تعاملْ معَ الأمرِ الواقعِ
عائض بن عبد الله القرني
إذا هوَّنت ما قدْ عزَّ هان، وإذا أيسْت من الشيءِ سلتْ عنهُ نفسُك: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}
قرأتُ أنَّ رجلاً قفز منْ نافذةٍ وكان بأصبعِه اليسرى خاتم، فنشب الخاتمُ بمسمارِ في النافذةِ، ومع سقوطِ الرجلِ اقتلع المسارُ أصبعه من أصلها، وبقي بأربعُ أصابع، يقولُ عنْ نفسِهِ: لا أكادُ أتذكَّرُ أن لي أربعُ أصابع في يدٍ فحسبُ، أو أنني فقدتُ أصبُعاً من أصابعِي إلا حينما أتذكرُ تلك الواقعةَ، وإلا فعلمي على ما يرامُ، ونفسي راضيةٌ بما حدث: «قدّر اللهُ وما شاء فعل».
وأعرفُ رجلاً بُتِرتْ يدُه اليسرى من الكتِفِ لمرضٍ أصابهُ، فعاش طويلاً وتزوَّج، ورُزق بنين، وهو يقودُ سيارتهُ بطلاقةٍ، ويؤدي عمله بارتياحٍ، وكأنَّ اللهِ لم يخلقْ له إلا يداً واحدةً: «ارض بما قسم اللهُ لك، تكنْ أغنى الناس».
ما أسرع ما نتكيَّف مع واقعِنا، وما أعجب ما نتأقلمُ مع وضعِنا وحياتِنا، قبل خمسين سنةً كان قاعُ البيتِ بساطاً منْ حصيرٍ النخلِ، وقربة ماءٍ، وقدراً منْ فخارٍ، وقصعةً، وجفنةً، وإبريقاً، وقامتْ حياتُنا واستمرتْ معيشتُنا، لأننا رضينا وسلَّمنا وتحاكمْنا إلى واقعِنا.
منْ أعنفِ الأيام في حياتي، ومن أفظعِ الأوقاتِ في عمري: تلك الساعةُ التي أخبرني فيها الطبيبُ المختصُّ ببترِ يد أخي محمدٍ رحمه اللهُ من الكتفِ، ونزل الخبرُ على سمعي كالقذيفةِ، وغالبتُ نفسي، وثابتْ روحي إلى قولِ المولى: {ما أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقولهِ: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
كانتْ هذه الآياتُ برْداً وسلاماً وروْحاً وريْحاناً.
وليس لنا من حيلةٍ فنحتالُ، إنما الحيلةُ في الإيمانِ والتسليمِ فَحَسْبُ، {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
إن الخنساء النخعيةَ تُخبرُ في لحظةٍ واحدةِ بقتلِ أربعةِ أبناءٍ لها في سبيلِ اللهِ بالقادسيةِ، فما كان منها إلا أنْ حمدتِ ربَّها، وشكرتْ مولاها على حُسْن الصنيعِ، ولطفِ الاختيارِ، وحلولِ القضاءِ؛ لأنَّ هناك معيناً من الإيمانِ، ورافداً من اليقينِ لا ينقطعُ، فمثلُها تشكرُ وتُؤجرُ وتسعدُ في الدنيا والآخرةِ، وإذا لمْ تفعلْ هذا فما هو البديلُ إذنْ؟! التسخُّطُ والتضجُّرُ والاعتراضُ والرفضُ، ثم خسارةُ الدنيا والآخرةِ! «فمنْ رضي فلهُ الرَّضا، ومنْ سخط فله السخطُ».
إن بلسم المصائبِ وعلاج الأزماتِ، قولُنا: {إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون}.
والمعنى: كلُّنا للهِ، فنحنُ خَلْقُه وفي ملكِهِ، ونحنُ نعودُ إليهِ، فالمبدأُ منه، والمعادُ إليه، والأمرُ بيدهِ، فليس لنا من الأمرِ شيءٌ.
لو فوجئت بخبرٍ صاعقِ باحتراقِ بيتِك، أو موتِ ابنك، أو ذهابِ مالك فماذا عساك أنْ تفعل؟ من الآنِ وطِّنْ نفسك، لا ينفعُ الهربُ، لا يجدي الفرارُ والتملُّصُ من القضاء والقدر، سلِّمْ بالأمرِ، وارض بالقدرِ، واعترفْ بالواقعِ، واكتسبِ الأجر، لأنه ليس أمامك إلا هذا. نعمْ هناك خيارٌ آخرُ، ولكنه رديءٌ أحذِّرك منُه، إنه: التبرُّمُ بما حَصَلَ والتضجُّرُ مما صار، والثورةُ والغضبُ والهيجان، ولكنْ تحصلُ على ماذا منْ هذا كلِّه؟! إنك سوف تنالُ غضب الربِّ جلَّ في عليائِه، ومقْت الناسِ، وذهاب الأجْرِ، وفادح الوزرِ، ثمَّ لا يعودُ عليك المصاب، ولا ترتفعُ عنك المصيبةُ، ولا ينصرفُ عنك الأمرُ المحتومُ:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
عائض بن عبد الله القرني
إذا هوَّنت ما قدْ عزَّ هان، وإذا أيسْت من الشيءِ سلتْ عنهُ نفسُك: {سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ}
قرأتُ أنَّ رجلاً قفز منْ نافذةٍ وكان بأصبعِه اليسرى خاتم، فنشب الخاتمُ بمسمارِ في النافذةِ، ومع سقوطِ الرجلِ اقتلع المسارُ أصبعه من أصلها، وبقي بأربعُ أصابع، يقولُ عنْ نفسِهِ: لا أكادُ أتذكَّرُ أن لي أربعُ أصابع في يدٍ فحسبُ، أو أنني فقدتُ أصبُعاً من أصابعِي إلا حينما أتذكرُ تلك الواقعةَ، وإلا فعلمي على ما يرامُ، ونفسي راضيةٌ بما حدث: «قدّر اللهُ وما شاء فعل».
وأعرفُ رجلاً بُتِرتْ يدُه اليسرى من الكتِفِ لمرضٍ أصابهُ، فعاش طويلاً وتزوَّج، ورُزق بنين، وهو يقودُ سيارتهُ بطلاقةٍ، ويؤدي عمله بارتياحٍ، وكأنَّ اللهِ لم يخلقْ له إلا يداً واحدةً: «ارض بما قسم اللهُ لك، تكنْ أغنى الناس».
ما أسرع ما نتكيَّف مع واقعِنا، وما أعجب ما نتأقلمُ مع وضعِنا وحياتِنا، قبل خمسين سنةً كان قاعُ البيتِ بساطاً منْ حصيرٍ النخلِ، وقربة ماءٍ، وقدراً منْ فخارٍ، وقصعةً، وجفنةً، وإبريقاً، وقامتْ حياتُنا واستمرتْ معيشتُنا، لأننا رضينا وسلَّمنا وتحاكمْنا إلى واقعِنا.
والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبْتها *** وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقْنعُ
وقعتْ قتنةٌ بين قبيلتينِ في الكوفةِ في المسجدِ الجامعِ، فسلُّوا سيوفهم، وامتشقوا رماحهم، وهاجتْ الدائرةُ، وكادتِ الجماجمُ تفارقُ الأجسادَ، وانسلَّ أحدُ الناسِ من المسجدِ ليبحث عن المُصْلحِ الكبيرِ والرجلِ الحليمِ، الأحنفِ بنِ قيسٍ، فوجدهُ في بيتِه يِحلبُ غنمه، عليه كساءٌ لا يساوي عشرة دراهم، نحيلُ الجسمِ، نحيفُ البنيةِ، أحنفُ الرجلين، فأخبروه الخبرَ فما اهتزتْ في جسمِهِ شعرةٌ ولا اضطرب؛ لأنه قدِ اعتاد الكوارث، وعاش الحوادث، وقال لهم: خيراً إنْ شاء اللهُ، ثم قُدِّم له إفطارُه وكأنْ لم يحدثْ شيءٌ، فإذا إفطارهٌ كِسْرةٌ من الخبزِ اليابسِ، وزيتٌ وملحٌ، وكأسٌ من الماءِ، فسمَّى وأكل، ثمَّ حمدَ اللهَ، وقال: بُرٌّ منْ بُرِّ العراق، وزيتٌ من الشامِ، مع ماءِ دجلة، وملح مرو، إنها لنعمٌ جليلةٌ. ثم لبس ثوبَهَ، وأخذ عصاهُ، ثم دلف على الجموعِ، فلمّا رآه الناسُ اشرأبَّتْ إليه أعناقُهم، وطفحتْ عليه عيونُهم، وأنصتوا لما يقولُ، فارتحل كلمة صُلْحٍ، ثمَّ طلب من الناسِ التفرُّق، فذهب كلُّ واحداً منهمْ لا يلوي على شيءٍ، وهدأت الثائرةُ، وماتتِ الفتنةُ.قدْ يدركُ الشرف الفتى ورداؤُهُ *** خَلَقٌ وجيْبُ قميصِه مَرْقوعُ
- في القصةِ دروسٌ، منها: أنَّ العظمة ليستْ بالأبهةِ والمظهرِ، وأنَّ قلَّة الشيءِ ليستْ دليلاً على الشقاءِ، وكذلكالسعادةُ ليستْ بكثرةِ الأشياءِ والترفُّهِ: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ . وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}.
وأنَّ المواهب والصفاتِ الساميةِ هي قيمةُ الإنسان، لا ثوْبُهُ ولا نعلُهُ ولا قَصْرُهُ ولا دارُهُ، إنها وزنهُ في علمهِ وكرمهِ وحلمهِ وعقلهِ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وعلاقةُ هذا بموضوعِنا أن السعادة ليستْ في الثراءِ الفاحشِ، ولا في القصْرِ المنيفِ، ولا في الذهبِ والفضَّةِ، ولكنَّ السعادةَ في القلبِ بإيمانهِ، برضاهُ، بأنسهِ، بإشراقهِ: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ}، {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.
عوِّدْ نفسك على التسليمِ بالقضاءِ والقدرِ، ماذا تفعلُ إذا لمْ تؤمنْ بالقضاءِ والقدرِ، هلْ تتخذُ في الأرضِ نفقاً أو سُلَّماً في السماءِ، لنْ ينفعك ذلك، ولنْ ينقذك من القضاءِ والقدرِ. إذنْ فما الحلّ؟
الحلُّ: رضينا وسلَّمنا: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}.
منْ أعنفِ الأيام في حياتي، ومن أفظعِ الأوقاتِ في عمري: تلك الساعةُ التي أخبرني فيها الطبيبُ المختصُّ ببترِ يد أخي محمدٍ رحمه اللهُ من الكتفِ، ونزل الخبرُ على سمعي كالقذيفةِ، وغالبتُ نفسي، وثابتْ روحي إلى قولِ المولى: {ما أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، وقولهِ: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
كانتْ هذه الآياتُ برْداً وسلاماً وروْحاً وريْحاناً.
وليس لنا من حيلةٍ فنحتالُ، إنما الحيلةُ في الإيمانِ والتسليمِ فَحَسْبُ، {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ}، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
إن الخنساء النخعيةَ تُخبرُ في لحظةٍ واحدةِ بقتلِ أربعةِ أبناءٍ لها في سبيلِ اللهِ بالقادسيةِ، فما كان منها إلا أنْ حمدتِ ربَّها، وشكرتْ مولاها على حُسْن الصنيعِ، ولطفِ الاختيارِ، وحلولِ القضاءِ؛ لأنَّ هناك معيناً من الإيمانِ، ورافداً من اليقينِ لا ينقطعُ، فمثلُها تشكرُ وتُؤجرُ وتسعدُ في الدنيا والآخرةِ، وإذا لمْ تفعلْ هذا فما هو البديلُ إذنْ؟! التسخُّطُ والتضجُّرُ والاعتراضُ والرفضُ، ثم خسارةُ الدنيا والآخرةِ! «فمنْ رضي فلهُ الرَّضا، ومنْ سخط فله السخطُ».
إن بلسم المصائبِ وعلاج الأزماتِ، قولُنا: {إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون}.
والمعنى: كلُّنا للهِ، فنحنُ خَلْقُه وفي ملكِهِ، ونحنُ نعودُ إليهِ، فالمبدأُ منه، والمعادُ إليه، والأمرُ بيدهِ، فليس لنا من الأمرِ شيءٌ.
نفسي التي تملكُ الأشياء ذاهبةٌ *** فكيف أبكي على شيءٍ إذا ذهبا
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}.لو فوجئت بخبرٍ صاعقِ باحتراقِ بيتِك، أو موتِ ابنك، أو ذهابِ مالك فماذا عساك أنْ تفعل؟ من الآنِ وطِّنْ نفسك، لا ينفعُ الهربُ، لا يجدي الفرارُ والتملُّصُ من القضاء والقدر، سلِّمْ بالأمرِ، وارض بالقدرِ، واعترفْ بالواقعِ، واكتسبِ الأجر، لأنه ليس أمامك إلا هذا. نعمْ هناك خيارٌ آخرُ، ولكنه رديءٌ أحذِّرك منُه، إنه: التبرُّمُ بما حَصَلَ والتضجُّرُ مما صار، والثورةُ والغضبُ والهيجان، ولكنْ تحصلُ على ماذا منْ هذا كلِّه؟! إنك سوف تنالُ غضب الربِّ جلَّ في عليائِه، ومقْت الناسِ، وذهاب الأجْرِ، وفادح الوزرِ، ثمَّ لا يعودُ عليك المصاب، ولا ترتفعُ عنك المصيبةُ، ولا ينصرفُ عنك الأمرُ المحتومُ:{فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات,وللمسلمين وللمسلمات الاحياء والاموات