مقدمة
الحمد لله رب العالمين , نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليّاً مرشداً والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين سيدنا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
فإن الحديث عن الإيمان حديث ذو شجون , وله طعم خاص , حديث يأخذك إلى سمو المعرفة , وعلو المكانة .
تسمعه .. فتشعر أن كل أطراف الجسد تلتف حول قائدها وهو القلب ذلك أنه محل النية ومنطلق الإيمان .
تسمعه .. فتعجز أن تمنع دموع عينيك من الإنهمار , وأعضاء بدنك من الإرتجاف , وحنين فؤادك من الإشتياق .
ذلك أن الحديث عن الإيمان إنما هو حديث عن الصلة التي بين العبد وربه جل وعلا , وماهيّة تلك الصلة , ومدى استمراريتها , وماهي طرق توثيقها .
نعم .. كم نحن في حاجة للكلام عن الإيمان في قلوبنا , وما مدى أثره على أقوالنا وأعمالنا ومشاعرنا ومعاملاتنا وعلاقاتنا .
ذلكم الإيمان .. الذي يرقى بصاحبه أعلى القمم , ويبني له ما تحدثت به الهمم , وينزهه عن كل سفول ودنو ولمم .
وهنا .. سأتحدث عن كيف نجدد الإيمان في قلوبنا , ماراً بمجموعة من الأسباب التي تعين المؤمن على تقوية إيمانه بربه تعالى وتوثيق صلته به . والله أسأل التوفيق والسداد .
أولاً .. لماذا الحديث عن أسباب تجديد الإيمان .
إن الحديث عن تجديد الإيمان ينطلق من مجموعة من المسببات التي تجعلنا نتحدث عنها ومنها مايلي :-
1/ أن تجديد الإيمان في القلوب والنفوس، وتوثيق الصلة بالله - تعالى -، أمر جاءت به نصوص الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136].
وجاء في الحديث عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فاسألوا الله تعالى: أن يجدد الإيمان في قلوبكم". [روه الحاكم والطبراني وصححه الألباني].
2/ أن الناس –إلا من رحم الله- في بعد عن ربهم , وجفاء مع خالقهم , وتمرد على أوامره ونواهيه , لما جعلوا الدنيا هدفاً لمنافاستهم , والدون مرتعاً لهمومهم وأمانيهم , والمال واللذة والولد والشهوة أهدافاً يسعون لتحقيقها . وقد غفلوا عن الغاية التي خلقوا من أجلها وهي تحقيق العبادة لله جل وعلا قال تعالى : "(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56] , وغفلوا عن ذكره وشكره وحسن عبادته , فهجروا الإنابة والتبتل , والبكاء والتضرع , والدعاء والإلحاح فيه –والله المستعان- وقد حث اللهُ نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكلَّ مؤمن من بعده -أن يذكره -سبحانه-، وأن ينقطعَ إليه انقطاعًا تامًّا، وألا يشغله غيرُه عنه، فقال مخاطبًا إياه: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)[المزمل: 8].
قال ابن كثير -رحمه الله-: \"أي: أكثِرْ من ذِكره، وانقطع إليه، وتفرَّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك" , وقال ابن سعدي - رحمه الله -: "أي: انقطع إلى الله تعالى؛ فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرِّب إليه ويُدْنِي من رضاه "[2].
3/ نتحدث عن تجديد الإيمان في القلوب لأن القلوب قست , والأخلاق تدنت , والعلاقات بردت , والفواحش انتشرت , والآثام طغت , كل ذلك لمّا ابتعدت القلوب عن علّام الغيوب , ونأت الأفهام عن التدبر في آيات الواحد العلّام , (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)الروم 30 , فالإيمان سبب في لين القلوب ورفعة الأخلاق وصدق العلاقات في مابين العبد وربه وبين العبد ونفسه وبين العبد والآخرين , وهو سبب أيضاً في دحر الشر , ورفع الظلم , ومحاربة الشرور والفساد بكل صوره .
4/ ومن الأسباب التي جعلتنا نتحدث عن هذا الموضوع المهم وهو تجديد الإيمان في القلوب ... أن الفتن والابتلاءات التي تحيط بنا من كل مكان لها أثر على القلب , فقد تكون سبباً في تشاؤمه وقنوطه , أو في ضعفه وشروده , أو في انتكاسته وموته .
نعوذ بالله من الحور بعد الكور , لذلك فقد سأل الحبيب عليه الصلاة والسلام ربه الثبات على الحق عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقول " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ , فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ , إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" رواه الترمذي .
5/ ومن الأسباب أيضاً عزوف المؤمن عن محاضن الإيمان التي تعيده إلى سابق إيمانه وتذكره بجميل فطرته , وابتعاده أيضاً عن الصحب الأوائل الذين كانوا يذكرونه بالله ويحفزونه للمضي قدماً نحو طريق " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)" الفاتحة , وعدم محاكاته مجدداً للقدوات الذين كان يحاكي سيرهم ويقتدي بنهجهم , إما بشغل دنيوي أو كبر وتعالي على المنهج والقدوات والأصحاب أو بسذاجة وجهل –ولله المشتكى- فضعف إيمانه وقسى قلبه لما استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير .
تعليق