سياحة روحية في الصحة والمرض "حوار"
حاوره وقدم له/ د. ناجح إبراهيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
مرض "د/ ياسر برهامي" وأجرى عملية جراحية في حلقه، أجبرته على أن يمكث في فراشه بعيدًا عن دعوته ومرضاه وأحبته قرابة عشرة أيام، وقد عدته في مرضه بعد أن تحسنت حالته نسبيًّا، ووجدتها فرصة ثمينة للتحدث معه في قضايا إيمانية إنسانية حول الصحة والمرض والأسرة والدعوة إلى الله، بعيدًا عن السياسة وهمومها وخلافاتها التي لا تنتهي والتي تقسي القلوب.
تحدثت إليه مع "الشيخ رفعت محمد حسن" ذلك الجندي المجهول، والذي لا أطلبه في معروف أو خير إلا ووجدته أول الملبين. وكذلك كان معي في هذه العيادة لـ"الدكتور ياسر" الأخ الحبيب صانع المعروف الأخ "محمد حسني"، والذي قام بتسجيل هذا الحوار وتفريغه، مع ضيف كريم كان عند "د. ياسر".
مكثنا الأربعة نتحدث حديثًا وديًّا صافيًا، فما أجمل الحديث عن المعاني الإيمانية في الحياة كلها! وخاصة في حالة المرض؛ حيث لا ينفك الإنسان مهما كانت عافيته وصحته أن يزوره المرض والألم بين الحين والآخر؛ فهناك تقصير في الكتابة الحديثة عن المرض وحكمته، وكيف يتعامل معه المريض؟ وكيف يزيده المرض إيمانًا ولا يصيبه بالإحباط واليأس؟ ويا ليت عيادة المريض تعود كما كانت من قبل؛ ففيها العطف والمواساة والأُخوة والسند المعنوي للمريض، ويا ليت الإخوة يعودون كما كانوا يزورون المرضى في المستشفيات بانتظام، يعطون هذا شيكولاته وهذا وردة، وهذا كذا وهذا كذا؛ فكل هذا غاب عن دنيا الدعوة الآن.
والكل يحتج اليوم بتقصيره في كثير من واجبات الدعوة على شماعة التضييق الحكومي، وما علم هؤلاء أن الدعوة إلى الله أكبر بكثير من خطبة في مسجد أو مؤتمر عام، وإن كانت هذه هي أشهر وسائلها فليس بالضرورة أن تكون أقوى وسائلها فاعلية وأثرًا في نفوس الناس.
والآن مع هذا اللقاء الإيماني مع "د. ياسر برهامي"، ونبدأ بسؤاله:
- ماذا كان بك من مرض؟ أرجو أن تشرح ذلك للقراء.
لقد كنت لا أستطيع أن آخذ نفسي بسهولة أثناء النوم، وكان ذلك يؤدى إلى نقص "الأوكسجين" وإلى ارتفاع في ضغط الدم، وشعور مستمر بالإرهاق، ورغبة شديدة في النوم والتعب من أقل مجهود.
وقد تبين بالفحص أن السبب في ذلك كله هو تضخم في حجم اللهاة، وكذلك ارتخاء في سقف الحلق؛ مما استلزم إجراء عملية جراحية لإزالة اللوزتين، وتصغير حجم اللهاة، ومعالجة الارتخاء في سقف الحلق، وذلك باستخدام الليزر، وهذه العملية صعبة للغاية، وتعقبها آلام شديدة جدًا جدًا.
- ولكن ما هي مشاعرك الإنسانية قبل أن تدخل غرفه العمليات مباشرة؟ وأنا أريدك هنا أن تحدثني كإنسان وليس كداعية.
بلا شك أن أهم موضوع فكرت فيه بقوة هو تذكري للموت في هذه اللحظات، وهل يمكن أن أستيقظ لأجد نفسي في يوم القيامة؟ أم أنني سأُعطى فرصة أخرى في الحياة؟!
وفى تقديري أن تجربة التخدير هي تجربة نادرة وأنا أشبهها بالموت الأصغر، وهو أقوى من النوم الذي يُعتبر أيضًا موتة صغرى، ولا يدري الإنسان هل يعود من التخدير إلى الحياة مرة أخرى؟ أم أنه سيصحو ليجد نفسه في يوم القيامة."
التخدير هي تجربة نادرة ولا يدري الإنسان هل يعود من التخدير إلى الحياة مرة أخرى؟ أم أنه سيصحو ليجد نفسه في يوم القيامة
"
- ولكن ما الذي كان يشغلك بقوة في هذه اللحظات الحساسة في حياة كل إنسان؟
كان يتنازعني أمران: أحدهما: التفكير بقوة في العالم الآخر، وكيف ألقى الله؟ وماذا سيكون موقفي بين يديه سبحانه؟ وكيف سيكون الحساب؟
وفى الوقت نفسه وكإنسان من البشر أجد أنني أفكر رغمًا عني في أسرتي وأولادي، وكيف سيكون حالهم من بعدي؟ وهل سيظلون على الجادة والصلاح من بعدي أم لا؟
والتفكير في الأسرة والأولاد في هذه اللحظات هو أمر بَشَري لا حيلة للإنسان فيه، والداعية في أول الأمر وآخره هو بشر؛ ولكنه بشر يحمل رسالة الإسلام للناس، ويحمل نفسه قبل ذلك على هذه الرسالة.
- هل الداعية كبشر في هذه اللحظات الحرجة يتنازعه شعوران مختلفان: أولها: التفكير في الآخرة والجنة، وفى نفس اللحظات يفكر رغمًا عنه في أولاده وأسرته؟
نعم الداعية بشر كسائر البشر ولذلك يتنازعه الشعوران معًا، ولكنه يقاوم رغبته في التفكير في أسرته وأولاده من بعده، وهذه الرغبة تزيد مع زيادة العمر والسن، ولو ترك نفسه لهذا التفكير قد يشغله عن الطريق إلى الله بدرجة ما.
وعليه أن يستحضر في هذا الوقت أن الله سبحانه هو الذي يحفظ أولاده وأسرته من بعده، وأنه مجرد سبب فقط، وعليه أيضًا أن يعيش بقلبه مع كلمات أبي بكر الصديق العظيمة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". فالعبد من أمثالنا سيموت لا محالة إن عاجلاً أو آجلاً مهما كان شأنه، ومن توكل على وجود عبد فقير فليعلم أنه ميت لا محالة.
أما من توكل على الله وعاش مع قوله تعالى: (فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين) (يوسف:64) فهو المطمئن حقيقة ولا يشغله شيء سوى مرضاة الله وحده.
وهذا نبي الله يوسف -عليه السلام- قد حفظه الله في غياب والده يعقوب -عليه السلام- أكثر مما حفظه أبوه مع وجوده وحضوره؛ ففي وجود والده ورغم حرصه عليه وحَدَبه عليه إلا أنه اختطف من أشقائه، وألقي في البئر وبِيع بثمن بخس دراهم معدودة.
وفى غياب والده وفى غربته ووحدته رفع الله شأنه وجعله عزيزًا لمصر؛ فحينما كان مع والده كان حوله عشرة مِن مَن يريدون أذاه وهم أشقاؤه، وهم الذين حسدوه وألقوه في البئر.
- كيف يكونون أعداءه وهم أشقاؤه؟
كانوا في صورة الأشقاء؛ ولكن الحسد حولهم إلى أعداء في الحقيقة، ورغم أن والده سيدنا يعقوب كان معه ولم يتركه لحظة وكان يقول: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13). إلا أنه اختطف وقالوا له: لقد أكله الذئب.
فقد كان يعقوب يخاف على يوسف من مجرد الذهاب لِلَّعِب والنزهة مع أشقائه، ورغم ذلك لم يستطع أن يحفظه، ولكن الله حفظه بعد ذلك رغم غربته وصغره وذهابه إلى بلادٍ بعيدة لا يعرفها، وبعيدًا عن أسرته كلها.
يتبع
تعليق