التَّرغيب في سلامة الصَّدر :
أولًا : في القرآن الكريم :
- قال الله - تبارك وتعالى - : " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [الحشر: 10] .
قال ابن رجب : (أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون : " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [الحشر: 10]
ثانيًا : في السُّنَّة النَّبويِّة :
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المؤمن غِرٌّ كريم، والفاجر خبٌّ لئيم)) [حسنه الألبانى فى صحيح سنن أبى داود] .
قال المناوي : (... ((المؤمن غِرٌّ)) أي : يغُرُّه كلُّ أحد، و يغُرُّه كلُّ شيء، ولا يعرف الشَّرَّ، وليس بذي مَكْر ولا فطنة للشَّرِّ، فهو يَنْخَدع لسَلَامة صَدْره، وحسن ظنِّه، وينخَدع لانقياده ولينه ((كريم)) أي : شريف الأخلاق ((والفاجر)) أي : الفاسق ((خبٌّ لئيم)) أي : جريء، فيسعى في الأرض بالفساد، فالمؤمن المحمود : من كان طبعه الغَرَارة، وقلَّة الفِطْنة للشَّرِّ، وترك البحث عنه، وليس ذلك منه جهلًا، والفاجر من عادته الخُبث والدَّهاء والتَّوغل في معرفة الشَّرِّ، وليس ذا منه عقلًا) [فيض القدير] .
- وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أي النَّاس أفضل؟ قال: كلُّ مَخْموم القلب، صدوق اللِّسان، قالوا : صدوق اللِّسان نعرفه، فما مَخْموم القلب ؟ قال : هو النَّقيُّ التَّقيُّ، لا إثم عليه، ولا بَغْي ولا غلٌّ ولا حسد)) [صححه الألبانى فى صحيح سنن ابن ماجه] .
قال علي القاري : (أي : سليم القلب، لقوله تعالى : " إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [الشُّعراء: 89] من خَمَمْت البيت، إذا كنسته، على ما في ((القاموس)) وغيره، فالمعنى : أن يكون قلبه مكنوسًا من غبار الأغيار، ومُنَظَّفًا من أخلاق الأقذار) [مرقاة المفاتيح،لملا على القارى] .
من أقوال السَّلف والعلماء في سلامة الصَّدر :
- قال ابن العربي : (لا يكون القلب سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا، وقد شرط النَّبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان، أن يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) [أحكام القرآن ،لابن العربى] .
- وسئل ابن سيرين - رحمه الله تعالى - ما القلب السَّليم ؟ فقال : النَّاصح لله في خلقه [الهداية إلى بلوغ النهاية،لمكى بن أبى طالب] .
- وقيل : القلب السَّليم الذي يحبُّ للنَّاس ما يحبُّه لنفسه، قد سَلِم جميع النَّاس من غشِّه وظلمه، وأسْلَم لله بقلبه ولسانه، ولا يعدل به غيره [أحكام القرآن ،لابن العربى] .
- وقال ابن تيمية : (فالقلب السَّليم المحمود، هو الذي يريد الخير لا الشَّر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشَّر، فأمَّا من لا يعرف الشَّر، فذاك نقص فيه لا يُمدح به) [الفتاوى الكبرى] .
- وقال الأكفاني وعبد الكريم : (وأصل العبادة مكابدة اللَّيل، وأقصر طرق الجنَّة سَلَامة الصَّدر) [تاريخ دمشق،لابن عساكر] .
- ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة، جمع ولده، وفيهم مَسْلمة، وكان سيِّدهم، فقال : أوصيكم بتقوى الله، فإنَّها عِصْمة باقية، وجُنَّة واقية، وهي أحصن كهف، وأزْيَن حِلْية، ليعطف الكبير منكم على الصَّغير، وليعرف الصَّغير منكم حقَّ الكبير، مع سَلَامة الصَّدر، والأخذ بجميل الأمور.. [تاريخ دمشق،لابن عساكر] .
- وقال سفيان بن دينار : قلت لأبي بشير - وكان من أصحاب علي - : أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا، ويُؤْجَرون كثيرًا، قلت : ولم ذاك ؟ قال : لسَلَامة صدورهم [الزهد ،لهناد بن السرى] .
من فوائد سلامة الصَّدر :
1- من أعظم فوائد سَلَامة الصَّدر : أنَّها سبيل لدخول الجنَّة، فهي صفة من صفات أهلها، ونعت من نعوتهم، قال تعالى : " يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [الشُّعراء 88-89] .
2- أنَّها تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذُّنوب، فمن سَلِم صدره، وطَهُر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظُّنون السَّيئة، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح .
3- أنَّها تجمع القلب على الخير والبِرِّ والطَّاعة والصَّلاح، فلا يجد القلب راحة إلا فيها، ولا تقرُّ عين المؤمن إلا بها .
من صور سلامة الصَّدر :
1- سَلَامة الصَّدر مع عامَّة النَّاس، فلا يحمل لهم في قلبه غلًّا ولا حسدًا، ولا غيرها من الأمراض والأَدْواء القلبيَّة، التي تقضي على أواصر المحبَّة، وتقطع صلات المودَّة .
2- سَلَامة الصَّدر مع خاصَّة إخوانه ومقرَّبيه .
3- سَلَامة الصَّدر مع وُلاة الأمر، فلا يحمل عليهم الحقد، ولا يثير عليهم العامَّة، ولا يذكر مثالبهم عند النَّاس، ويكون نصوحًا لهم، مُشْفِقًا عليهم، غاضًّا الطرف عن أخطائهم التي يُتَجَاوز عنها، وينشر الخير عنهم، ويذكرهم بخير أعمالهم وصفاتهم .
4- سَلَامة صدور الوُلاة للرَّعيَّة، فلا يُكثر من الشُّكوك فيهم، ولا يتربَّص بهم أو يتجسَّس عليهم، أو يؤذيهم في أموالهم أو ممتلكاتهم، ويكون مُشْفِقًا عليهم، ساعيًا وراء راحتهم .
من موانع اكتساب سَلَامة الصَّدر :
1- نزغات الشَّيطان، ووساوسه، فالشَّيطان حريص على إيغار الصُّدور، وإفساد القلوب، لذا حذَّر الله - تبارك وتعالى - منه، وأمر عباده بانتقاء القول الحسن، قال - تبارك وتعالى - : " وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا " [الإسراء: 53] وقال صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ الشَّيطان قد أَيِس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم)) [رواه مسلم] .
2- إصابة القلب ببعض الأمراض الخُلُقيَّة، والتي تُفسد القلب، كالحسد والغلِّ والحقد، وإذا اشتمل القلب على هذه الأدواء لم يُعْتبر سليمًا، فهي تضادُّ سَلَامة القلب .
3- التَّنافس على الدُّنيا فعن عمرو بن عوف رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : ((والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) [رواه البخارى ومسلم] .
من الوسائل المعينة على اكتساب سَلَامة الصَّدر :
1- الإخلاص لله - تبارك وتعالى - وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال : ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم : إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمَّة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ الدَّعوة تحيط من ورائهم)) [صححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى] قال ابن الأثير : (إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه من الخيانة والدَّخل والشَّر) [النهاية فى غريب الحديث والأثر،لابن الأثير] .
2- الإقبال على كتاب الله تعالى قراءةً وتعلُّمًا وتعليمًا، فهو شفاء لما في الصُّدور، كما قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " [يونس: 57] .
3- الدُّعاء، فهو العلاج النَّاجع والدَّواء النَّافع، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين، قال الله تعالى : " وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ " [الحشر: 10] .
نماذج من الصَّحابة :
- وعن زيد بن أسلم، أنَّه دخل على ابن أبي دُجانة، وهو مريض، وكان وجهه يتهلَّل، فقال له : ما لك يتهلَّل وجهك ؟ قال : ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنين : أمَّا أحدهما، فكنت لا أتكلَّم بما لا يعنيني، وأما الأُخْرى : فكان قلبي للمسلمين سليمًا [رواه ابن سعد فى الطبقات الكبرى] .
- وأُثِر عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه كان يدعو لسبعين من أصحابه، يسمِّيهم بأسمائهم، وهذا العمل علامة على سَلَامة الصَّدر [ذكره ابن بطال فى شرح صحيح البخارى] .
- وقد كان أبو موسى الأشعري صوَّامًا قوَّامًا، ربَّانيًّا، زاهدًا، عابدًا، ممَّن جمع العلم والعمل والجهاد وسَلَامة الصَّدر، لم تغيره الإمارة، ولا اغترَّ بالدُّنيا [سير أعلام النبلاء ،للذهبى] .
نماذج من السَّلف :
- (دخل رجل على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر : إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية : " إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا " [الحجرات: 6] وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية : " هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ " [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك.، فقال : العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا) [إحياء علوم الدين] .
- وعن الفضل بن أبي عيَّاش، قال : (كنت جالسًا مع وهب بن منبِّه، فأتاه رجل، فقال : إنِّي مررت بفلان وهو يشتُمك. فغضب، فقال : ما وجد الشَّيطان رسولًا غيرك ؟ فما بَرِحْت من عنده حتَّى جاءه ذلك الرَّجل الشَّاتم، فسلَّم على وهب، فردَّ عليه، ومدَّ يده، وصافحه، وأجلسه إلى جنبه) [صفة الصفوة،لابن الجوزى] .
تعليق