النظرة الثاقبة (1)
خالد أبو شادي
فضل التفكر
هي عبادة جليلة وجرعة ثمينة ذات شأن عظيم، إلا أنها للأسف ضمرت واضمحلَّت في هذا الزمان، حتى كادت تُنسى وسط زحمة الحياة المضطربة، وذلك على الرغم من نجاحها في العلاج، وقوتها في التأثير، لكنها تحتاج إلى سكينة نفس قد لا يملكها الكثيرون، وفراغ وقتي وعقلي ورُقي روحي يشكو من ندرته المشغولون، وما أقل من اعتبر، وما أندر من اتعظ وادَّكر.
واسمعوا قول أطباء القلوب: قال ابن القيم وهو يتكلم عن:
"فضل التفكر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له؛ حتى قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة، فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الاخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور، وبالجملة؛ فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة". ولأثره الناجح في علاج القلب من أدوائه جزم ابن عطاء: "ما نفع القلبَ مثل عُزلة يدخل بها ميدان فكرة".
وتابعهما الغزالي في سرد فضائل التفكر والإشادة به فقال: "ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورُتْبَتَه؛ لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ومورده ومجراه ومسرحه وطريقه وكيفيته".اللهم لا تجعلنا من أكثر هؤلاء الناس ونحن لا نعلم!!
ولدوره العظيم ومكانته الرفيعة بين سائر العبادات؛ جعله سعيد بن المسيب هو العبادة. قال مالك: سمعت يحيى بن سعيد يقول: "أول من صلى في المسجد بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه، كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا فصلوا إلى العصر"، فقيل لسعيد بن المسيب: "لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء"، فقال سعيد: "ليست العبادة بكثرة الصلاة ولا الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله".وسبب آخر لشرف التفكر وفضله، وهو قول الإمام ابن القيم: "لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح، فكان عمله أشرف من عمل الجوارح". فلكل عضو من أعضاء الجسد عمل، ويقوم بدور وينشغل بوظيفة، فإن كانت عيون المتقين تبكي؛ فإن قلوبهم تتفكر. قال أبو سليمان الداراني: "عوِّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".من أجل ذلك عدَّه خامس الخلفاء ودرة الأمراء عمر بن عبد العزيز أفضل أنواع العبادات فقال: "الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة".
ولفضله كانت أكثر عبادة أبي ذر، فعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت: "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".ومن ثمرات التفكر أن الفكرة تلد الفكرة ثم الفكرة تلو الفكرة وهلم جرًا، وتوالد الأفكار بالاتفاق هو منبع الحكمة. قال الحسن: "إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم؛ فنطقت بالحكمة "، ومن كلام الشافعي: "استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة". ومن ثمراته: التوبة، لأن من تفكَّر فقد صنع مفتاحًا مباركًا يفتح به باب الرحمة الإلهية ليدخل بإذن الله ساحة الغفران مأجورًا مرحومًا، لأنه يتفكَّر في ذنوبه وجرائمه التي ارتكبها في حق نفسه وحق ربه، ويدرك عندها العواقب ويزداد يقينا بالجزاء فيبكي ويقلع ويتوب. قال سفيان بن عيينة: "التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب". لذا كانت مجالس التفكر أشهى مجالس المؤمنين وأحلى لحظات العاقلين. قال يحيى بن معاذ الرازي وقد سئل: أي مجلس أشهى و ألذ؟ قال: "الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد تُشمُّ من رائحة المعرفة وتُسقى من كأس المحبة، سبحان الله ما ألذه من مجلس! وأعذبه من شراب!".أول طريق النبوة
مع سن السابعة والثلاثين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ينطلق إلى غار حراء، بعد أن حبَّب الله تعالى إليه الخلوة فيه، فكان يخلو بنفسه شهر رمضان يتحنث، حتى فاجئه الوحي بعد ثلاث سنوات، ليلقي على قلبه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[ العلق:1]
فما هو هذا الغار؟ وأين موقعه؟ ولماذا كان اختيار الله سبحانه وتعالى له؟ وما نوع التحنث الذي كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم في الغار؟ وما هي الحكمة المستفادة والدرس العملي من وراء ذلك؟! يقع غار حراء في جبل النور، وهو غار ضيق يتسع لبضعة رجال يصلون فيه ويجلسون، وموقع الغار يشير إلى حكمة الله البالغة في اختياره، ليكون مكان خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فهو بعيد عن كفار مكة وأصنامها، وبعيد عن مجالس اللهو وإفسادها، وشواغل الدنيا وإلهائها، وضجة الحياة وصخبها، وهموم الناس الصغيرة وتفاهاتها.ومن جهة أخرى فإنه يُشرِف على الكعبة المشرَّفة؛ كأنه يربط قلب محمد صلى الله عليه وسلم بأطهر بقعة على وجه الأرض، ويأخذ به إلى عالم التوحيد الخالص لله رب العالمين من خلال عبادة التفكر، وقد حقق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الترابط الوثيق بينه وبين الكعبة، فكان أول ما يفعله بعد تركه للغار هو الطواف بالبيت، ثم يرجع إلى بيته، ليختم فترة طوافه القلبي -وهو التفكر- بطواف جسده حول الكعبة، ليجتمع له مع صفاء القلب طهارة القالب.وغار حراء يُشرِف كذلك على جبال مكة؛ التي تبدو للناظر إليها من الغار لأول وهلة وكأنها راكعة ساجدة لخالق هذا الكون العظيم، ليلقي هذا المشهد في النفس رهبة يرتجف لها القلب تبجيلا وتوقيرا للخالق سبحانه، ويجدِّد مشاعر التقديس والتعظيم للحق سبحانه، ويثير في الشعور الإحساس بالقدرة الإلهية الفائقة في هذا الوجود. وفي هذا الجو الساكن الهادئ وبين حنايا هذا الموقع الفريد، صفا قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وتحرَّرت روحه من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وتهيَّأ قلبه لاستقبال وحي السماء، وتلقى بذور النبوة، وتباشير الرسالة، وكأن المنح الإلهية والأعطيات الربانية لا تُوزَّع بالمجان، ولا تتنزل إلا قلب صفا بالتفكر وسما بطول التأمل.
أنواع التفكر الخمسة
1. التفكر في الآخرة:
وأول التفكر العلم، والمقصود به العلم بأحوال الآخرة، وأهوال القيامة، وصفة الصراط، وساحة العرض يوم الحشر، ورهبة الموقف يوم الفزع، وعذاب النار، ونعيم الجنة، لكن أنَّى لرجل أن يتفكر في مجهول لا يعلم عنه شيئًا؟! إنها الحياة بروحك في أحداث المستقبل القريب وتفاصيل الغيب الرهيب، ومن عاش فيها اليوم متفكِّرا في هذه الأحداث كانت عليه غدا بردًا وسلامًا، ومن لم تمر على خاطره اليوم فوجئ بهولها يوم أن يلقاها.إن برنامج أي رحلة ترفيهية في هذه الدنيا قد يناسبك فتشترك فيها أو لا تشترك، لكن الأمر مع هذه الرحلة الإجبارية مختلف، فلا مجال للاختيار، والبرنامج ثابت لا يتغيَّر، وأحداثها جسام تحتاج إلى عزائم رجال.وقد أعاننا على تصور الموقف وتخيله ابن القيم رحمه الله في مشهد تصويري رهيب ليوم القيامة ووقائعه، وهو يكاد يكون ثلاثي الأبعاد لدقته، وشديد الوقع على القلب لصدقه وجدَّته: "فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب، يبصر به الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش، وقل الوارد، ونصب الجسر للعبور، ولاذ الناس إليه، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها". وقد كان التفكر في الآخرة يأخذ وقتًا طويلاً عند أنقياء القلوب أصفياء النفوس؛ حتى قدَّم بعضهم عبادة التفكر على عبادة قيام الليل، فعن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء: "ناوِلني المطهرة -الإناء الذي يتوضأ به-" فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده، فبقي مفكرًا، ونمت ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: "هذا الفجر قد طلع"، فقال: "لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكَّر في الساعة!!".وهذا التأمل يتناول الرحلة الأخروية بتفاصيلها وجميع مراحلها، ولذا قال عبد الله بن المبارك يوما لسهل بن عدي وقد رآه ساكتا متفكرا: "أين بلغت؟" قال: "الصراط!".
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات وللمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات
خالد أبو شادي
فضل التفكر
هي عبادة جليلة وجرعة ثمينة ذات شأن عظيم، إلا أنها للأسف ضمرت واضمحلَّت في هذا الزمان، حتى كادت تُنسى وسط زحمة الحياة المضطربة، وذلك على الرغم من نجاحها في العلاج، وقوتها في التأثير، لكنها تحتاج إلى سكينة نفس قد لا يملكها الكثيرون، وفراغ وقتي وعقلي ورُقي روحي يشكو من ندرته المشغولون، وما أقل من اعتبر، وما أندر من اتعظ وادَّكر.
واسمعوا قول أطباء القلوب: قال ابن القيم وهو يتكلم عن:
"فضل التفكر وشرفه، وأنه من أفضل أعمال القلب وأنفعها له؛ حتى قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة، فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الاخرة، ومن ضيق الجهل إلى سعة العلم ورحبه، ومن مرض الشهوة والإخلاد إلى هذه الدار إلى شفاء الإنابة إلى الله والتجافي عن دار الغرور، ومن مصيبة العمى والصمم والبكم إلى نعمة البصر والسمع والفهم عن الله والعقل عنه، ومن أمراض الشبهات إلى برد اليقين وثلج الصدور، وبالجملة؛ فأصل كل طاعة إنما هي الفكر، وكذلك أصل كل معصية إنما يحدث من جانب الفكرة". ولأثره الناجح في علاج القلب من أدوائه جزم ابن عطاء: "ما نفع القلبَ مثل عُزلة يدخل بها ميدان فكرة".
وتابعهما الغزالي في سرد فضائل التفكر والإشادة به فقال: "ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار، وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم، وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورُتْبَتَه؛ لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ومورده ومجراه ومسرحه وطريقه وكيفيته".اللهم لا تجعلنا من أكثر هؤلاء الناس ونحن لا نعلم!!
ولدوره العظيم ومكانته الرفيعة بين سائر العبادات؛ جعله سعيد بن المسيب هو العبادة. قال مالك: سمعت يحيى بن سعيد يقول: "أول من صلى في المسجد بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه، كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا فصلوا إلى العصر"، فقيل لسعيد بن المسيب: "لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء"، فقال سعيد: "ليست العبادة بكثرة الصلاة ولا الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والورع عن محارم الله".وسبب آخر لشرف التفكر وفضله، وهو قول الإمام ابن القيم: "لأن الفكرة عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح، والقلب أشرف من الجوارح، فكان عمله أشرف من عمل الجوارح". فلكل عضو من أعضاء الجسد عمل، ويقوم بدور وينشغل بوظيفة، فإن كانت عيون المتقين تبكي؛ فإن قلوبهم تتفكر. قال أبو سليمان الداراني: "عوِّدوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".من أجل ذلك عدَّه خامس الخلفاء ودرة الأمراء عمر بن عبد العزيز أفضل أنواع العبادات فقال: "الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة".
ولفضله كانت أكثر عبادة أبي ذر، فعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت: "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".ومن ثمرات التفكر أن الفكرة تلد الفكرة ثم الفكرة تلو الفكرة وهلم جرًا، وتوالد الأفكار بالاتفاق هو منبع الحكمة. قال الحسن: "إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم؛ فنطقت بالحكمة "، ومن كلام الشافعي: "استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة". ومن ثمراته: التوبة، لأن من تفكَّر فقد صنع مفتاحًا مباركًا يفتح به باب الرحمة الإلهية ليدخل بإذن الله ساحة الغفران مأجورًا مرحومًا، لأنه يتفكَّر في ذنوبه وجرائمه التي ارتكبها في حق نفسه وحق ربه، ويدرك عندها العواقب ويزداد يقينا بالجزاء فيبكي ويقلع ويتوب. قال سفيان بن عيينة: "التفكر مفتاح الرحمة، ألا ترى أنه يتفكر فيتوب". لذا كانت مجالس التفكر أشهى مجالس المؤمنين وأحلى لحظات العاقلين. قال يحيى بن معاذ الرازي وقد سئل: أي مجلس أشهى و ألذ؟ قال: "الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد تُشمُّ من رائحة المعرفة وتُسقى من كأس المحبة، سبحان الله ما ألذه من مجلس! وأعذبه من شراب!".أول طريق النبوة
مع سن السابعة والثلاثين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ينطلق إلى غار حراء، بعد أن حبَّب الله تعالى إليه الخلوة فيه، فكان يخلو بنفسه شهر رمضان يتحنث، حتى فاجئه الوحي بعد ثلاث سنوات، ليلقي على قلبه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[ العلق:1]
فما هو هذا الغار؟ وأين موقعه؟ ولماذا كان اختيار الله سبحانه وتعالى له؟ وما نوع التحنث الذي كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم في الغار؟ وما هي الحكمة المستفادة والدرس العملي من وراء ذلك؟! يقع غار حراء في جبل النور، وهو غار ضيق يتسع لبضعة رجال يصلون فيه ويجلسون، وموقع الغار يشير إلى حكمة الله البالغة في اختياره، ليكون مكان خلوة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فهو بعيد عن كفار مكة وأصنامها، وبعيد عن مجالس اللهو وإفسادها، وشواغل الدنيا وإلهائها، وضجة الحياة وصخبها، وهموم الناس الصغيرة وتفاهاتها.ومن جهة أخرى فإنه يُشرِف على الكعبة المشرَّفة؛ كأنه يربط قلب محمد صلى الله عليه وسلم بأطهر بقعة على وجه الأرض، ويأخذ به إلى عالم التوحيد الخالص لله رب العالمين من خلال عبادة التفكر، وقد حقق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الترابط الوثيق بينه وبين الكعبة، فكان أول ما يفعله بعد تركه للغار هو الطواف بالبيت، ثم يرجع إلى بيته، ليختم فترة طوافه القلبي -وهو التفكر- بطواف جسده حول الكعبة، ليجتمع له مع صفاء القلب طهارة القالب.وغار حراء يُشرِف كذلك على جبال مكة؛ التي تبدو للناظر إليها من الغار لأول وهلة وكأنها راكعة ساجدة لخالق هذا الكون العظيم، ليلقي هذا المشهد في النفس رهبة يرتجف لها القلب تبجيلا وتوقيرا للخالق سبحانه، ويجدِّد مشاعر التقديس والتعظيم للحق سبحانه، ويثير في الشعور الإحساس بالقدرة الإلهية الفائقة في هذا الوجود. وفي هذا الجو الساكن الهادئ وبين حنايا هذا الموقع الفريد، صفا قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وتحرَّرت روحه من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، وتهيَّأ قلبه لاستقبال وحي السماء، وتلقى بذور النبوة، وتباشير الرسالة، وكأن المنح الإلهية والأعطيات الربانية لا تُوزَّع بالمجان، ولا تتنزل إلا قلب صفا بالتفكر وسما بطول التأمل.
أنواع التفكر الخمسة
1. التفكر في الآخرة:
وأول التفكر العلم، والمقصود به العلم بأحوال الآخرة، وأهوال القيامة، وصفة الصراط، وساحة العرض يوم الحشر، ورهبة الموقف يوم الفزع، وعذاب النار، ونعيم الجنة، لكن أنَّى لرجل أن يتفكر في مجهول لا يعلم عنه شيئًا؟! إنها الحياة بروحك في أحداث المستقبل القريب وتفاصيل الغيب الرهيب، ومن عاش فيها اليوم متفكِّرا في هذه الأحداث كانت عليه غدا بردًا وسلامًا، ومن لم تمر على خاطره اليوم فوجئ بهولها يوم أن يلقاها.إن برنامج أي رحلة ترفيهية في هذه الدنيا قد يناسبك فتشترك فيها أو لا تشترك، لكن الأمر مع هذه الرحلة الإجبارية مختلف، فلا مجال للاختيار، والبرنامج ثابت لا يتغيَّر، وأحداثها جسام تحتاج إلى عزائم رجال.وقد أعاننا على تصور الموقف وتخيله ابن القيم رحمه الله في مشهد تصويري رهيب ليوم القيامة ووقائعه، وهو يكاد يكون ثلاثي الأبعاد لدقته، وشديد الوقع على القلب لصدقه وجدَّته: "فإذا صحت فكرته أوجبت له البصيرة فهي نور في القلب، يبصر به الوعد والوعيد، والجنة والنار، وما أعد الله في هذه لأوليائه وفي هذه لأعدائه، فأبصر الناس وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الله وقد نصب كرسيه لفصل القضاء، وقد أشرقت الأرض بنوره ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء، وقد نُصب الميزان، وتطايرت الصحف، واجتمعت الخصوم، وتعلق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كثب، وكثر العطاش، وقل الوارد، ونصب الجسر للعبور، ولاذ الناس إليه، وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيها أضعاف أضعاف الناجين، فينفتح في قلبه عين يرى بها ذلك ويقوم بقلبه شاهد من شواهد الآخرة يريه الآخرة ودوامها والدنيا وسرعة انقضائها". وقد كان التفكر في الآخرة يأخذ وقتًا طويلاً عند أنقياء القلوب أصفياء النفوس؛ حتى قدَّم بعضهم عبادة التفكر على عبادة قيام الليل، فعن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء: "ناوِلني المطهرة -الإناء الذي يتوضأ به-" فناولته، فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده، فبقي مفكرًا، ونمت ثم قمت وقت الفجر، فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت: "هذا الفجر قد طلع"، فقال: "لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكَّر في الساعة!!".وهذا التأمل يتناول الرحلة الأخروية بتفاصيلها وجميع مراحلها، ولذا قال عبد الله بن المبارك يوما لسهل بن عدي وقد رآه ساكتا متفكرا: "أين بلغت؟" قال: "الصراط!".
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين والمؤمنات وللمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات
تعليق