الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين،نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،، أما بعد،،
فمن المنازل التي حققها الصالحون من عباد الله، منزلة الصبر؛ التي امتدحها الله تعالى في كتابه، وأمر بها، وحث عليها رسول الله
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ.. /]الآية [آل عمران:200]
وقال: ]
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
//[الزمر:10]
وقال: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
الشورى:43]
وقال تعالى عن عبده ونبيه أيوب عليه السلام: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ//][ص:44].
وقال رسول الله: { الصبر ضياء } [رواه مسلم] وقال: { من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيراً من الصبر } [متفق عليه]
وقال: { عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له } [رواه مسلم].
قال أهل العلم: الصبر نصف الإيمان، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
والصبر ثلاثة أنواع:
1- صبر على طاعة الله :
وبخاصة العبادات التي تصعب على النفوس بسبب الكسل كالصلاة، أو بسبب البخل كالزكاة، أو بسببهما جميعاً كالحج والجهاد. ولتحقيق هذا النوع العظيم من الصبر،
ينبغي على العبد بعض الوظائف المعينة والميسرة له، وهي:
* الاستعانة بالله: واعتقاد أنه تعالى هو المُصبّر للعبد. وإخلاص النية له تعالى، بأن يكون الباعث للعبد على الصبر هو محبة الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه.
* التخلص من دواعي الفتور وأسبابه، بألا يغفل عن الله ولا يتكاسل عن تحقيق الآداب والسنن فهي بمثابة المروضات للنفس، والممهدات لها لأداء الفرائض والواجبات،وبخاصة مع تعليق الفكر دائماً بأجر الصابرين الذي ادخره الله لهم.
* مراعاة أن الصبر في هذا المجال يصبح مع الوقت سهلاً تتعود النفس عليه، لأنه مع الإخلاص يتحقق بإذن الله عون الله للعبد، وتصبيره على ما كان يستثقله،
كما قال تعالى: ]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[العنكبوت:69].
فهذه الوظائف إذ قام بها العبد، فإنها كفيلة بإذن الله أن تساعده على التحلي بالصبر على طاعة الله، ولزومها والثبات عليها.
2- صبر عن معصية الله
وهو أشد ما يكون العبد حاجة إليه، وبخاصة إذا تيسرت أسباب المعصية، وغاب الرقيب من البشر. وكلما كان الفعل الممنوع مما يتيسر فعله، كمعاصي اللسان من الغيبة والكذب ونحوهما، كان الصبر عليه أثقل.
مثاله: أن ترى الإنسان إذا لبس الحرير أو الذهب استنكرت ذلك. ويغتاب أكثر نهاره، فلا تستنكر ذلك. لكن العبد لم يُترك سدى فقد حباه ربه الحليم بكل ما يصلحه، فما ترك داء يصيب عبده إلا أنزل له شفاءً، لذلك كان لهذا النوع من قلة الصبر عن المعاصي مايعالجه، ويعين الإنسان على تحقيقه. وقبل وصف علاج هذا الداء، نذكر وصفاً لحال بعض عباد الله الصالحين في صبرهم عن المعاصي، وقد توفرت لهم كل أسباب مواقعتها، لكنهم بتوفيق الله ثم بإخلاصهم لله نجوا من الوقوع فيها.
فأفضل عباد الله أنبياؤه، ففيهم القدوة
كما قال تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]
لذلك نحاول أن نرى صورة عملية لهذا النوع من الصبر الثقيل على النفس والصعب عليها، ومن خلال موقف نبي الله يوسف عليه السلام، وقد عُرضت له الفتنة وتيسرت كل أسبابها.
يقول ابن القيم رحمه الله عن موقف يوسف وعظيم صبره عليه السلام: ( وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختياره، ورضى ومحاربة للنفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شابًّا، وداعية الشباب إليها قوية، وعزبًا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا، والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوك أيضاً ليس وازعه كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص. ومع ذلك توعدته إن لم يفعل، بالسجن والصَغَار، ومع هذه الدواعي كلها، صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه ) [مدارج السالكين:2/156].
وعودة إلى الحديث عن علاج قلة الصبر عن المعاصي، فنذكر مثالاً لما يصلح علاجها لمن لم يستطع الصبر عن شهوة اتيان النساء، التي غلبته بحيث لا يملك فرجه، ولا عينه ولا قلبه وعلاجه كالتالي:
1- مواظبة الصوم، وتقليل الطعام قدر الإمكان فإن ذلك كاسر لهيجان الشهوة، مما يساعد من صبره قليل.
2- قطع الأسباب المهيجة لتلك الشهوة، فإنما تهيج بالنظر وتتحرك، فدواء ذلك كف البصر عن الوقوع على الصور المشتهاة، وما أكثر انتشارها في هذا الزمان، فإن النظر سهم مسموم من سهام إبليس. ومن أسبابه الاختلاط بالنساء، والتساهل في الحديث معهن، ومصافحتهن أو الخلوة بهن، وقطع هذا السبب بمقاطعة أماكن وجود النساء، كالأسواق، وعدم الاسترسال في الحديث معهن، واجتناب لمسهن نهائياً بمصافحة أو غيرها.
3- تسلية النفس بالمباح مما تشتهيه النفس، وهذه الشهوة لا يكسرها مثل النكاح، والقاعدة التي يجب أن يستحضرها الإنسان دائماً، هي أن كل ما يشتهيه الطبع من الحرام، ففي المباحات ما يغني عنه بحمد الله تعالى، مما يريح النفس من عناء الآثار التي تتركها المعصية في نفس العاصي أو أحواله عموماً بل الأكثر من ذلك أن العبد يؤجر على فعل المباح إذا قصد به التعفف، والابتعاد عن الحرام، وهذا من عظيم فضل الله على عباده، ييسر النعمة ويأجر عليها،
ففي حديث النبي: { وفي بضع أحدكم صدقة }. قالوا: يا رسول الله، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
قال: { أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر } [رواه مسلم].
3- صبر على ابتلاء الله وامتحانه:
بأنواع المصائب من أمراض، ونقص في الأموال والأنفس، وهذا كله مما لا كسب للإنسان، بل فعل الله بالعبد امتحاناً وتمحيصاً وتطهيراً. والصبر على هذا النوع من المقدورات من أعلى المقامات، لأن سنده اليقين في ثواب الله، وحسن عوضه، وأنه أرحم الراحمين لا يفعل ذلك بعبده إلا لحكمة يعلمها، وإلا لمصلحة ذلك العبد إما عاجلاً أو آجلاً. وما دامت هذه الابتلاءات ليست من كسب العبد، ولا حيلة له فيها أو معها، فالأفضل له الصبر عليها، واحتساب مشقتها على الله تعالى. والنصوص في فضل هذا النوع من الصبر كثيرة، ومواقف الصالحين من عباد الله في هذا الخصوص عديدة دالة على عظم يقينهم في وعد الله، وانتظارهم ثوابه جل وعلا.
فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: { ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها } [متفق عليه].
ومن حديث سعد بن أبي وقاص قال: قلت: يارسول الله
أي الناس أشد بلاءً؟ قال: { الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل من الناس، يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض، وليس عليه خطيئة} [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
ومن المواقف التي تؤنس العبد، ما يروى من سيرة بعض العلماء والصالحين، فقد روى ثابت البناني قال: ( مات عبد الله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة، وقد أدهن فغضبوا وقالوا: يموت عبد الله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهناً؟ قال: أفأستكين لها، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إليّ من الدنيا ومافيها،
ثم تلا قوله تعالى:" الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ" [البقرة،157:156].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( من إجلال ومعرفة حقه، ألا تشكو وجعك، ولا تذكر مصيبتك ).
وقال رجل للإمام أحمد رحمه الله: كيف تجدك يا أبا عبد الله؟ قال: بخير في عافية، فقال له: حممت (أي أصبت بالحمى) البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، ولا تخرجني إلى ما أكره.
وعن هشام بن عروة قال: سقط أخي محمد وأمه بنت الحكيم بن العاص من أعلى سطح في اصطبل الوليد، فضربته الدواب بقوائمها فقتلته، فأتى عروة رجل يعزيه، فقال: إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها، قال: بل أعزيك بمحمد ابنك قال: وما له؟ فأخبره: فقال: اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء. فلما قدم المدينة أتاه ابن المنكدر، فقال: كيف كنت؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ) [السير:4/434].
فلتحصيل هذه المنزلة العظيمة، منزلة الصبر بجميع أنواعه، فليشمر المشمرون، للدخول في زمرة عباد الله المخلصين.. الأنبياء، والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
طرق تحقيق منزلة الصبر لما لهذه المنزلة من المكانة في الدين، ولما غلب على سلف هذه الأمة، علمائها وصالحيها، من التحلي بها والتواصي بها، يجدر أن نتعرف على الأسباب المعينة على التحلي بالصبر، لأنه دواء لكثير من العلل والأمراض النفسية بل والعضوية كذلك. ولكنه دواءاً احتاج إلى قوة في النفس والإرادة لتحمله، لأنه محتف بمرارة الدواء، وكذلك يشق على كثير من الناس، إلا من وفقه الله تعالى. فالصبر من الأدوية التي أنزلها الله تعالى لكثير الأدواء، وقدر به الشفاء، وهو وإن كان شاقاً كما سبق فإن تحصيله يمكن إذا تحقق أمران هما العلم والعمل.
فهذه الأشياء الثلاثة تجمع العلم والعمل، العلم بالوسائل المشروعة، والطرق الشرعية بتهذيب النفس، والعمل على تحقيق تلك الوسائل، وبذلك يستعان - بعد الله تعالى - على تحمل الصبر، وفيه تحقيق حسنيين
هما:
1- طاعة الله بالصبر على المكاره
والتكاليف وبالصبر عن المعاصي.
2-ثواب الله الذي ذكره في كتابه بقوله
:إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ[الزمر:10]، وقوله: "وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل:96].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعليق