** من درس الخشوع في الصلاة **
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي
الخشوع في الصلاة :
قال تعالى :
﴿ وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيًّا (31)﴾ (سورة مريم)
الصلاة من أعظم أركان الدين العملية، لكن الخشوع فيها من المطالب الشرعية، والشيطان ـ لعنه الله ـ ذكر الله عنه :
﴿ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)﴾
وقد ورد في بعض الأحاديث القدسية :(( أن ليس كل مصلٍّ يصلي ، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي ، وكفّ شهواته عن محارمي ، ولم يصر على معصيتي ، وأطعم الجائع ، وكسا العريان ، ورحم المصاب ، وآوى الغريب ، كل ذلك لي ، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس ، على أن أجعل الجهالة له حلماً ، والظلمة نوراً ، يدعوني فألبيه ، ويسألني فأعطيه ، ويقسم عليّ فأبره ))
[الديلمي عن حارثة بن وهب]
السؤال هنا لمَ لا يخشع قلبنا في الصلاة ؟ لمَ لا نحب الصلاة ؟ لمَ نقوم إلى الصلاة متكاسلين ؟
لمَ نراها عبئًا علينا ؟ لمَ نقول بلسان الحال أرحنا منها يا بلال لا أرحنا بها ؟
الجواب :
الحقيقة أن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾ (سورة المؤمنون )
فالخشوع في الصلاة من لوازمها ، ويرى بعض العلماء أن قوله تعالى :
﴿ وقوموا لله قانتين﴾ (سورة البقرة)
فمن القنوت الركوع ، والخشوع ، وغض البصر ، وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل .
لكن الخشوع محله القلب ، ونتائجه على الجوارح ، فإذا فسد خشوع المرء بالغفلة ، والوساوس ، فسدت عبودية الأعضاء ، والجوارح ، فإن القلب كالملك، والأعضاء كالجنود ، به يأتمرون ، وعن أمره يصدرون ، فإذا عزل الملك وتعطل بفقد القلب لعبوديته ضاعت الرهبة وهي الجوارح ، و لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه هكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
لكن حذيفة رضي الله عنه يقول : " إياكم وخشوع النفاق ، فقيل له : وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع " .
وقال بعض العلماء : " يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه " .
ورأى بعضهم رجلاً خاشع المنكبين والبدن فقيل له : يا فلان الخشوع هاهنا ، وأشير إلى الصدر لا هاهنا وأشير إلى المنكبين .
الخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، عندئذ تكون الصلاة راحة وقرة عين ، فقد قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ ))
[سنن النسائي عن أنس]
وجوب الخشوع في الصلاة :
الراجح في حكم الخشوع أنه واجب ، فقال بعض العلماء في قوله تعالى:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)﴾ (سورة البقرة)
هذا يقتضي ذم غير الخاشعين .
المعنى المخالف : غير الخاشع مذموم حكماً بهذه الآية ، والذم لا يكون إلا لترك واجب ، أو فعل محرم ،
وإذا كان غير الخاشعين مذمومين دلّ ذلك على وجوب الخشوع في الصلاة ،
ودلّ على وجوب الخشوع فيها أيضًا قوله تعالى :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)﴾
فهؤلاء الخاشعون في الصلاة هم الذين يرثون الفردوس ، وهذا يقتضي أنه لا يرثها غيرهم .
و عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ :
(( كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايَةُ الْإِبِلِ فَجَاءَتْ نَوْبَتِي فَرَوَّحْتُهَا بِعَشِيٍّ فَأَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحَدِّثُ النَّاسَ فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ...))
[صحيح مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ] وفي رواية عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ :
((أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، وَقَالَ : مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))
[صحيح البخاري عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ]
مزايا الخشوع في الصلاة :
عَنْ عُثْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَقُولُ مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ))
[صحيح مسلم] وفي حديث آخر يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأجر المكتوب من الصلاة بحسب الخشوع :
(( فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَنَمَةَ قَالَ : رَأَيْتُ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ دَخـَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى فَأَخَفَّ الصَّلَاةَ ، قَالَ : فَلَمَّا خَرَجَ قُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ خَفَّفْتَ ، قَالَ : فَهَلْ رَأَيْتَنِي انْتَقَصْتُ مِنْ حُدُودِهَا شَيْئًا ؟ قُلْتُ : لَا ، قَـالَ : فَإِنِّي بَادَرْتُ بِهَا سَهْوَةَ الشَّيْطَانِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلَاةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلَّا عُشْرُهَا تُسْعُهَا ثُمُنُهَا سُبُعُهَا سُدُسُهَا خُمُسُهَا رُبُعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا))
[مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عنمة]
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ (43)﴾ (سورة النساء)
فالذي لا يعلم ما يقول هو في حكم السكران !
وفي حديث آخر ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّى أُتِىَ بِذُنُوبِهِ ، فَجُعِلَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَعَاتِقَيْهِ ، فَكُلَّمَا رَكَعَ أَوْ سَجَدَ تَسَاقَطَتْ عَنْه ُ))
[رواه البيهقي عن ابن عمرو] قال بعض الشرّاح : المراد أنه كلما أتى ركناً سقط عنه ركن من الذنوب ، حتى إذا أتمها كان السقوط ، وهذا في صلاة متوفرة الشروط والأركان والخشوع كما يؤذن به .
اختلاف الفقهاء في وجوب إعادة الصلاة إن راود الإنسان شيئًا من الوساوس:
إن من عظم مسألة الخشوع في الصلاة وعلو قدرها عند العلماء أنهم ناقشوا هذه القضية ، فيمن كثرت الوساوس في صلاته ،
هل تصح أم عليه الإعادة ؟ قال بعض العلماء : " فإن قيل ما تقولون في صلاة من عدم خشوع ، هل يعتد بها أم لا يعتد ؟ الاعتداد بها في الثواب لا يعتد بها في الثواب ، إلا بما عقل فيه منها ، لا يعتد لصلاة لا خشوع لها في الثواب إلا بما عقل فيه منها ، وخشع فيه قلب المصلي لربه ، فقط" .
قال ابن عباس : " ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها "
إن غلب عليه عدم الخشوع فيها ، وعدم تعقلها ، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إعادتها ، فأوجبها بعضهم ، ولم يوجبها بعضهم الآخر ، اختلافهم في وجوب الإعادة على الوساوس في صلاته أوجبها بعض العلماء ، ولم يوجبها بعض العلماء الآخرين ،
يقول عليه الصلاة والسلام : إن الشيطان يأتي أحدكم في الصلاة فيقول :
(( اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يَظَلَّ الرَّجلُ إنْ يَدْرِي : كم صلى ؟ ))
[أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك عن أبي هريرة ]
إذا غلب على صلاتك الخشوع فقد يكون في السنن ما يرممها ، أما إذا غلب عدم الخشوع ، ومن عادتك أن تخشع في الصلاة ينبغي أن تعيدها ،
وفي صلاة واحدة غلب عدم الخشوع فالأولى أن تعيدها .
درجات الخاشعين في الصلاة :
الخاشعون في الصلاة درجات ، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
(( اللَّهمَّ إِني أَعُوذُ بك من قَلْبٍ لا يَخْشَعُ ))
[أخرجه الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]
الخاشعون في الصلاة على درجات خمس ،
المرتبة الأولى : مرتبة الظالم لنفسه ، المفرط وهو الذي انتقص من وضوئها ، ومواقيتها ، وحدودها ، وأركانها .
المرتبة الثانية : من يحافظ على مواقيتها ، وحدوها ، وأركانها الظاهرة ، ووضوئها لكنه ضيّع مجاهدة نفسه في الوسوسة فذهب مع الوسواس والأفكار .
المرتبة الثالثة : من حافظ على حدودها ، وأركانها ، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار ، فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق من صلاته ، فهو في صلاة وجهاد .
والمرتبة الرابعة : من إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها ، وأركانها ، وحدودها ، واستغرق قلبه مراعاة حدودها ، وحقوقها ، فلم يضيع شيئًا ، بل همه كله مصروف إلى إقامتها كما ينبغي ، وإكمالها ، وإتمامها ، قد استغرق قلبه شأن الصلاة ، وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
والمرتبة الخامسة : من إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك ولكنه مع هذا قد أخذ قلبه ووضعه بين يدي ربه عز وجل ناظراً بقلبه إليه ، مراقباً له ، ممتلئاً من محبته وعظمته ، كأنه يراه ويشاهده ، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات ، وارتفعت حجبها بينه وبين ربه ، في الصلاة أعظم مما بين السماء والأرض ، وهذا في صلاته مشغول بربه وهو قرير العين به .
القسم الأول : معاقب .
والقسم الثاني : محاسب .
والثالث : مكفر عنه .
والرابع : مثاب .
والخامس : مقرب إلى ربه
، و آخر واحد قال : لأن له نصيبًا ممن جعلت قرة عينه في الصلاة ، انطبق عليه جزء من قول النبي :
(( أرحنا بها يا بلال ))
[أبو داود عن سالم بن أبي الجعد ]
بعد ذلك كله ... ألا نشتاق للخشوع في للصلاة؟
ألا نشتاق أن نتعلم كيف نخشع في الصلاة؟
ألا نشتاق لتذوق الصلاة؟ ولكن بــــــــطــــــعــــــــــــــــم آآآآخـــــــــــــــــــــــر
تعليق