أصبح الإجماع الدولي على استهداف الإسلاميين أمراً محيراً ، وأصبح انحياز الملحدين إلي جانب النصارى ، وانسجام النصارى مع اليهود ، وتلاقي اليهود مع الوثنيين ، واتفاق أهل النفاق مع كل هؤلاء على ضرب الإسلام وإذلال المسلمين ؛ من المحن الدهماء ، والفتن التي تدع الحليم حيران ، فحتى الدعوات السلمية ، والجهود الخيرية ، والمقاومات المشروعة للاحتلال في مثل فلسطين و الشيشان و الفلبين و العراق و أفغانستان ، أصبح كل ذلك محرَّماً مجرَّماً ، ومعارضاً مطارداً ! إنه إجماع غير مسبوق للاعتداء على المسلمين ؛ فقد كان الأعداء يتناوبون ذلك الاعتداء على بعض الأطراف ولكنهم يَدَعون بعضها ، ويصادمون بلداً ويصالحون آخر ، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والضرب في كل حدب وصوب [ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ]( الذاريات : 53 ) .
ولكن دهشتنا وحيرتنا ، وانزعاجنا واستغرابنا من ذلك ( الإجماع والاتفاق ) لا يدانيه في الدهشة والانزعاج ، والحيرة والاستغراب ، إلا ما يقابله ما يشبه ( الإجماع ) - من هؤلاء المستهدَفين - على عدم الاجتماع ، من شِبه الاتفاق منهم على عدم الاتفاق .
لا أقصد على مستوى الزعامات والقيادات فقط ؛ فذلك أمر قد كثر الكلام فيه ، وسبق التعرض له ، ولكن أقصد على مستوى القواعد العريضة ، والبُنى التحتية لهؤلاء الإسلاميين المستهدَفين .
!!انظر حولك !!
ترَ عجباً : جهوداً مبعثرة ، وإمكانات مهدرة ، مع صفوف متناثرة ، وقلوب متناكرة ! .. ما هذا يا أمة الإسلام ؟! أفي مثل ذلك الليل البهيم نظل نسهر على التخاصم والتنافر ، وننام على التنازع والتدابر ؟! أين الصف المرصوص ، أين قلب الرجل الواحد ، وتداعي الجسد الواحد ، وخفض الجناح ولين الجانب ، والتآخي والتصافي والتراحم والتواد ؟! حقاً لقد صنع الشقاق والجفاء منا غثاء ، حتى تعاوت علينا كلاب الأرض ، وتعاونت علينا ذئابها ، وصدق فينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قالوا : أوَ مِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل أنتم كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل "1 [1] ، نعم نحن كثير كثير .... ولكن الشقاق والجفاء حوَّلنا إلى ذلك الغثاء .
? هناك مشكلة :
لقد وُفقت الصحوة الإسلامية في تجاوز عقبات كثيرة في أثناء مسيرتها في العقود الأخيرة ، فأحرزت إنجازات ، وانتزعت نجاحات ، واختطت طريقها وسط كثير من العراقيل والعقابيل بتوفيق وسداد .
ولكننا يجب أن نعترف أنها أخفقت ..
.
نعم أخفقت في تأمين الحد الأدنى من وحدة الأمة ، بتقصيرها في بذل الحد الأدنى من العوامل " الشرعية " لوحدة هذه الأمة ، لا على المستوى العام فقط ، بل على المستوى الخاص أيضاً مستوى الإسلاميين العاملين .
إنني أزعم أن هناك قسماً كبيراً من الشريعة التي نتنادى بتطبيقها وإقامة أحكامها ، نقوم نحن الإسلاميين إلا من رحم الله بتجافيه والإهمال فيه ، وهو ذلك القسم الذي يشمل الأحكام والهدايات والآداب التي تتضمن تأليف القلوب وتوحيد الصفوف ؛ فوحدة هذه الأمة منهجياً وقلبياً ، مطلب من مطالب الشريعة كبير ، ومقصد من مقاصد الإصلاح عظيم ،
ولا أدري ؛ كيف خلت مناهج أكثر الجماعات الإسلامية إن لم تكن كلها من مراعاة تحقيق ذلك المقصد في الواقع العملي ؟! صحيح أنه كانت هناك دائماً مساحة للكلام على ( الوحدة الإسلامية ) من الناحية النظرية ، ولكنها من الناحية العملية كانت توظف في الغالب لصالح الوحدة الحزبية أو الفكرية أو التنظيمية ، ولن أدلل على ذلك بأكثر من شهادة الواقع على ذلك ، مما يعرف الجميع تفاصيله .
? معاتبات ( أخوية ) :
" المسلم أخو المسلم " [2] هذه مقولة نبوية ، وشِرعة إلهية ، وهي مع ذلك بدهية أولية من بدهيات الإسلام ، ليست من مسائل الخلاف الوعر أو البحث الدقيق .
ولكن تعالوا ننظر في واقعنا - نحن الإسلاميين - : هل ينظر كل منا إلى الآخر هذه النظرة ، وهل يطبق معه هذه البدهية ؛ فـ " لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره " ؟! * "
ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى " [3] ،
كلمات مضيئة من مشكاة النور النبوي ؛ فهل تربت الأجيال في الفصائل والتجمعات ، على ذلك الخُلق السامي مع ( كل المؤمنين ) ، ولو كانوا مخالفين في " الانتماء " ، أو مغايرين في " الفكر " ؟! * ثم .. ما حقيقة هذا " الانتماء " ، عندما يتعارض مع الانتماء المعقود في السماء ؟ وما قيمة ذلك " الفكر " الذي لا ينطلق من الفقه القرآني والهدى الرسولي عندما يدعو ذلك الفكر إلى قطيعة وجدانية بين المؤمنين الذين " تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم " [4] .
* أمْرُ الله لهذه الأمة بالاعتصام بحبله تكليف للعامة والخاصة ؛ فكيف ننادي في العامة بالاجتماع تحت راية الإسلام ، ونحن غارقون في الفرقة ، والناس يروننا ونحن حملة الراية أوْلى الأمة بذلك الاجتماع ؟ * " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضَه وشبك بين أصابعه " 2 ،
هل أقمنا البنيان على مبدأ الأخوة والمحبة في الله ، حتى يشد بعضه بعضاً ، أم أقيم ذلك البنيان على أسس من المحبة في .... ، وفي ...... ، وفي .... ، وفي .... حتى أصبحت مبانينا يهد بعضها بعضاً ، بدلاً من أن يشد بعضها بعضاً ؟!
* تنادينا بأهمية الحوار ، حتى نادى بعضنا بضرورة الحوار مع ( الآخر ) يعني الكفار والحوار مع ( الآخر ) من المارقين و العلمانيين الفجار ، وقد سمعنا كثيراً عن حوارات ( التقارب بين الأديان ) و ( الحوار الإسلامي المسيحي ) وحوارات ( التقارب بين السنة و الشيعة ) والحوارات بين الإسلاميين والقوميين و الليبراليين ، ولكن :
أين حوار الإسلاميين مع الإسلاميين ؟ حوار السُّنة مع السُّنة ؟ حوارات جماعاتها مع جماعاتها ، وقياداتها مع قياداتها ، ودعاتها مع دعاتها ؟ أم أن الحوار مع ( الأخ ) مؤخر دائماً حتى ينتهي الحوار مع ( الآخر ) ؟!
* نتحسس في الكلام كثيراً ونتدسس في الأسلوب غالباً ونهادن أو نداهن في العبارة أحياناً إذا كان الكلام مع ( الآخر ) ولو كان هذا الآخر منافقاً معلوم النفاق ، أو فاجراً يكرمه الناس مخافة شره ، أو كافراً لا حرمة له ولا ذمة ، خوفاً على شعوره ( الرقيق ) أن يخدش ، وحسه ( المرهف ) أن يمس ، أما إذا جاء الحديث مع ، أو عن ، أو إلى ذلك الأخ ( المخالف ) أو فعند الكثيرين منا إلا من رحم الله فلا تحسس ولا تدسس ولا مجاملة ولا حتى حسن مجادلة ، مع أن حسن المجادلة مطلوب مع أهل الكتاب ، فكيف بمن جعلته الشريعة في منزلة الأقربين من الأهل والأصحاب ؟!
* كلما ندب دعاة الوفاق أنفسهم لمحاولة إصلاح ذات البين بين خواص الأمة ، انبرى لهم دعاة الشقاق متهمين إياهم بأنهم أصحاب نهج ( عاطفي ) ، أو أن الواحد منهم مجرد ( واعظ ) لا يرقى إلى مستوى فوق الخطب والمواعظ !! نقول : هبهم ( عاطفيين ) فمتى أصبح شأن المؤمنين في ( تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم ) أمراً مستهجناً ؟ وهل تستنزل الرحمة إلا بذلك التراحم وتلك العاطفة فيما بين المسلمين ؟ ثم .. ماذا يُنقم من ( الموعظة ) ، ولماذا يُهوَّن من شأنها ، مع أن القرآن كله ( موعظة ) وكذلك التوراة المنزلة من عند الله ، والإنجيل المنزل من عند الله .
قال سبحانه عن القرآن : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ]( يونس : 57 ) ، وقال عن التوراة : [ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْء ]( الأعراف : 145 ) ، وقال عن الإنجيل : [ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ]( المائدة : 46 ) ، وليست المواعظ في الرقائق والسلوكيات فحسب بل إن الأمر بالنظر في جوهر الرسالة وهو التوحيد موعظة ، والنهي عن الشرك موعظة ، قال سبحانه : [ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ]( سبأ : 46 ) ، وقال : [ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ]( لقمان : 13 ) .
* فلسفة ( ليس في الإمكان أحسن مما كان ) تكاد تحكم النظرة " التجميدية " للواقع الإسلامي ، على ما هو عليه من تشرذم وفرقة ، مع أن النظرة الشرعية " التجديدية " تدعو دائماً لإحياء ما اندرس من معالم الدين ، ومنها وفي مقدمتها بعد التوحيد عقيدة الولاء والبراء ، التي هي أوثق عُرى الإيمان .
* شرعيون لا قدريون : نحن نؤمن بالقدر ، لكننا لا نؤمن " بالقدرية " فالقدرية ( العقدية ) بنوعيها 3 ، ابتداع في الدين ، وشذوذ في الاعتقاد ، عافى الله تعالى منه أهل السنة والجماعة ، ولكن نوعاً جديداً من ( القدرية الفكرية ) بدأ ينتشر بين المسلمين ، يشيع بينهم نوعاً من الهزيمة ، ولوناً من السلبية ، تقعدهم عن العمل بتكاليف الشريعة ومحكمات الأحكام احتجاجاً بالقدر ؛ وذلك في صنوف من الأقاويل ،
منها مثلاً : أن هزيمة أعداء الأمة والتمكين للإسلام لن يكون إلا في زمان المهدي ، ومنها : أن انتصارنا على اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال .. !
ومنها : وهذا هو المقصود هنا أن وحدة الأمة لن تتحقق أبداً ؛ لأن القدر محتوم بدوام الافتراق ؛ فلهذا فإن من العبث كما يقولون السعي في الوفاق والاتفاق ، بل إن بعضهم تنطع وعدَّ الدعاء بجمع كلمة المسلمين من التعدي في الدعاء ؛ لأن ذلك يتعارض مع القدر المعلوم باستحالة هذا الجمع !!
ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم ، لعلموا أن الاعتصام بحبل الله حكم شرعي للتنفيذ لا حكم قدري للتعجيز ، أو من باب ( التكليف بما لا يطاق ) ؛ فاجتماع قلوب المسلمين على العمل بالدين هو الدين ، وتفرقهم وتنازعهم وفرقتهم بمزاعم قدرية أو حزبية أو مصلحية هو هدم لأهم عوامل التمكين ؛ ألم يأمر الله تعالى بالاجتماع في قوله سبحانه :
[ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا ]( آل عمران : 103 ) ؟ إن هذه الآية أصل في فقه الوفاق ، وقاعدة من قواعد العلاقات بين المسلمين ، ولو كان الاجتماع والوفاق مستحيلًا قدرًا، لما جاء الأمر به شرعاً .
قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية : " يعني بذلك جل ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعاً ، يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق ، والتسليم لأمر الله "4 ،
ولو كان ذلك الاجتماع غير مقدور لما فُسرت الآية بذلك .
وقال المفسر ابن عاشور - رحمه الله - عند كلامه على هذه الآية : " هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية " وعلل ذلك بأنها تشتمل في أولها على النهي عن الموت على غير الإسلام ، بما يستوجب النهي عن مفارقة الإسلام طول الحياة ، وأنها تشتمل كذلك على الأمر الشرعي بالاعتصام وعدم التفرق بما يستوجب الأخذ بأسباب ذلك وقال - رحمه الله - : " أمرهم بما فيه صلاح حالهم في دنياهم ، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماءً "5 فأين هذا من قول من يقول : إن الفرقة قدر غالب ، وضربة لازب ؟! إن الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعية ، كما أن النهي عن الفُرقة هو نهي عن مسبباتها من المناهي الشرعية ، ولذلك قال العلامة أبو السعود في تفسير الآية نفسها : [ وَلاَ تَفَرَّقُوا ]( آل عمران : 103 ) :
" لا تُحدِثوا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة " 6 .
وما يوجب التفرق ويزيل الألفة ، نعرفه جميعاً في كثير من المجالس والمنتديات ، وفي أكثر المجادلات والحوارات الخالية من أدب الحوار الإسلامي ، وإذا كان بذل الأسباب لتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين واجباً شرعياً ، فإن مع ذلك الواجب واجباً آخر أوجب ، وهو أن يكون هذا الإخاء مبنياً على الالتفاف حول ثوابت هذا الدين ومحكماته .
يــــــــتـــــبــــع بإذن الله
تعليق