من أسماء الله الحسنى
( الحليم )
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/55268/#ixzz3N8N9BnjO
( الحليم )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[1] ومن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة الحليم، قال بعضهم ذكر هذا الاسم في كتاب الله إحدى عشرة مرة، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 235]. وقال تعالى: ﴿ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 263].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ»[2].
قال ابن جرير: حليم ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم[3]، وقال الخطابي: هو ذو الصفح، والأناة الذي لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص. ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحلم، إنما الحليم هو الصفوح مع القدرة والمتأني الذي لا يعاجل بالعقوبة، قال الشاعر:
لَا يُدْرِكُ المَجدَ أقوامٌ وإن كَرُمُوا
حتى يَذِلُّوا وإن عَزُّوا لأقوامِ
ويُشتَموا فترى الألوان مسفرةً
لا صفح ذُلٍّ ولكن صفحَ أحلامِ[4]
قال ابن كثير: «حَلِيمٌ غَفُورٌ» أن يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه، وهو يحلم فيؤخر ويُنْظِر ويؤجِّل ولا يعجل، ويستر آخرين ويغفر[5].
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولًا: إثبات صفة الحلم لله عز وجل وهي الصفح عن العصاة من العباد وتأجيل عقوبتهم لعلهم يتوبوا ويرجعوا.
ثانيًا: سؤال المؤمن ربه بهذه الصفة العظيمة الحلم فيقول: يا حليم اعف عني، واصفح واستر.
ثالثًا: حلم الله سبحانه على عباده وتركه المعاجلة لهم بالعقوبة[6].
قال الشاعر:
مَا أَحلمَ اللَّهَ عَنِّي حَيْثُ أَمْهَلَني
وقَدْ تَمَادَيتُ في ذَنْبِي ويَسْتُرُنِي
«وإن سألت عن حلمه، فهو الحليم الذي قد كمل في حلمه، فله الحلم الكامل الذي وسع السماوات والأرض. وسع حلمه أهل الكفر والفسوق والعصيان، حيث أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، بل يعافيهم ويمهلهم ليتوبوا فيتوب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. وهو يتحبب إليهم بالنعم مع كمال غناه، ولو شاء لأخذهم بذنوبهم فور صدورها منهم، ولكن حلمه سبحانه هو الذي اقتضى إمهالهم. قال جل جلاله: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45][7].
قال ابن القيم - رحمه الله -:
وهو الحَلِيمُ فلا يُعَاجِلُ عَبدَهُ بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِن عِصيَانِ[8] |
ولولا حلمه ومغفرته، لزلزلت السماوات والأرض من معاصي العباد. فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [فاطر: 41].
فتأمل ختم هذه الآية باسمين من أسمائه وهما (الحليم والغفور) كيف تجد تحت ذلك أنه لولا حلمه عن الجُناة ومغفرته للعصاة، لما استقرت السماوات والأرض؟[9].
وفي الآية إشعار بأن السماوات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد، فيمسكهما بحلمه ومغفرته[10].
رابعًا: حلم الله عظيم يتجلى في صبره سبحانه على خلقه، والصبر داخل تحت الحلم فكل حليم صابر، وقد جاء في السنة وصف الله تعالى بالصبر.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ أَحَدٌ، أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»[11].
وهو سبحانه أعظم العظماء، وملك الملوك، وأكرم الأكرمين وإحسانه فوق كل إحسان مع هذا الشتم له والتكذيب يرزق الشاتم المكذب ويُعَافيه ويدفع عنه، ويدعوه إلى جنته ويقبل توبته إذا تاب إليه ويبدله بسيئاته حسنات، ويتلطف به في جميع أحواله، ويؤهله لإرسال رسله إليه ويأمرهم بأن يُلَيِّنُوا له القول ويرفُقُوا به، فأيُّ حلم أعظمُ من هذا؟![12].
وقد أخبر سبحانه عن تأخيره لعقاب من أذنب من عباده في الدنيا، وأنه لو كان يؤاخذهم بذنوبهم لما بقي على ظهر الأرض أحد، قال تعالى: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [النحل: 61].
قال ابن كثير: يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعًا لإهلاك بني آدم، ولكن الرب يحلم، ويستر وينظر، إلى أجل مسمى، ولا يعاجلهم بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدًا[13].
وقد تحصل هذه العقوبة في الدنيا كما يحدث في بعض الدول الكافرة أو التي تماثلها في الفساد والانحلال من الفيضانات والأعاصير المدمرة والزلازل المهلكة، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31].
خامسًا: يجوز إطلاق صفة الحلم على الخلق، فقد وصف الله أنبياءه بذلك، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾ [هود: 75]. وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب: ﴿ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [هود: 87]. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كَأَنِّي أَنظُرُ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَحكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَومُهُ فَأَدمَوهُ، فَهُوَ يَمسَحُ الدَّمَ عَن وَجهِهِ، وَيَقُولُ: «رَبِّ اغفِر لِقَومِي فَإِنَّهُم لَا يَعلَمُونَ»[14].
والحلم من الصفات العظيمة التي يريد الله من عباده أن يتحلوا بها. روى مسلم في صحيحه من حديث الأشج بن عبد القيس- رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ»[15].
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أكثر الناس حلمًا. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه - أنه قال: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ[16].
وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
والصفات التي يشترك فيها الخالق والمخلوق تكون في الخالق سبحانه على قدر عظمته وجلاله وفي المخلوق بحسبه والله سبحانه وتعالى يحب من اتصف بهذه الصفات فهو حليم يحب الحلماء، وكريم يحب الكرماء، وصبور يحب الصابرين.
قال القرطبي: فمن الواجب على من عرف أن ربه حليم على من عصاه، أن يحلم هو على من خالف أمره، فذاك به أولى حتى يكون حليمًا فينال من هذا الوصف بمقدار ما يكسر سورة غضبه ويرفع الانتقام عن من أساء إليه، بل يتعود الصفح حتى يعود الحلم له سجية، وكما تحب أن يحلم عنك مالِكُكَ، فاحلُم أنت عمَّن تملك لأنك متعبد بالحلم مثاب عليه[17].
قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 40]، وقال تعالى: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
روى الخطيب في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا العِلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الحِلمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوَقَّهُ»[18].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] برقم 2736 وصحيح مسلم برقم 2677.
[2] صحيح البخاري برقم 6345 وصحيح مسلم برقم 2730 واللفظ له.
[3] جامع البيان (2/1358).
[4] شأن الدعاء ص63-64.
[5] تفسير ابن كثير (11/338).
[6] النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للنجدي (1/276).
[7] الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبد الهادي وهبي (ص222).
[8] الكافية الشافية (ص209).
[9] الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبد الهادي وهبي (ص222-223).
[10] عدة الصابرين (ص237).
[11] صحيح البخاري برقم 6099، وصحيح مسلم برقم 2804.
[12] شفاء العليل (2/654).
[13] تفسير ابن كثير (8/320).
[14] برقم 6929؛ وصحيح مسلم برقم 1792.
[15] برقم 18.
[16] صحيح البخاري برقم 3149؛ وصحيح مسلم برقم 1057.
[17] الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى ص96 - 97.
[18] (9/127) وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 342.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/55268/#ixzz3N8N9BnjO