قال تعالى " فأسألوا أهل الذكر " وقال " حتى أحدث لك منه ذكرا " وقال " وإذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ".
من أولى بالذكر : فقير يذكر بصبره أم غني يذكر بشكره؟
صاحب السؤال أحول دون ريب بسبب تصوره أن الكون إنما يعمره الأغنياء الموسرون فحسب أو الفقراء أما إجتماعهم إبتلاء وإختلافا وتدافعا فلا تبصره العين الحولاء. قل لي : من أولى بالتسبيح : الحصاة الصغيرة التي لا تبصر حتى بأدق المجاهر العصرية أم الصخرة الصماء التي تبني جبلا شامخا شاهقا؟ إذا كانتا في التسبيح سواء " وإن من شيء إلا يسبح بحمده" فإن الإنسان ذكرا كان أم أنثى وفقيرا أم غنيا وحاكما أم محكوما وأسود أم أبيض .. هو الأولى بالذكر صبرا هنا وشكرا هناك ولعله أقدر على الذكر صبرا منه شكرا ولكن ليس له أن يركل الدنيا بزينتها بقدمه متذرعا بذاك فإن كان ذاكرا بالشكر في موضع الصبر كان من صنف الصديقين والأبرار ولكنه مقام المقربين لا يطأه من هب ودب.
ماهي أمارات الذاكر وعلامات الغافل؟
لعلنا نكون في زمن يندر فيه جدا أن يشار إلى ذاكر فيكون كذلك أو إلى غافل فيكون كذلك. قال عليه الصلاة والسلام " رب أشعث أغبر لا يؤبه له تتدافعه الأيدي لو أقسم على الله لأبره". كما أخبرنا بأن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة : مجاهد ومنفق وعالم بسبب الرياء الأكبر والعياذ بالله. ومن أجود ما قال الصالحون : لا تحقرن من الناس ( من أهل القبلة ) أحدا فلعل الله وضع فيه ولايته ( ولاية حددها الوحي المعصوم : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون : الذين آمنوا وكانوا يتقون )... ولا من العمل كذلك صالحا وسيئا ناظرا إلى الملك الذي تطيعه فلا تعصيه لا إلى سعر العمل.
أما الأمارات الظاهرة وهي حسبنا من هذه الدنيا حيال بعضنا بعضنا وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فمنها هذا المشهد النبوي في الذكر. أخرج مسلم عن عائشة عليها الرضوان أنه خرج ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات ليلة فأتبعته وهو لا يعلم لعله يأتي بعض نسائه فإذا هو في البقيع يستغفر لأهله ( أهل البقيع من شهداء أحد ) فقالت في نفسها : أنت في حاجة ربك وأنا في حاجة الدنيا .. إلى آخر الحديث الطويل.
ومن أمارات الذاكر تواضعه للضعفة وحدبه عليهم وخفض جناحه للمؤمنين عامة وعدم ركونه إلى الذين ظلموا. جاءه عليه الصلاة والسلام رجل يطلب مرافقته في الجنة فقال له : أعني على نفسك بكثرة السجود وقال له آخر: أجد في قلبي قسوة فقال له : إمسح على رؤوس اليتامى.
ومن أمارات الذاكر كثرة الإستغفار وكثرة ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات ( الموت ) وسروره بحسنته وحزنه لسيئته ورؤيته لمعصيته مهما دقت وصغرت جبلا يوشك أن ينهد عليه وحرصه على الخلق الحسن مع الناس كافة " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه "... ومن أمارات الذاكر عصمته من أمارات النفاق الكبرى ( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خاصم فجر )... ومن هداياه : توفيقه إلى المغيبات : الإسم الأعظم يدعو به فيجاب وليلة القدر يحييها وساعة يوم الجمعة يكون فيها من الساجدين المتضرعين ...
الحد الأدنى من الذكر لطرد ضده من الغفلة :
قال عليه الصلاة والسلام : " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من المكثرين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". الحد الأدنى من ذلك القيام هو : صلاة العشاء وصلاة الفجر ( البردين ) ولا حدا أقصى له " قم الليل إلا قليلا نصفه أو إنقص منه قليلا أو زد عليه ". وقد تقوم كل ليلة بمائة آية فتكون من المكثرين وقد تقوم بألف آية فتكون من المقنطرين ولا يكلفك ذلك تجاوز الجزئين الأخيرين إلا قليلا جدا.
الذكر عبادة الرجال والنساء :
قال تعالى " .. والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما". أم نعد عمل المرأة في بيتها صناعة للإنسان الجديد بأمر ربها سبحانه مادة ومعنى .. مسألة لا علاقة لها بالذكر؟ بل هي من تصنع الذاكر وتربي الشاكر وتنشئ الصابر.
عدوان للذكر لدودان : المرض المقعد والشغل اللاهث.
قال عليه الصلاة والسلام " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ". كل من يفهم الحديث الفهم الإيجابي المطلوب والمقصود منه عليه الصلاة والسلام يدرك أنه عليه الصلاة والسلام يحذرنا من أمرين ويحرضنا على أمرين. يحذرنا من إهمال المطلب البدني غذاء وراحة وحركة ومن اللهث في طلب الدنيا لئلا يكون الإنسان لها عبدا وهو مخلوق لتكون هي له عبدا ويحرضنا على أمرين : إعداد بدن على البلاء صابر مؤهل للعبادة والعمارة والخلافة وطلب الدنيا طلبا متوازنا يكون فيه الإنسان سيدا وتكون فيه الدنيا عبدا مسخرا وليس العكس. من فرط في صحته البدنية ولو بسبب التدخين مثلا لن يكون ذاكرا كثيرا لأن الذكر خلجة قلب حي وحركة لسان رطب وعمل جارحة قوية غنية وكذا من فرط في حسن تنظيم وقته وحياته فكان منخرما لصالح العبادة على حساب العمارة أو لصالح العمارة على حساب العبادة فلن يكون ذاكرا كثيرا لأن الذكر عمل صالح يبعث عليه قلب صالح ولسان صالح. قد ينشئ المرض المقعد في النفس يأسا يحجب عن الذكر أو ينفث في الذكر دخن القنوط وقد ينشئ الشغل اللاهث فيها غرورا ( يسمى قديما : طول الأمل ) يحجب عن الذكر أو ينفث فيه سم العجب.
خلاصة الذكر : عسل مصفى.
1 ــ الذكر أكبر شيء. قال تعالى " ولذكر الله أكبر". أكبر من كل قول وعقيدة وعمل لأنه يؤسس الإيمان الصحيح السليم يفطره من مظانه فطرا فلا تقليد فيه ولا إمعية بل برهان وأمارة ولأنه ينضح القلب من شوائب النفاق السلوكي ـ فضلا عن الإعتقادي ـ نضحا ويطهره تطهيرا " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ولأنه يطيب اللسان كما يطيب العطر الثياب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لمن جاءه يسأله عن عمل خاتم حافظ " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ".
2 ــ الذكر هبة وفضل ونعمة خالصة يغدقها الله على أحب عباده إليه. قال تعالى " إنا أخلصناهم بخالصة : ذكرى الدار". الذاكر يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه يوم يبعث عباده فهو ممن أخلصه الله بقلب حي به موصول وخصه. أخلص العمل : عمارة القلب بالدار الآخرة التي يأوي إليها كل عامل وكل عمل وذاك هو الشعور الذي يحجز عن الكبر والظلم ويبعث على العدل والإحسان.
3 ــ الذكر عادة ما تلازمة صفة الكثرة في القرآن الكريم وذلك أدل شيء على أن الذكر حال للمؤمن لا تفارقه قلبا ولسانا وعملا إلا غفلة يسيرة مكتوبة على إبن آدم لم ينج منها حتى أحب مخلوق إلى ربه محمد عليه الصلاة والسلام " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ". ولذلك نصبت لنا محطات ذكر مفروضة ( الصلاة بمعدل أربع ساعات ونيف على مدار الحياة) وهو الحد الأدنى لضمان قوت القلوب وتزويدها بالنور الذي به تستضيء وتهتدي. ولذلك كان الذكر مطلوبا بكثرة " إذكروا الله ذكرا كثيرا " وكان مطلوبا على كل حال في الحياة " قياما وقعودا وعلى جنوبهم ".
4 ــ الذكر شرف وقدر ومنزلة عليا وهو مناط الرفعة والسؤدد. قال تعالى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم". خيريتكم متعلقة به كثرة وقلة وإخلاصا وغفلة وفردا وجماعة وفقها وأماني.
وأخيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا ...
فإن ألقى إليك الشيطان قائلا : أنى يكون الذكر بحركة اللسان التي يديرها الناس اليوم أدبار السجود أزكى عند الله وخيرا من النصر والجهاد ( تضربوا أعناقهم ) ومن الشهادة في سبيل الله ( يضربوا أعناقكم ) ومن الإنفاق عينا وقيمة(الذهب والورق ) ..؟ قل له : يكون الذكر كذلك هو الأكبر والأخلص عندما يكون جامعا بين القلب واللسان والحركة أي عندما يكون الطبيب أذكر الذاكرين وهو يجري أعقد العمليات الجراحية على مريضه ولو كان مريضه كافرا إبن كافر أو إمرأة لا يحل لها الكشف عن عورتها ولم يوجد ـ لسبب ما ـ آهل منه لذاك وعندما يكون الحاكم إماما عادلا يتحرى القسط بين الناس سياسة ومالا وإجتماعا ومنزلة للأمة بين الأمم .. أما عندما يوجل القلب فلا يتحرك اللسان أو يتحرك اللسان فلا يوجل القلب أو يكون ذاك وذلك دون حركة في الحياة .. فلا تسم ذاك ذكرا ولكن قل : هو مخدر يخدر الناس به أنفسهم أو يخدرون به.
أما إن أبصرت في نفسك أو في غيرك من يجمع بين هيمنة الشيطان عليه غواية فكرية وغرورا وإغراء سلوكيا .. وملازمة الذكر فأعلم أنه ميت من أموات الأحياء إستوى مع من يعرض عن الذكر عقلا أو لسانا وحركة .. أما عدو الشيطان من أهل الإيمان ( إن الشيطان لكم عدو فإتخذوه عدوا) فهو في حرز منه ومن شياطين الإنس وأمن وذمة كمستجير من عدوه الذي في حماه بقصر ذي حرس وعسس.
فلا تعجز أبدا أن تملأ ميزانك بين تغليسة ليل وإسفار صبح بكلمة " الحمد لله " فاتحة الفاتحة تختم بها كل عمل وتبدأ بها كل صلاة موقنا بها قلبك إلا وسوسة شيطان لا تأبه لها متحركا بها لسانك ترطبه يوما بعد يوم ولك أن تمتحن رطابة لسانك في مواضع الغضب والحزن والمصيبة والمفاجأة وشدة الفرح فإن سبقت منك حسنى الكلمة الطيبة حمدا وشكرا وتسبيحا وتهليلا وتكبيرا وحسبلة وحوقلة وبسملة فبها ونعمت وإن كانت الأخرى في تلك المواضع فعد الطبيب القرآني يصف لك الدواء" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".
فإن قال لك الشيطان : كيف تملأ ميزانك في اليوم الواحد أكثر من مرة؟ هل يعقل ذاك؟
قل له أحد كلمتين : إما أن خزائن الله سبحانه ملأى بالخير مترعة ومكاييل الوزن المادي إنما تنطبق على الماديات أما الغيبيات فلها مكاييلها التي لا تكنه عقولنا الحسيرة سرها أو أن الله سبحانه أكبر وأغنى وأكثر من أن يملأ ميزان عبد ثم لا يتجدد ميزانه لكسب خير جديد.
أما إن قال لك : كيف يكون القرآن الكريم جامع الذكر؟
قل له : لأنه حوى كل منابع الذكر فإن كان الذكر بالقلب عرض عليه قصة قارون وأصحاب الجنة وإن كان الذكر باللسان عرض عليه كل ما يمكن أن يتحرك به اللسان من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وحسبلة وحوقلة وبسملة والإستغفار والصلاة والسلام على محمد عليه الصلاة والسلام وإن كان الذكر بالعمل دله إلى أبواب الخير وإن كان الذكر بالتفكر أفاض عليه من مشاهد الكون وآيات الجلال والجمال والكمال ما يجعله متدبرا متأملا وإن كان الذكر بالتأمل العقلي قال له بلغة العقل ينشئ التوحيد فيه ويرعاه " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبه؟".
عليك بذكر الله سبحانه وذكر آلائه في النفس والآفاق والتاريخ وحوادث يومك ..
فإن الأرض من أطرافها تنقص ..
عليك بذاك قلبا ولسانا وحركة ..
عليك به كثيرا لئلا تغفل ..
عليك بذكر الله تؤمن نفسك من غوائل أمراض العصر النفسية من إكتئاب وكراهية وعنصرية وشحناء وحسد ويأس وبطر كما يأمن بدنك من أمراض العصر من ترف فاحش وإستهلاك محموم كافر ينتج الإسراف والتبذير ..
وأخرج مسلم عن أبي مالك عليه الرضوان أنه عليه الصلاة والسلام قال :
" الطهور شطر الإيمان والحمد تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ".
ما معنى الذكر:
قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام " أذكرني عند ربك "
وقال على لسان إخوة يوسف " تفتأ تذكر يوسف "
وقال على لسان قوم إبراهيم " سمعنا فتى يذكرهم "
وقال على لسان الخضر صاحب موسى عليهما السلام " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ".
الذكر : يكون في القلب بحضور الشيء المذكور في النفس وفي اللسان بالقول. الذكر بكسر الذال من النبو والنتو والبروز ولذلك سمي بعض الشيء بالذكر بفتح الذال والمقصد هو : أن الذكر ( موضوع الموعظة ) ما يظهر في النفس فلا يختفي فيها بل يبرز عملا وقولا وحياة وحركة.
كيف يكون الذكر:
1 ــ بالقلب. قال تعالى : " وإذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول ". وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير من ملئه ".
2 ــ باللسان. قال تعالى : " وأقم الصلاة لذكري " وقال عليه الصلاة والسلام : " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ".
3 ــ بالعمل. قال تعالى : " فأذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون" وقال " إذا لقيتم فئة فأثبتوا وإذكروا الله كثيرا".
4 ــ بالتواصي والتحاض والتحارض والمشاركة الجماعية. قال تعالى " وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" وقال" وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".
5 ــ بالعقل والفؤاد. قال تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ". يكون العقل ذاكرا عندما يتبع المنهج القرآني القائم على النظر وإعتماد البرهان وتجاهل الخرافة وعلى طلب العلم بدليله الشافي وإجراء المقارنات والمقابلات وتحرير الإنسان بالإرادة وتكريمه بالحرية " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ". ولا يمنع ذلك من إشتراك العقل والقلب في تحصيل الإيمان إذ قال سبحانه " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ". لإن الإنسان وحدة واحدة لا تقبل التجزئة.
ذكر الله حال لحياة المؤمن وليس مناسبة خشوع معزولة.
1 ــ أعظم الذكر طرا مطلقا : القرآن الكريم. قال تعالى :" إنا نحن نزلنا الذكر" وقال " ولقد يسرنا القرآن للذكر". وقال سبحانه في موضع آخر " وإنه لذكر لك ولقومك " وقال " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم". ذكر القرآن يكون بتجديد الإيمان وبالتلاوة وبطلب العلم والفقه فيه وبالإهتداء بهديه تقديما لما قدم وتأخيرا لما أخر وبالدعوة إليه وأعلى مقام في ذلك هو " خيركم من تعلم القرآن وعلمه". تعلم حرفه وحده ثم علم حرفه وحده.
2 ــ الصلاة آمن مرفإ للذكر وأخصب محطة له. قال تعالى " وأقم الصلاة لذكري " أي لأجل ذكري. والعبادة الموقوفة عامة.
3 ــ الذكر أدبار السجود. قال تعالى " فإذا قضيتم الصلاة فأذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم". ( معقبات الصلاة).
4 ــ الذكر بمناسبة :
أ ــ مناسبة الغدو و الآصال. قال تعالى " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون".( أذكار الصباح والمساء).
ب ــ مناسبات طبيعية مناخية ( صلوات الضحى والكسوف والخسوف ـ هبوب الريح ـ بزوغ البدر ـ نزول الغيث إلخ..).
ج ــ مناسبات زمانية ( صلوات العيدين ـ أيام التشريق " الأيام المعلومات " ـ رمضان وعشراه الأواخر وذو الحجة وعشراه الأوائل ).
د ــ مناسبات عائلية ( النكاح ـ هبة الولد ـ المرض والمصيبة والموت ـ فوز ونجاح إلخ ...).
ه ــ مناسبات إجتماعية ( تبادل تهنئة وتعزية ـ لقاء مبتلى في بدنه أو عقله أو ماله ـ إلخ ..).
و ــ مناسبات مالية ( الصيد " إذكروا إسم الله عليه " ـ ).
ز ــ مناسبات حربية وعسكرية " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فأثبتوا وإذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون".
ح ــ مناسبات فنية ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وإنتصروا من بعدما ظلموا".
ط ــ مناسبات يومية لا تحصى في كل واحدة منها سنة من سنن محمد عليه الصلاة والسلام فيما عرف بالأذكار في مناسبات مختلفة ( اليقظة ـ لبس الثوب ـ الأكل والشرب ـ الخروج والدخول ـ المعاشرة ـ الغضب والفرح ـ اللقاء ـ النوم إلخ ..).
5 ــ التفكر في ملكوت الله سبحانه.
أ ــ التفكر في الخلق الكوني. قال تعالى " إن في خلق السموات والأرض وإختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون". ذكر السماء والأرض في هذه الآية مرات ثلاث ليقول بأن الإنسان يعيش فوق مسرح معرض كوني واسع رحب سقفه السماء وأديمه الأرض وما بينهما موضوع له بغرضي : التفكر والتسخير.
ب ــ التفكر في الخلق البشري. قال تعالى " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون".
ج ــ التفكر في قانون الزوجية وسنة التعدد. قال تعالى " ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
د ــ التفكر في عجائب قدرة الرحمان سبحانه وبدائع صنع الخلاق. قال تعالى " إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده" وقال " كل شيء هالك إلا وجهه".
ه ــ التفكر في عبادة الكون لربه كرها. قال تعالى " يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته".
و ــ التفكر في التاريخ وقصصه. قال تعالى " قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فأنظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
6 ــ أذكار بغير مناسبة :
أ ــ تجديد التوبة ( ندما في القلب وعقدا لعزيمة الإقلاع مرة بعد مرة ولو عاد ألف مرة ومرة وإستغفارا باللسان وإتباع السيئة حسنة لتمحوها ورد المظالم لأصحابها قدر المستطاع ).
ب ــ الدعاء الذي هو مخ العبادة وهو بغير مناسبة يتقي الإنسان به مصارع السوء وينشد الخلاص من مطبات مهلكة ومن أسباب ذلك دعاء الله في الرخاء وذكره في السعة ليذكرك في الشدة ولا يمنع ذلك من الإلحاح في الدعاء زمن العسرة إتساء بذي النون عليه السلام " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وتأدبا بأدب أيوب عليه السلام " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وليس بين ذلك وبين هديه عليه الصلاة والسلام في سؤال ربه حتى شراك نعله .. من تعارض إذ يسأل الله كل شيء ولكن بأدب النبوة " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
أغراض ومقاصد الذكر :
1 ــ شكر ولي النعمة على نعمائه والواهب على هبته. قال تعالى " فإذكروني أذكركم وأشكروا لي ولا تكفرون" معناها أن الذاكر شاكر وأن الغافل كافر فإن غفل إعراضا فهو كافر ملة وإن غفل لهوا فهو كافر نعمة.
2 ــ التوبة. قال تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فإستغفروا لذنوبهم".
3 ــ التدبر لكسب أمرين ( تجديد الإيمان و تسخير الكون ). قال تعالى " أفلا يتدبرون القرآن" وقال " إنما يستجيب الذين يسمعون". وقال " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان " وقال " وعلم آدم الأسماء كلها" وقال " لتعلموا عدد السنين والحساب ".
4 ــ تغذية القلب بقوته المناسب طردا للغفلة وهيمنة الشيطان. قال تعالى " ولا تكن من الغافلين " وقال " إنما يريد الشيطان أن يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ".
5 ــ تحصيل الطمأنينة اللازمة لتذوق حلاوة الإيمان والسكينة المطلوبة لإستواء الشخصية النفسية. قال تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
6 ــ تحصيل الخشوع الصارف عن إقتراف المعاصي سيما من كبائر الذنب. قال تعالى " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ".
7 ــ تهيئة العقل لكسب العلم النافع المفيد. قال تعالى " فأسألوا أهل الذكر " وقال " حتى أحدث لك منه ذكرا " وقال " وإذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ".
من أولى بالذكر : فقير يذكر بصبره أم غني يذكر بشكره؟
صاحب السؤال أحول دون ريب بسبب تصوره أن الكون إنما يعمره الأغنياء الموسرون فحسب أو الفقراء أما إجتماعهم إبتلاء وإختلافا وتدافعا فلا تبصره العين الحولاء. قل لي : من أولى بالتسبيح : الحصاة الصغيرة التي لا تبصر حتى بأدق المجاهر العصرية أم الصخرة الصماء التي تبني جبلا شامخا شاهقا؟ إذا كانتا في التسبيح سواء " وإن من شيء إلا يسبح بحمده" فإن الإنسان ذكرا كان أم أنثى وفقيرا أم غنيا وحاكما أم محكوما وأسود أم أبيض .. هو الأولى بالذكر صبرا هنا وشكرا هناك ولعله أقدر على الذكر صبرا منه شكرا ولكن ليس له أن يركل الدنيا بزينتها بقدمه متذرعا بذاك فإن كان ذاكرا بالشكر في موضع الصبر كان من صنف الصديقين والأبرار ولكنه مقام المقربين لا يطأه من هب ودب.
ماهي أمارات الذاكر وعلامات الغافل؟
لعلنا نكون في زمن يندر فيه جدا أن يشار إلى ذاكر فيكون كذلك أو إلى غافل فيكون كذلك. قال عليه الصلاة والسلام " رب أشعث أغبر لا يؤبه له تتدافعه الأيدي لو أقسم على الله لأبره". كما أخبرنا بأن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة : مجاهد ومنفق وعالم بسبب الرياء الأكبر والعياذ بالله. ومن أجود ما قال الصالحون : لا تحقرن من الناس ( من أهل القبلة ) أحدا فلعل الله وضع فيه ولايته ( ولاية حددها الوحي المعصوم : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون : الذين آمنوا وكانوا يتقون )... ولا من العمل كذلك صالحا وسيئا ناظرا إلى الملك الذي تطيعه فلا تعصيه لا إلى سعر العمل.
أما الأمارات الظاهرة وهي حسبنا من هذه الدنيا حيال بعضنا بعضنا وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فمنها هذا المشهد النبوي في الذكر. أخرج مسلم عن عائشة عليها الرضوان أنه خرج ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذات ليلة فأتبعته وهو لا يعلم لعله يأتي بعض نسائه فإذا هو في البقيع يستغفر لأهله ( أهل البقيع من شهداء أحد ) فقالت في نفسها : أنت في حاجة ربك وأنا في حاجة الدنيا .. إلى آخر الحديث الطويل.
ومن أمارات الذاكر تواضعه للضعفة وحدبه عليهم وخفض جناحه للمؤمنين عامة وعدم ركونه إلى الذين ظلموا. جاءه عليه الصلاة والسلام رجل يطلب مرافقته في الجنة فقال له : أعني على نفسك بكثرة السجود وقال له آخر: أجد في قلبي قسوة فقال له : إمسح على رؤوس اليتامى.
ومن أمارات الذاكر كثرة الإستغفار وكثرة ذكر هازم اللذات ومفرق الجماعات ( الموت ) وسروره بحسنته وحزنه لسيئته ورؤيته لمعصيته مهما دقت وصغرت جبلا يوشك أن ينهد عليه وحرصه على الخلق الحسن مع الناس كافة " ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويعرف لعالمنا حقه "... ومن أمارات الذاكر عصمته من أمارات النفاق الكبرى ( إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان وإذا خاصم فجر )... ومن هداياه : توفيقه إلى المغيبات : الإسم الأعظم يدعو به فيجاب وليلة القدر يحييها وساعة يوم الجمعة يكون فيها من الساجدين المتضرعين ...
الحد الأدنى من الذكر لطرد ضده من الغفلة :
قال عليه الصلاة والسلام : " من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من المكثرين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين". الحد الأدنى من ذلك القيام هو : صلاة العشاء وصلاة الفجر ( البردين ) ولا حدا أقصى له " قم الليل إلا قليلا نصفه أو إنقص منه قليلا أو زد عليه ". وقد تقوم كل ليلة بمائة آية فتكون من المكثرين وقد تقوم بألف آية فتكون من المقنطرين ولا يكلفك ذلك تجاوز الجزئين الأخيرين إلا قليلا جدا.
الذكر عبادة الرجال والنساء :
قال تعالى " .. والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما". أم نعد عمل المرأة في بيتها صناعة للإنسان الجديد بأمر ربها سبحانه مادة ومعنى .. مسألة لا علاقة لها بالذكر؟ بل هي من تصنع الذاكر وتربي الشاكر وتنشئ الصابر.
عدوان للذكر لدودان : المرض المقعد والشغل اللاهث.
قال عليه الصلاة والسلام " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ". كل من يفهم الحديث الفهم الإيجابي المطلوب والمقصود منه عليه الصلاة والسلام يدرك أنه عليه الصلاة والسلام يحذرنا من أمرين ويحرضنا على أمرين. يحذرنا من إهمال المطلب البدني غذاء وراحة وحركة ومن اللهث في طلب الدنيا لئلا يكون الإنسان لها عبدا وهو مخلوق لتكون هي له عبدا ويحرضنا على أمرين : إعداد بدن على البلاء صابر مؤهل للعبادة والعمارة والخلافة وطلب الدنيا طلبا متوازنا يكون فيه الإنسان سيدا وتكون فيه الدنيا عبدا مسخرا وليس العكس. من فرط في صحته البدنية ولو بسبب التدخين مثلا لن يكون ذاكرا كثيرا لأن الذكر خلجة قلب حي وحركة لسان رطب وعمل جارحة قوية غنية وكذا من فرط في حسن تنظيم وقته وحياته فكان منخرما لصالح العبادة على حساب العمارة أو لصالح العمارة على حساب العبادة فلن يكون ذاكرا كثيرا لأن الذكر عمل صالح يبعث عليه قلب صالح ولسان صالح. قد ينشئ المرض المقعد في النفس يأسا يحجب عن الذكر أو ينفث في الذكر دخن القنوط وقد ينشئ الشغل اللاهث فيها غرورا ( يسمى قديما : طول الأمل ) يحجب عن الذكر أو ينفث فيه سم العجب.
خلاصة الذكر : عسل مصفى.
1 ــ الذكر أكبر شيء. قال تعالى " ولذكر الله أكبر". أكبر من كل قول وعقيدة وعمل لأنه يؤسس الإيمان الصحيح السليم يفطره من مظانه فطرا فلا تقليد فيه ولا إمعية بل برهان وأمارة ولأنه ينضح القلب من شوائب النفاق السلوكي ـ فضلا عن الإعتقادي ـ نضحا ويطهره تطهيرا " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ولأنه يطيب اللسان كما يطيب العطر الثياب ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لمن جاءه يسأله عن عمل خاتم حافظ " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله ".
2 ــ الذكر هبة وفضل ونعمة خالصة يغدقها الله على أحب عباده إليه. قال تعالى " إنا أخلصناهم بخالصة : ذكرى الدار". الذاكر يرجو رحمة ربه ويخاف عذابه يوم يبعث عباده فهو ممن أخلصه الله بقلب حي به موصول وخصه. أخلص العمل : عمارة القلب بالدار الآخرة التي يأوي إليها كل عامل وكل عمل وذاك هو الشعور الذي يحجز عن الكبر والظلم ويبعث على العدل والإحسان.
3 ــ الذكر عادة ما تلازمة صفة الكثرة في القرآن الكريم وذلك أدل شيء على أن الذكر حال للمؤمن لا تفارقه قلبا ولسانا وعملا إلا غفلة يسيرة مكتوبة على إبن آدم لم ينج منها حتى أحب مخلوق إلى ربه محمد عليه الصلاة والسلام " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ". ولذلك نصبت لنا محطات ذكر مفروضة ( الصلاة بمعدل أربع ساعات ونيف على مدار الحياة) وهو الحد الأدنى لضمان قوت القلوب وتزويدها بالنور الذي به تستضيء وتهتدي. ولذلك كان الذكر مطلوبا بكثرة " إذكروا الله ذكرا كثيرا " وكان مطلوبا على كل حال في الحياة " قياما وقعودا وعلى جنوبهم ".
4 ــ الذكر شرف وقدر ومنزلة عليا وهو مناط الرفعة والسؤدد. قال تعالى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم". خيريتكم متعلقة به كثرة وقلة وإخلاصا وغفلة وفردا وجماعة وفقها وأماني.
وأخيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرا ...
فإن ألقى إليك الشيطان قائلا : أنى يكون الذكر بحركة اللسان التي يديرها الناس اليوم أدبار السجود أزكى عند الله وخيرا من النصر والجهاد ( تضربوا أعناقهم ) ومن الشهادة في سبيل الله ( يضربوا أعناقكم ) ومن الإنفاق عينا وقيمة(الذهب والورق ) ..؟ قل له : يكون الذكر كذلك هو الأكبر والأخلص عندما يكون جامعا بين القلب واللسان والحركة أي عندما يكون الطبيب أذكر الذاكرين وهو يجري أعقد العمليات الجراحية على مريضه ولو كان مريضه كافرا إبن كافر أو إمرأة لا يحل لها الكشف عن عورتها ولم يوجد ـ لسبب ما ـ آهل منه لذاك وعندما يكون الحاكم إماما عادلا يتحرى القسط بين الناس سياسة ومالا وإجتماعا ومنزلة للأمة بين الأمم .. أما عندما يوجل القلب فلا يتحرك اللسان أو يتحرك اللسان فلا يوجل القلب أو يكون ذاك وذلك دون حركة في الحياة .. فلا تسم ذاك ذكرا ولكن قل : هو مخدر يخدر الناس به أنفسهم أو يخدرون به.
أما إن أبصرت في نفسك أو في غيرك من يجمع بين هيمنة الشيطان عليه غواية فكرية وغرورا وإغراء سلوكيا .. وملازمة الذكر فأعلم أنه ميت من أموات الأحياء إستوى مع من يعرض عن الذكر عقلا أو لسانا وحركة .. أما عدو الشيطان من أهل الإيمان ( إن الشيطان لكم عدو فإتخذوه عدوا) فهو في حرز منه ومن شياطين الإنس وأمن وذمة كمستجير من عدوه الذي في حماه بقصر ذي حرس وعسس.
فلا تعجز أبدا أن تملأ ميزانك بين تغليسة ليل وإسفار صبح بكلمة " الحمد لله " فاتحة الفاتحة تختم بها كل عمل وتبدأ بها كل صلاة موقنا بها قلبك إلا وسوسة شيطان لا تأبه لها متحركا بها لسانك ترطبه يوما بعد يوم ولك أن تمتحن رطابة لسانك في مواضع الغضب والحزن والمصيبة والمفاجأة وشدة الفرح فإن سبقت منك حسنى الكلمة الطيبة حمدا وشكرا وتسبيحا وتهليلا وتكبيرا وحسبلة وحوقلة وبسملة فبها ونعمت وإن كانت الأخرى في تلك المواضع فعد الطبيب القرآني يصف لك الدواء" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين".
فإن قال لك الشيطان : كيف تملأ ميزانك في اليوم الواحد أكثر من مرة؟ هل يعقل ذاك؟
قل له أحد كلمتين : إما أن خزائن الله سبحانه ملأى بالخير مترعة ومكاييل الوزن المادي إنما تنطبق على الماديات أما الغيبيات فلها مكاييلها التي لا تكنه عقولنا الحسيرة سرها أو أن الله سبحانه أكبر وأغنى وأكثر من أن يملأ ميزان عبد ثم لا يتجدد ميزانه لكسب خير جديد.
أما إن قال لك : كيف يكون القرآن الكريم جامع الذكر؟
قل له : لأنه حوى كل منابع الذكر فإن كان الذكر بالقلب عرض عليه قصة قارون وأصحاب الجنة وإن كان الذكر باللسان عرض عليه كل ما يمكن أن يتحرك به اللسان من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وحسبلة وحوقلة وبسملة والإستغفار والصلاة والسلام على محمد عليه الصلاة والسلام وإن كان الذكر بالعمل دله إلى أبواب الخير وإن كان الذكر بالتفكر أفاض عليه من مشاهد الكون وآيات الجلال والجمال والكمال ما يجعله متدبرا متأملا وإن كان الذكر بالتأمل العقلي قال له بلغة العقل ينشئ التوحيد فيه ويرعاه " أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبه؟".
عليك بذكر الله سبحانه وذكر آلائه في النفس والآفاق والتاريخ وحوادث يومك ..
فإن الأرض من أطرافها تنقص ..
عليك بذاك قلبا ولسانا وحركة ..
عليك به كثيرا لئلا تغفل ..
عليك بذكر الله تؤمن نفسك من غوائل أمراض العصر النفسية من إكتئاب وكراهية وعنصرية وشحناء وحسد ويأس وبطر كما يأمن بدنك من أمراض العصر من ترف فاحش وإستهلاك محموم كافر ينتج الإسراف والتبذير ..
تعليق