السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
" المعاصي القلبية "
كما أن المعاصي تكتسب بالجوارح، فإنها تكتسب بالقلب أيضًا، وهي من باطن الإثم الذي أمرنا ربنا بتركه، فقال : " وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ " [الأنعام: 120] .
وسيكون الكلام في تلك المعاصي بذكر أقسامها، وأمثلتها وواقع كثير من الناس تجاهها .
---*-*---*-*---*-*---*-*---
المطلب الأول : أقسام المعاصي القلبية وأمثلتها :
ذكر ابن القيم أن المحرمات القلبية ضربان :
الأول : ما يكون كفرًا، كالشك، والنفاق، والشرك، وتوابعها .
الثاني : ما يكون معصية دون الكفر، وهي نوعان :
(1) كبائر : ومثل لها ابن القيم بالرياء، والعجب والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم .
ثم قال : (وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها، وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن.. وهذه الأمور قد تكون صغائر في حقه، وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها) (مدارج السالكين) .
ويشهد لما ذكره ابن القيم من أن معاصي القلوب في الجملة أعظم من المعاصي الظاهرة قوله صلى الله عليه وسلم : «لو لم تذنبوا، لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك، العجب» (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وهو في السلسلة الصحيحة) .
وقوله لأصحابه وأمته من بعدهم : «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر : الرياء» (رواه أحمد وهو في السلسلة الصحيحة).
(2) صغائر : ومثل لها ابن القيم بشهوة المحرمات وتمنيها ، فقال : (ومن الصغائر أيضًا شهوة المحرمات وتمنيها، وتتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر، بحسب تفاوت درجات المشتهي، فشهوة الكفر والشرك كفر، وشهوة البدعة فسق، وشهوة الكبائر : معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب، وإن تركها عجزًا بعد بذله مقدوره في تحصيلها، استحق عقوبة الفاعل...) (مدارج السالكين) .
وما سبق تقريره من تحريم هذه الأعمال قد دلت عليه أدلة الكتاب والسنة .
فمن الآيات القرآنية الدالة على بعض المحرمات القلبية، قوله سبحانه " أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ " [الأعراف:99] .
وقوله : " قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ " [الحجر: 56] .
وقوله : " إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ " [يوسف: 87] .
وقوله : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " [الحجرات: 12] .
وقوله : " يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ " [آل عمران: 154] (انظر:كلامًا حسنًا في موضوع سوء الظن بالله ومظاهره وانتشاره: لابن القيم وابن الجوزي وابن عقيل في تيسير العزيز الحميد) .
ومن الأحاديث النبوية في هذا قوله صلى الله عليه وسلم : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» (رواه مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تسأل عنهم : رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العز، ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله» (رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة) وقوله صلى الله عليه وسلم : «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»(رواه مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم : «الكبائر الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله» (رواه البزار وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة) .
" تأثير التفريط في القيام بالطاعات القلبية في التلبس بمعاصيها "
إن أعمال القلوب منها : الطاعات والمعاصي .
والواقع أن هناك أثرًا للتفريط في القيام بالطاعات القلبية في التلبس بمعاصيها ، فالقلب وعاء إن عُمِّر بالإيمان واليقين ومحبة الله جل وعلا والإخلاص له وخشيته والرجاء له ونحو ذلك من طاعات القلوب، فإنه سيتخلص مما يضاد ذلك من المعاصي القلبية، كالشك، وتعلق القلب بغير الله، والرياء، ونحوها .
وإن حصل تفريط في القيام بتلك الفرائض القلبية نتج من ذلك التلبس بمعاصي القلب .
يبين هذه الحقيقة ابن القيم حيث يقول : (فوظيفة " إِيَّاكَ نَعْبُدُ " على القلب قبل الجوارح، فإذا جهلها وترك القيام بها، امتلأ بأضدادها ولابد، وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها) (مدارج السالكين) .
ومما يوضح ذلك أن محبة الله وخشيته والإنابة إليه والإخلاص كلها من عبادات القلب، والتعلق القلبي بغير الله من خلال العشق المحرم من المعاصي .
يقول ابن تيمية : (وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه، وإلا فالقلب المنيب إلى الله، الخائف منه فيه صارفان يصرفانه عن العشق، أحدهما إنابته إلى الله، ومحبته له، فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء، فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه) .
الثاني : خوفه من الله، فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه (مجموع الفتاوى) .
وذكر ابن القيم نحوًا مما ذكره شيخه، واستدل عليه بقوله تعالى في حق يوسف " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " [يوسف: 24] فالآية تفيد : (أن الإخلاص سبب لدفع العشق، وما يترتب عليه من السوء والفحشاء، التي هي ثمرته ونتيجته، فصرف المسبب صرف لسببه) (زاد المعاد وانظر: الاستدلال بالآية على نحو ذلك في مجموع الفتاوى . قال الشوكاني : (قرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو " المخلصين " بكسر اللام، وقرأ الآخرون بفتحها، والمعنى على القراءة الأولى أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة) فتح القدير) .
الكلم الطيب
تعليق