Tweet
الحكم الخفية
الحكم الخفية
حكى الشيخ الطنطاوي رحمه الله عن صديق له كانت له رحلة عمل بالطائرة ذهب إلى المطار قبل الوقت وجلس في صالة الانتظار
كان شديد التعب مرهقاً غالبه النعاس وغلبه فغفت عينيه ولم يتيقظ إلا بعد إقلاع الطائرة .. حزن الرجل على فوات الطائرة
وتعطل أعماله والخسائر المترتبة على ذلك ..
قال تعالى: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق 1] .
وما هي إلا دقائق قليلة إلا جاء الخبر أن الطائرة قد احترقت وتحطمت ومات جميع ركابها ..
فعلم الرجل أن هذا من حكم الله الخفية .. وأن اختيار الله له أفضل من اختياره ...
قال تعالى: ﴿لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور 11 ] .
يقول جنيد بن أحمد الطبري:
العبد ذو ضجر والرب ذو قدر .. والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمـع في اختيار خالقنا .. وفى اختيار سـواه اللوم والشوم
سجن ابن تيمية رحمه الله فألف كل فتاويه وهو في السجن .. وألف السرخسى رحمه الله خمسة عشر مجلداً وهو محبوس .. وسجن يوسف عليه السلام سنين ليخرجه الله ويجعله على خزائن الأرض .
ألقى موسى عليه السلام في البحر هرباً من بطش فرعون وجنوده فاستقر به المقام بدار فرعون وتربى فيه .. وألقى يوسف عليه السلام في بئر مهجورة فالتقطه المارة واشتراه عزيز مصر ليتربى بين جنبات قصره .
يقول المتنبي:
لعـل عتبك محمـود عواقبه وربمـا صحت الأجسـام بالعلل
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي بعض القــوم بالنعم
عليك بالرضا بقضاء الله والتسليم لأمره في المسرة والمضرة .. فرب أمر محمود محبوب فى طي أمر مكروه ..
ورب أمر مكروه مبغوض في طي أمر محبوب ممدوح ..
قال على بن أبى طالب رضي الله عنه: «إنك إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور .. وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم ،
فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط)
[الألباني صحيح الترغيب 3407 عن أنس بن مالك] .
فمن رضي باختيار الله له أصابه القدر وهو حامد شاكر مأجور ومن تسخط أصابه القدر وهو مذموم منبوذ مأزور ..
قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة 216].
قال الحسن رحمه الله : «لا تكرهوا البلايا الواقعة والنقمات الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك».
من ترك اختياره لاختيار الله لم يتمنى أفضل مما اختاره الله له ..
وقال عامر بن قيس: «أحببتُ الله حباً هوَّن عليَّ كلَّ مصيبة، ورضَّاني بكل بليَّة، فلا أُبالي مع حبي إياه علام أصبحت وعلام أمسيت» .
وقال أبو سعيد الضرير :
ربَّ أمـرٍ تتقيه جرَّ أمـراً ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
قال تعالى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء 19].
قد يأتي المكروه بالمحبوب .. وقد يأتي المحبوب بالمكروه ..
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره» ...
فعيوننا لا تدرك إلا ظواهر الأمور وقساوتها .. وقد أودع الله في بواطنها اللطف والرحمة .
فلا تطمئن وتأمن أن تأتيك المضرة من جانب المسرة ولا تيأس وتقنط أن تأتيك المسرة من جانب المضرة ..
فعواقب الأمور علمها عند الله .. والله يعلم وأنتم لا تعلمون ...
فرب ضارة نافعة .. ورب محنة أورثت منحة فتكون من حكم الله الخفية ، واللطائف التي لا يعلم كنهها إلا هو سبحانه وتعالى .. فالأمور تمضى بقدر الله .. ولا ينفك لطف الله عن قدره .. وهو أرحم بعباده من الأم بولدها .
قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [ الطور 48] .
اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين بقضائك وقدرك .. الموقنين بحكمك وعدلك .. الراضين باختيارك .. المُسَلِمِين لأمرك ومشيئتك .
تعليق