من لوازمِ «رضيتُ باللهِ رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً».أن ترضى عن ربِّك سبحانه وتعالى، فترضى بأحكامِه، وترضى بقضائِه وقدرِهِ، خيرِه وشرِه، حُلوِه ومُرِّه.
إن الانتقائية بالإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ ليستْ صحيحةً، وهي أن ترضى فَحَسْبُ عند موافقةِ القضاءِ لرغباتِك، وتتسخَّط إذا خالف مرادك وميْلك، فهذا ليس من شأنِ العبدِ.
إن قوماً رضُوا بربِّهم في الرخاءِ وسخطُوا في البلاءِ، وانقادُوا في النعمةِ وعاندُوا وقت النقمةِ، {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}.
لقدْ كان الأعرابُ يُسْلمون، فإذا وجدُوا في الإسلامِ رغداً بنزولِ غيثٍ، ودرِّ لبنٍ، ونبْتِ عشبٍ، قالوا: هذا دينُ خيْرٍ. فانقادُوا وحافظوا على دينِهم.
فإذا وجدُوا الأخرى، جفافاً وقحْطاً وجدْباً واضحملالاً في الأموالِ وفناءً للمرعى، نكصُوا على أعقابهم وتركُوا رسالتهم ودينهم.
هذا إذن إسلامُ الهوى، وإسلامُ الرغبةِ للنفس.
إن هناك أناساً يرضون عن اللهِ عزَّ وجلَّ، لأنهم يريدون ما عند اللهِ، يريدون وجهه، يبتغون فضلاً من اللهِ ورضواناً، يسعون للآخرةِ.
رضينا بك اللهمَّ رباً وخالقاً *** وبالمصطفى المختارِ نوراً وهاديا
فإمَّا حياةٌ نظَّم الوحيُ سيرها *** وإلا فموتٌ لا يسُرُّ الأعاديا
إن الرّضا بوابةُ الديانةِ الكبرى، منها يَلجُ المقرَّبون إلى ربِّهم، الفرحون بهداه، المنقادون لأمرِه، المستسلمون لحكمه.
قَسَّمَ صلى الله عليه وسلم غنائم حُنَيْنٍ، فأعطى كثيراً من رؤساءِ العربِ ومتأخري العرب، وترك الأنصار، ثقةً بما في قلوبِهم من الرضى والإيمانِ واليقين والخيرِ العميمِ، فكأنهم عتبُوا لأن المقصود لم يظهر لهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم وفسَّرَ لهم السرَّ في المسألةِ، وأخبرهم أنه معهم، وأنه يحبُّهم، وأنه ما أعطى أولئك إلا تأليفاً لقلوبهم، لنقْصِ ما عندهم من اليقين.
وأما الأنصارُ فقال لهم: «أما ترضون أن ينطلق الناس بالشاء والبعير، وتنطلقون برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى رحالِكم؟! الأنصار شعارٌ، والناسُ دِثار، رحم اللهُ الأنصار، وأبناء الأنصارِ، وأبناء أبناءِ الأنصارِ، لو سلك الناسُ شِعْباً ووادياً، وسلك الأنصارُ شعباً ووادياً لسلكتُ وادي الأنصارِ وشِعْبَ الأنصارِ».
فغمرتْهم الفرحةُ. وملأتْهم المسرَّةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وفازوا برضا اللهِ ورضا رسولِهِ صلى الله عليه وسلم.
إن الذين يتطلعون إلى رِضْوانِ اللهِ ويتشوَّقون إلى جنَّةٍ عرضُها السماواتُ والأرضُ، لا يقبلون الدنيا بحذافيرِها بدلاً من هذا الرضوانِ، ولا عوضاً عن هذا النوالِ العظيمِ.
أسلم أعرابيٌّ بين يدي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأعطاه صلى الله عليه وسلم بعض المالِ، فقال: يا رسول اللهِ، ما على هذا بايعتُك. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «على ماذا بايعتني؟»، قال: بايعتُك على أن يأتيني سهمٌ طائش فيقع هنا (وأشار إلى حلْقِه) ويخرج من هنا (وأشار إلى قفاه). قال له: «إن تصْدُقِ اللهُ يصدقُكَ».
وحضر المعركة، وجاءه سهمٌ طائش ونفذ من نحرِه، ولقي ربَّه راضياً مرضيّا.
ما المالُ والأيَّامُ ما الدُّنيا وما *** تلك الكنوزُ من الجواهرِ والذَّهَبْ
ما المجدُ والقصرُ المنيفُ وما المنى *** ما هذه الأكداسُ مِن أغلى النشبْ
لا شيء كُلُّ نفيسةٍ مرغوبةٍ *** تفنى ويبقى اللهُ أكرم من وَهَبْ
ووزَّع صلى الله عليه وسلم ذات يوم أموالاً، فأعطى أناساً. قليلي الدين، ضحلى الأمانة، مقفرين في عالم المُثُل، وترك أناساً ثُلَّمتْ سيوفُهم في سبيلِ اللهِ، وأُنفقتْ أمواُلهم، وجُرحتْ أجسامُهم في الجهادِ والذبِّ عن الملَّةِ، ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيباً في المسجدِ وأخبرهم بالأمرِ، وقال لهم: «إني أعطي أناساً لمِا جعل اللهُ في قلوبِهم من الجزعِ والطمعِ، وأدَعُ أناساً لما جعل اللهُ في قلوبِهم من الإيمانِ – أو الخيْرِ – منهم: عمرو بنُ تغلب». فقالَ عمروُ بنُ تغلب: كلمةً ما أريدُ أنَّ لي بها الدنيا وما فيها.
إنه الرضا عن اللهِ عزَّ وجلَّ الرضا عن حكْمِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلم، طلبَ ما عندَ اللهِ، إنَّ الدنيا لا تساوي عند الصحابي الواحد كلمة راضية باسمة منه صلى الله عليه وسلم.
لقد كانت وُعودُ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابِه ثواباً من عندِ اللهِ، وجنةً عنده ورضواناً منه، لم يَعِدْ صلى الله عليه وسلم أحداً منهم بقصرِ أو ولايةِ إقليمٍ أو حديقةٍ. كان يقول لهم: من يفعلُ كذا وله الجنةُ؟ ولآخر: وهو رفيقي في الجنةِ؟ لأن البذلُ الذي بذلوه والمالُ الذي أنفقوه والجهدُ الذي قدموه، لا جزاء له إلا في الدارِ الآخرةِ، لأن الدنيا بما فيها لا تكافئُ المجهود الضخم؛ لأنها ثمنٌ بخيسٌ، وعطاءٌ رخيصٌ وبذْلٌ زهيدٌ.
وعند الترمذيِّ: يستأذنُ عمرُ رضي اللهُ عنه رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم في العمرةِ، قال: «لا تنسنا من دعائِك يا أخي».
وقائل هذه الكلمة هو رسولُ الهدى صلى الله عليه وسلم، الإمامُ المعصومُ، الذي لا ينطقُ عن الهوى، ولكنها كلمةٌ عظيمةٌ وثمينةٌ ونفيسةٌ، قال عمرُ فيما بعدُ: كلمة ما أريد أنَّ لي بها الدنيا وما فيها.
ولك أنْ تشعر أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم، قال لك أنت بعينكِ: لا تْنسنا من دعائك يا أخي.
كان رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه فوق ما يصفُه الواصفون، فهو راضٍ في الغنى والفقرِ، راضٍ في السلْمِ والحربِ، راضٍ وقت القوةٍ والضعفِ، راضٍ وقت الصحةِ والسقمِ، راضٍ في الشدةِ والرخاءِ.
عاش صلى الله عليه وسلم مرارة اليُتْمِ، وأسى اليتمِ، ولوعة اليتمِ فكان راضياً، وافتقر صلى الله عليه وسلم حتى ما يجد دَقَلَ التمرِ أي رديئه، وكان يربطُ الحجر على بطنِه من شدَّةِ الجوعِ، ويقترضُ شعيراً من يهودي ويرهنُ درعه عنده، وينامُ على الحصير فيؤثرُ في جنبِه، وتمرُّ ثلاثةُ أيام لا يجدُ شيئاً يأكلُه، ومع ذلك كان راضياً عن اللهِ ربِّ العالمين{تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}.
ورضي عن ربِّه وقت المجابهةِ الأولى، يوم وقَفَ هو في حزبِ اللهِ، ووقفتِ الدنيا كلُّ الدنيا تحاربُه بخيلِها ورجِلها، بغناها بزخرفِها، بزهوِها بخيلائها، فكان راضياً عن اللهِ. رضي عنِ اللهِ في الفترةِ الحرجةِ، يوم مات عمُّه وماتت زوجتٌه خديجةُ، وأُوذي أشدَّ الأذى، وكُذب أشدَّ التكذيبِ، وخُدشتُ كرامتُه، ورُمي في صِدْقِهِ، فقيل له: كذَّابٌ، وساحرٌ، وكاهنٌ، ومجنونٌ، وشاعرٌ.
ورضي يوم طُرِد من بلدِه، ومسقطِ رأسهِ، فيها مراتعُ صباه، وملاعبُ طفولتِه، وأفانينُ شبابِه، فيلتفتُ إلى مكة وتسيلُ دموعُه، ويقول: «إنكِ أحبُّ بلادِ اللهِ إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ».
ورضي عن اللهِ وهو يذهبُ إلى الطائفِ ليعرِض دعوته، فيُواجه بأقبحِ ردٍّ، وبأسوأِ استقبالٍ، ويُرمى بالحجارةِ حتى تسيل قدماه، فيرضى عن مولاه.
ويرضى عن اللهِ وهو يخرج من مكة مرغماً، فيسير إلى المدينة ويُطاردُ بالخيلِ، وتُوضعُ العراقيلُ في طريقِه أينما ذهب.
يرضى عن ربه في كلِّ موطنٍ، وفي كل مكانٍ، وفي كل زمنٍ.
يحضر أُحُداً صلى الله عليه وسلم فيُشجّ رأسُه، وتُكسرُ ثنيتُه، ويُقتلُ عمُّه، ويُذبحُ أصحابهُ، ويُغلبُ جيشُه، فيقول: «صُفُّوا ورائي لأُثني على ربي».
يرضى عن ربِّه وقد ظهر حِلْفٌ كافرٌ ضدَّه من المنافقين واليهود والمشركين، فيقف صامداً متوكِّلاً على اللهِ، مفوِّضاً الأمر إليه.
وجزاءُ هذا الرضا منه صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}.
والحمدلله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات وللمسلمين وللمسلمات الاحياء والاموات
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات وللمسلمين وللمسلمات الاحياء والاموات
تعليق