السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سلامة الصدر ... من خصال البر (النادرة)
سلامة الصدر، ونقاء السريرة وصفاء النفس من الأمور الدالة على الإيمان والطمأنينة واليقين ومن دوافع العمل الصالح، ومن موجبات الأجر والثواب وهي صفات تقرِّب صاحبها من الأعمال التي تفتح له أبواب الخير، وتورده مسالك الطريق إلى الجنة.. لمعرفة أهمية سلامة الدواخل.. والتصالح مع النفس وخلو الصدور والقلوب من العلل والحقد والحسد وسوء الظنون.. التقينا عدداً من المشايخ والدعاة الذين بيَّنوا حقيقة هذه الصفات وأهميتها وضرورة الحرص عليها وذلك من خلال التحقيق التالي:
في البداية تحدث الشيخ د. صالح بن حمد الحواس إمام وخطيب جامع العباس والداعية بقاعدة الرياض الجوية، حيث قال: إن سلامة الصدر تعني سلامته من كل غل وحسد وحقد وبغضاء على المسلمين، وهي من أعظم الخصال وأشرف الخلال، ثم هي من بعد خلة لا يقوى عليها إلا الرجال، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على سلامة قلبه فكان يقول في صلاته: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم» (النسائي (7821) عن شداد بن أوس)، وكان يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (أبو داود، الأدب: 8124).
إن سلامة الصدر ونقاءه نتاجه مجتمع متماسك لا تهزه عواصف ولا تؤثّر فيه فتن، سلامة الصدر.. نعمة ربانية، ومنحة إلهية، سلامة الصدر.. من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62-63]. فائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام القرطبي، (فتح القدير: (2/223))، وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث: «تُعرَض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله عزَّ وجلَّ في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا» (رواه مسلم)، فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن.
سلامة الصدر علامة فضل وتشريف روى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلٍّ ولا حسد» (ابن ماجة: 6024 الزهد)، وصاحب هذا القلب هو الذي ينجو يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال سعيد بن المسيب رحمه الله الله: "القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن"، وسُئل ابن سيرين رحمه الله، ما القلب السليم؟ قال: "الناصح لله عزَّ وجلَّ في خلقه"، أي: لا غش فيه ولا حسد ولا غل.
سلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء»، تكرّر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام فسأله فقال: "ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغتَ بك وهي التي لا نطيق" (أحمد: (63221))، أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بشِّر بالجنة ثلاث مرات؟!!
ولقد راعى سلفنا الصالح هذا الأمر واهتموا به أشد الاهتمام، ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: "رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في وادٍ ملقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: عزيز علي يا أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجزي وبجري"، ثم قال لابنه: "لعلي وأباك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47]".
وهذا إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذّب عذاباً شديداً، لكنه بعد تلك المحنة يصفح عن كل من أساء إليه أبان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حل، وكل من ذكرني في حل، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حل" يعني المعتصم أمير المؤمنين رأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. وما ينفك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وله موقف آخر، رحمه الله حين قيل له نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: إذا لم تكتب عنه فعمن يكون ذلك؟ قالها مراراً، فقيل له: إنه يتكلم فيك، قال: رجل صالح، ابتُلِي فينا فما نعمل؟" فلم يمنعه كون الرجل يتكلم فيه من تزكيته، لأن قلبه قد سلم من الغل والبغضاء والشحناء.
- قلب سليم محمود:
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقف من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفا قائلاً: "لا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، والذين كتبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحداً أجمع لخصال الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشَّره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانه".
إذا كان هذا كذلك فسلامة القلب والصدر ليست السذاجة والضعف وليست هي القلب الذي يسهل خداعه والضحك عليه كلا، بل إن سلامة القلب كما قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به".
وبعد فإن لسلامة الصدر أسباباً ومن تلك الأسباب:
1- الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين» (رواه أحمد بسند صحيح)، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسّك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
2- ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على الله وعلى كتابه الذي أنزله شفاءً لما في الصدور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. فكلما أقبل العبد على كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً صلح صدره وسلم قلبه، فلذا كان الصحابة مصاحف تمشي على الأرض من شدة تطبيقهم لما فيه.
3- الدعاء:
ومن أسباب سلامة الصدر أن تلهج بدعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الغل والضغينة والحقد والحسد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. ومن طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَ لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
4- ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فبئس مطية الرجل زعموا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تنابزوا، وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان)، فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي هو مصدر الشرور كلها المذكورة في الحديث، فطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
ثم تحدث الشيخ سعد بن عتيق العتيق إمام وخطيب جامع الإسكان بالرياض الداعية المعروف فقال:
إن من النعيم المعجل للعبد في هذه الحياة، بل هو جنة الدنيا ولذة العيش، أن يرزق الله العبد نعمة سلامة الصدر على كل من عاش معه، أو خالطه، بل على كل أحد! فقلبه أبيض من ثوبه، يرى أن لكل مسلم عليه حقا!! أما هو فليس له حق على أحد!! ولذا فحياته طيبة مطمئنة! سلّمه الله من الأدواء والأدران والأورام التي تنبت في القلب، كالغل والحقد والبغض والعجب والكبر والحسد، وما يتولد عنها من تدابر وتباغض وتقاطع وعقوق، قد جمّله الله بابتسامة الرضا والبشاشة وطلاقة الوجه يحبه الناس، لأنه هيِّن ليِّن، رفيق يحب الرفق، لذا فقلبه سَليم ليس كالأسفنجة يمتص كل قذى، يتقرب إلى الله بعبادة عجز عنها كثير من المسلمين إلا وهي (سلامة الصدر) أنه (مخموم القلب) الذي فضله الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام على كل الناس عندما سئل منْ أفضل الناس قال: «مخموم القلب» الحديث.
- رجل من أهل الجنة:
إن سلامة الصدر على المؤمنين لا يدركها ويحصل ثوابها إلا أولو العزم من الرجال، ولذا كانت من أشق ما يجاهد الإنسان نفسه عليه، وتأمل قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص الذي ورد في الحديث الصحيح: «يدخل عليكم رجل من أهل الجنة» ماذا قال: للرجل لما علم أن سبب دخوله الجنة أنه لا يُبات وفي قلبه غلٍّ ولا غش لمسلم، وما حسد مسلماً على نعمة أنعم الله بها عليه، قال: "هذه التي بلغتك والتي لا نطيق".
إن بعض الناس قد جعل قلبه مستودعاً للهموم والأحزان ولأمراض القلب على اختلاف أنواعها، لذا فهو من أشقى الناس عيشاً، وأضيقهم صدراً، وأحزنهم قلباً، قد سُجِن في قفصه الصدري، قلبه أسود!! لا يعرف الصفح ولا العفو ولا كظم الغيظ ولا الرضا بما قسم الله له من رزق.
تجده قاطع للرحم، وترى آثار قطع الله ظاهرة عليه، من نزع بركة في الرزق والولد والوقت والعافية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» والمراد بها الرحم.
تجده هاجراً للمسلمين.. فترفع أعمال العباد إلى الله في كل اثنين وخميس فلا يرفع له -نسأل الله السلامة والعافية- عمل، يقول الله لملائكته: «انظروا هذين حتى يصطلحا» فحياة هذا المسكين حياة ضنك وكدر لم يذق طعم انشراح الصدر بالعفو والإحسان وكظم الغيظ .
- الحب والتناصح:
ثم تحدّث الشيخ طاهر بن محمد المجرشي إمام وخطيب جامع الخراشي وأحد رجال التربية والتعليم بالرياض فقال:
إن دين الإسلام قد حرص حرصاً شديداً على أن تكون الأمة أمة واحدة في قلبها وقالبها.
تسودها عواطف الحب المشترك والود الشائع والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء مع صفاء القلوب وتآلفها دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي، وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير. فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» -وشبك بين أصابعه- (رواه الشيخان).
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفاً واحداً يعطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً كما وصفهم جلَّ وعلا بذلك، حيث قال: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية 9]. وكما قال جلّ ذكره في وصفهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: من الآية 29].
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة"، وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: "أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً، قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم".
- خصلة عظيمة:
إن المرء لا ينقضي عجبه من ذلك الجيل الصالح الكريم، حيث إن قلوبهم بقيت صافية وسليمة، طيبة السريرة، رغم ما وقع بينهم من فتن كبار أشهرت فيها السيوف واشتبكت فيها الصفوف فلا إله إلا الله ما أطيب المعشر وأكرمه.
ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: "رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في واد ملقى -بعد موقعة الجمل التي كانت بين علي رضي الله عنه وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم- فنزل رضي الله عنه فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: عزيز علي يا أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء إلى الله أشكو عجزي وبجري".
إن سلامة الصدر خصلة من خصال البر عظيمة غابت رسومها واندثرت معالمها وخبت أعلامها حتى غدت عزيزة المنال عسيرة الحصول، مع ما فيها من الفضائل والخيرات. وها أنذا أذكر بعض فضائلها عسى أن تكون حافزة لنا على الأخذ بها والحرص عليها، فإنه قبل الرماء تملأ الكنائن. فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة الذين هم خير أهل ومعشر قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
ومن فضائل سلامة الصدر: أن صاحبها خير الناس وأفضلهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سُئِلَ أي الناس أفضل؟ فقال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد» (رواه ابن ماجة بسندٍ لا بأس به)، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالتقوى التي تثمر صفاء القلوب وسلامتها من الآفات والرذائل.
- عِفّة اللسان:
إن من فضائل سلامة الصدر: تدل القلب على الخير والبر والطاعة والصلاح فليس أروح للمرء ولا أطرد للهم ولا أقر للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
ومن فضائل سلامة الصدر: أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة والسوء.
ومن فضائل سلامة الصدر: أن فيها صدق الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم أسلم الناس صدراً وأطيبهم قلباً وأصفاهم سريرةً وشواهد هذا في سيرته كثيرة ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشجوا رأسه وكسروا رباعيته فكان يسلت الدم ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
إن لسلامة الصدر أسباباً وطرقاً لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب: الإخلاص لله تعالى فعن زيد بن ثابت مرفوعاً: «ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين» (رواه أحمد بسند صحيح)، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
ومن أسباب سلامة الإقبال على كتاب الله الذي أنزله شفاءً لما في الصدور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
ومن أسباب سلامة الصدر: دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
- اجتناب الظن:
إن من طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم».
ومن أسباب سلامة الصدر: الابتعاد عن سوء الظن فإنه بئس سريرة الرجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: من الآية 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان).
فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث فالواجب عليك أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
منقول
سلامة الصدر ... من خصال البر (النادرة)
سلامة الصدر، ونقاء السريرة وصفاء النفس من الأمور الدالة على الإيمان والطمأنينة واليقين ومن دوافع العمل الصالح، ومن موجبات الأجر والثواب وهي صفات تقرِّب صاحبها من الأعمال التي تفتح له أبواب الخير، وتورده مسالك الطريق إلى الجنة.. لمعرفة أهمية سلامة الدواخل.. والتصالح مع النفس وخلو الصدور والقلوب من العلل والحقد والحسد وسوء الظنون.. التقينا عدداً من المشايخ والدعاة الذين بيَّنوا حقيقة هذه الصفات وأهميتها وضرورة الحرص عليها وذلك من خلال التحقيق التالي:
في البداية تحدث الشيخ د. صالح بن حمد الحواس إمام وخطيب جامع العباس والداعية بقاعدة الرياض الجوية، حيث قال: إن سلامة الصدر تعني سلامته من كل غل وحسد وحقد وبغضاء على المسلمين، وهي من أعظم الخصال وأشرف الخلال، ثم هي من بعد خلة لا يقوى عليها إلا الرجال، ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على سلامة قلبه فكان يقول في صلاته: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم» (النسائي (7821) عن شداد بن أوس)، وكان يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن مسعود: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر» (أبو داود، الأدب: 8124).
إن سلامة الصدر ونقاءه نتاجه مجتمع متماسك لا تهزه عواصف ولا تؤثّر فيه فتن، سلامة الصدر.. نعمة ربانية، ومنحة إلهية، سلامة الصدر.. من أسباب النصر على العدو، قال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:62-63]. فائتلاف قلوب المؤمنين من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام القرطبي، (فتح القدير: (2/223))، وسلامة الصدر سبب في قبول الأعمال، ففي الحديث: «تُعرَض الأعمال كل يوم اثنين وخميس، فيغفر الله عزَّ وجلَّ في ذلك اليوم لكل امرئٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: انظروا هذين حتى يصطلحا» (رواه مسلم)، فانظر كم يضيع على نفسه من الخير من يحمل في قلبه الأحقاد والضغائن.
سلامة الصدر علامة فضل وتشريف روى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غلٍّ ولا حسد» (ابن ماجة: 6024 الزهد)، وصاحب هذا القلب هو الذي ينجو يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، قال سعيد بن المسيب رحمه الله الله: "القلب السليم هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن"، وسُئل ابن سيرين رحمه الله، ما القلب السليم؟ قال: "الناصح لله عزَّ وجلَّ في خلقه"، أي: لا غش فيه ولا حسد ولا غل.
سلامة الصدر طريق إلى الجنة أيضاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء»، تكرّر ذلك ثلاث مرات في ثلاثة أيام، فأحب عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يعرف خبيئة هذا الرجل، فبات عنده ثلاثاً فلم يره كثير صلاة ولا صيام فسأله فقال: "ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغتَ بك وهي التي لا نطيق" (أحمد: (63221))، أفرأيت كيف سمت به سلامة صدره حتى بشِّر بالجنة ثلاث مرات؟!!
ولقد راعى سلفنا الصالح هذا الأمر واهتموا به أشد الاهتمام، ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: "رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في وادٍ ملقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: عزيز علي يا أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عجزي وبجري"، ثم قال لابنه: "لعلي وأباك ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47]".
وهذا إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أوذي وسجن وعذّب عذاباً شديداً، لكنه بعد تلك المحنة يصفح عن كل من أساء إليه أبان سجنه فيقول لأحدهم: "أنت في حل، وكل من ذكرني في حل، إلا مبتدع، وقد جعلت أبا إسحاق في حل" يعني المعتصم أمير المؤمنين رأيت الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]. وما ينفك أن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ وله موقف آخر، رحمه الله حين قيل له نكتب عن محمد بن منصور الطوسي؟ قال: إذا لم تكتب عنه فعمن يكون ذلك؟ قالها مراراً، فقيل له: إنه يتكلم فيك، قال: رجل صالح، ابتُلِي فينا فما نعمل؟" فلم يمنعه كون الرجل يتكلم فيه من تزكيته، لأن قلبه قد سلم من الغل والبغضاء والشحناء.
- قلب سليم محمود:
أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد كان له موقف من أعدائه وخصومه، حيث صفح عنهم وعفا قائلاً: "لا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه علي أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، والذين كتبوا وظلموا فهم في حل من جهتي"، وذكر تلميذه ابن القيم أنه ما رأى أحداً أجمع لخصال الصفح والعفو وسلامة الصدر من ابن تيمية، وأن أحد تلاميذه بشَّره بموت أكبر أعدائه الذين آذوه، فنهره ابن تيمية وغضب عليه واسترجع وقام من فوره، فعزَّى أهل الميت، وقال لهم: "إني لكم مكانه".
إذا كان هذا كذلك فسلامة القلب والصدر ليست السذاجة والضعف وليست هي القلب الذي يسهل خداعه والضحك عليه كلا، بل إن سلامة القلب كما قال ابن تيمية رحمه الله: "القلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، ومآل ذلك بأن يعرف الخير والشر فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به".
وبعد فإن لسلامة الصدر أسباباً ومن تلك الأسباب:
1- الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعاً: «ثلاث لا يغل عليهن صدر مسلم إخلاص العمل لله عزَّ وجلَّ ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين» (رواه أحمد بسند صحيح)، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسّك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
2- ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على الله وعلى كتابه الذي أنزله شفاءً لما في الصدور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. فكلما أقبل العبد على كتاب الله تلاوة وحفظاً وتدبراً وفهماً صلح صدره وسلم قلبه، فلذا كان الصحابة مصاحف تمشي على الأرض من شدة تطبيقهم لما فيه.
3- الدعاء:
ومن أسباب سلامة الصدر أن تلهج بدعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الغل والضغينة والحقد والحسد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10]. ومن طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أوَ لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».
4- ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فبئس مطية الرجل زعموا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تنابزوا، وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان)، فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي هو مصدر الشرور كلها المذكورة في الحديث، فطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلا.
ثم تحدث الشيخ سعد بن عتيق العتيق إمام وخطيب جامع الإسكان بالرياض الداعية المعروف فقال:
إن من النعيم المعجل للعبد في هذه الحياة، بل هو جنة الدنيا ولذة العيش، أن يرزق الله العبد نعمة سلامة الصدر على كل من عاش معه، أو خالطه، بل على كل أحد! فقلبه أبيض من ثوبه، يرى أن لكل مسلم عليه حقا!! أما هو فليس له حق على أحد!! ولذا فحياته طيبة مطمئنة! سلّمه الله من الأدواء والأدران والأورام التي تنبت في القلب، كالغل والحقد والبغض والعجب والكبر والحسد، وما يتولد عنها من تدابر وتباغض وتقاطع وعقوق، قد جمّله الله بابتسامة الرضا والبشاشة وطلاقة الوجه يحبه الناس، لأنه هيِّن ليِّن، رفيق يحب الرفق، لذا فقلبه سَليم ليس كالأسفنجة يمتص كل قذى، يتقرب إلى الله بعبادة عجز عنها كثير من المسلمين إلا وهي (سلامة الصدر) أنه (مخموم القلب) الذي فضله الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام على كل الناس عندما سئل منْ أفضل الناس قال: «مخموم القلب» الحديث.
- رجل من أهل الجنة:
إن سلامة الصدر على المؤمنين لا يدركها ويحصل ثوابها إلا أولو العزم من الرجال، ولذا كانت من أشق ما يجاهد الإنسان نفسه عليه، وتأمل قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمرو بن العاص الذي ورد في الحديث الصحيح: «يدخل عليكم رجل من أهل الجنة» ماذا قال: للرجل لما علم أن سبب دخوله الجنة أنه لا يُبات وفي قلبه غلٍّ ولا غش لمسلم، وما حسد مسلماً على نعمة أنعم الله بها عليه، قال: "هذه التي بلغتك والتي لا نطيق".
إن بعض الناس قد جعل قلبه مستودعاً للهموم والأحزان ولأمراض القلب على اختلاف أنواعها، لذا فهو من أشقى الناس عيشاً، وأضيقهم صدراً، وأحزنهم قلباً، قد سُجِن في قفصه الصدري، قلبه أسود!! لا يعرف الصفح ولا العفو ولا كظم الغيظ ولا الرضا بما قسم الله له من رزق.
تجده قاطع للرحم، وترى آثار قطع الله ظاهرة عليه، من نزع بركة في الرزق والولد والوقت والعافية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك» والمراد بها الرحم.
تجده هاجراً للمسلمين.. فترفع أعمال العباد إلى الله في كل اثنين وخميس فلا يرفع له -نسأل الله السلامة والعافية- عمل، يقول الله لملائكته: «انظروا هذين حتى يصطلحا» فحياة هذا المسكين حياة ضنك وكدر لم يذق طعم انشراح الصدر بالعفو والإحسان وكظم الغيظ .
- الحب والتناصح:
ثم تحدّث الشيخ طاهر بن محمد المجرشي إمام وخطيب جامع الخراشي وأحد رجال التربية والتعليم بالرياض فقال:
إن دين الإسلام قد حرص حرصاً شديداً على أن تكون الأمة أمة واحدة في قلبها وقالبها.
تسودها عواطف الحب المشترك والود الشائع والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء مع صفاء القلوب وتآلفها دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي، وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير. فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]. فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان). ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً» -وشبك بين أصابعه- (رواه الشيخان).
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفاً واحداً يعطف بعضهم على بعض ويرحم بعضهم بعضاً ويحب بعضهم بعضاً كما وصفهم جلَّ وعلا بذلك، حيث قال: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية 9]. وكما قال جلّ ذكره في وصفهم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح: من الآية 29].
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة"، وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: "أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً، قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم".
- خصلة عظيمة:
إن المرء لا ينقضي عجبه من ذلك الجيل الصالح الكريم، حيث إن قلوبهم بقيت صافية وسليمة، طيبة السريرة، رغم ما وقع بينهم من فتن كبار أشهرت فيها السيوف واشتبكت فيها الصفوف فلا إله إلا الله ما أطيب المعشر وأكرمه.
ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: "رأى علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في واد ملقى -بعد موقعة الجمل التي كانت بين علي رضي الله عنه وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم- فنزل رضي الله عنه فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: عزيز علي يا أبا محمد أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء إلى الله أشكو عجزي وبجري".
إن سلامة الصدر خصلة من خصال البر عظيمة غابت رسومها واندثرت معالمها وخبت أعلامها حتى غدت عزيزة المنال عسيرة الحصول، مع ما فيها من الفضائل والخيرات. وها أنذا أذكر بعض فضائلها عسى أن تكون حافزة لنا على الأخذ بها والحرص عليها، فإنه قبل الرماء تملأ الكنائن. فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة الذين هم خير أهل ومعشر قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
ومن فضائل سلامة الصدر: أن صاحبها خير الناس وأفضلهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سُئِلَ أي الناس أفضل؟ فقال: «كل مخموم القلب صدوق اللسان» قالوا: فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: «هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد» (رواه ابن ماجة بسندٍ لا بأس به)، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالتقوى التي تثمر صفاء القلوب وسلامتها من الآفات والرذائل.
- عِفّة اللسان:
إن من فضائل سلامة الصدر: تدل القلب على الخير والبر والطاعة والصلاح فليس أروح للمرء ولا أطرد للهم ولا أقر للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
ومن فضائل سلامة الصدر: أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة والسوء.
ومن فضائل سلامة الصدر: أن فيها صدق الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم أسلم الناس صدراً وأطيبهم قلباً وأصفاهم سريرةً وشواهد هذا في سيرته كثيرة ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه صلى الله عليه وسلم يوم أحد وشجوا رأسه وكسروا رباعيته فكان يسلت الدم ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
إن لسلامة الصدر أسباباً وطرقاً لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب: الإخلاص لله تعالى فعن زيد بن ثابت مرفوعاً: «ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل ومناصحة ولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين» (رواه أحمد بسند صحيح)، قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تستصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
ومن أسباب سلامة الإقبال على كتاب الله الذي أنزله شفاءً لما في الصدور قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
ومن أسباب سلامة الصدر: دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليماً من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
- اجتناب الظن:
إن من طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم».
ومن أسباب سلامة الصدر: الابتعاد عن سوء الظن فإنه بئس سريرة الرجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: من الآية 12]. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا» (رواه الشيخان).
فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث فالواجب عليك أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
منقول
تعليق