إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تعزَّ بالمنكوبين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تعزَّ بالمنكوبين

    تعزَّ بالمنكوبين

    عائض بن عبد الله القرني

    {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى}. وممَّنْ نُكِب نكبةً داميةً ساحقةً ماحقةً: البرامكةُ، أُسرةُ الأُسرةُ الأُبَّهةِ والتَّرَفِ والبذْلِ والسَّخاءِ، وأصبحتْ نكْبتُهم عِبرةً وعظةً ومثلاً، فإنَّ هارون الرشيد سطا عليهمْ بيْن عشيَّةٍ وضُحاها، وكانوا في النعيمِ غافلين، وفي لحافِ الرَّغدِ دافِئين، وفي بستانِ الترفِ مُنعَّين، فجاءهم أمرُ اللهِ ضُحىً وهم يلعبون، على يدِ أقربِ الناسِ إليهم، فخرَّب دُورهم، وهدمَ قصورهُم، وهتك سُتُورهُم، واستلب عبيدهُمْ، وأسال دماءهم، وأوردهم موارد الهالِكين، فَجَرَحَ بمصابِهم قلوب أحبابِهم، وقرَّح بنكالِهم عيون أطفالِهم، فلا إله إلا اللهُ، كم منْ نعمةٍ عليهم سُلبتْ، وكمْ منْ عبرةٍ منْ أجلهِم سُفكتْ، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. قبل نكبتهم بساعةٍ، كانوا في الحرير يرْفُلون، وعلى الدِّيباجِ يزحفون، وبكأسِ الأماني يترعُون، فيها لهوْلِ ما دهاهُم، ويا لفجيعةِ ما علاهم.

    هذا المصابُ وإلاَّ غيرُه جللُ *** وهكذا تُمحقُ الأيَّامُ والدُّولُ
    اطمأنوا في سِنةٍ من الدهرِ، وأمْنٍ من الحدثان، وغفْلةٍ من الأيامِ {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}. خفقتْ على رؤوسِهِمُ البنودُ، واصطفَّتْ على جوانِبِهم الجنودُ.

    كأنْ لم يكُن بين الحَجُونِ إلى الصفّا *** أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكَّة سامِرُ

    رتعُوا في لذَّةِ العيشِ لاهين، وتمتَّعُوا في صفْو الزمان آمنِين، ظنُّوا السراب ماءً، والورم شحْماً، والدنيا خُلُوداً، والفناء بقاءً، وحسبوا الوديعة لا تُستردُّ، والعارية لا تُضمنُ، والأمانة لا تُؤدَّى، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ}.

    فجائعُ الدهرِ ألوانٌ مُنوَّعةٌ *** وللزَّمانِ مَسَرَّاتٌ وأحزانُ
    وهذه الدارُ لا تبقي على أحدٍ *** ولا يدومُ على حالٍ لها شأنُ
    أصبحوا في سرورٍ وأمسوْا في القبورِ، وفي لحظةٍ منْ لحظاتِ غَضَبِ هارونِ الرشيدِ، سلَّ سيف النّقمةِ عليهمْ، فقتل جعفر بن يحيى البرمكيَّ، وصلبهُ ثمَّ أحرق جثمانه، وسجن أباه يحيي بن خالدٍ، وأخاه الفضْل بن يحيى، وصادر أموالهمْ وأملاكهم.

    ولما قَتَلَ أبو جعفر المنصورُ محمد بن عبدِاللهِ بن الحَسَنِ، بعث برأسِهِ إلى أبيهِ عبدِاللهِ بن الحسنِ في السجنِ مع حاجبِهِ الربيعِ، فوضعَ الرأسَ بين يديهِ، فقال: رحمك اللهُ يا أبا القاسم، فقدْ كنت من الذين يُفون بعهدِ اللهِ، ولا ينقُضون الميثاق، والذين يصِلون ما أمر اللهُ بهِ أنْ يُوصل ويخشوْن ربَّهم ويخافون سوء الحسابِ، ثم تمثَّل بقولِ الشاعرِ:

    فتى كان يحميه مِنْ الذُّلِّ سيفُه *** ويكفيه سوءاتِ الأمورِ اجتنابُها
    والتفت إلى الربيع حاجبِ المنصورِ، وقال له: قُلْ لصاحبِك: قدْ مضى منْ بُؤسِنا مُدَّةٌ، ومنْ نعيمِك مِثُلها، والموعدُ اللهُ تعالى!
    وقدْ أخذ هذا المعنى العباسُ بنُ الأحنفِ – وقيل: عمارةُ بنُ عقيلٍ – فقال:


    فإنْ تلحظي حالي وحالكِ مرَّةً *** بنظرةِ عينٍ عنْ هَوَى النَّفْسِ تُحْجبُ
    نجِد كُلَّ مرَّ منْ بُؤسِ عيشتي *** يمُرُّ بيومٍ منْ نعيمكِ يُحْسبُ

    كما في (قولٍ على قول).
    والآن: أين هارون الرشيدُ وأين جعفرُ البرمكيُّ ؟ أين القاتلُ والمقتولُ ؟ أين الآمرُ والمأمورُ ؟ أين الذين أصدر أمره وهو على سريرهِ في قصرهِ ؟ وأين الذي قتِل وصُلِب ؟ لا شيء، أصبحوا كأمسِ الدَّابر، وسوف يجمعُهم الحكمُ العدْلُ ليومِ لا ريب فيه، فلا ظُلْم ولا هضْم، {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى}، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}.

    قيل ليحيى بن خالدٍ البرمكيِّ: أرأيت هذه النكْبة، هل تدري ما سببُها؟ قال: لعلَّها دعوةُ مظلومٍ، سرتْ في ظلامِ الليلِ ونحنُ عنها غافلون.

    ونُكب عبدُالله بنُ معاوية بنِ عبدِاللهِ بنِ جعفر، فقال في حبْسهِ:


    خَرَجْنَا من الدنيا ونحنُ مِن أهلِها *** فلسْنا مِن الأمواتِ فيها ولا الأحياء
    إذا دخل السَّجانُ يوماً لحاجةٍ *** عجِبْنا وقلنا : جاء هذا من الدُّنيا
    ونفرحُ بالرُّؤْيا فجُلُّ حديثِنا *** إذا نحنُ أصبحنا الحديث عن الرُّؤْيا
    فإنْ حسُنتْ كانتْ بطيئاً مجيئُها *** وإنْ قبُحتْ لم تنتظر وأتتْ سعيا

    سجنَ أحدُ ملوكِ فارس حكيماً منْ حكمائِهمْ، فكتب لهُ رقعةً يقولُ: إنها لنْ تمُرَّ عليَّ فيها ساعةٌ، إلا قرَّبتْني من الفرجِ وقرَّبتْك من النِّقمةِ، فأنا أنتظرُ السَّعة، وأنت موعودٌ بالضيِّقِ.

    ويُنكبُ ابنُ عبَّادٍ سلطانُ الأندلسِ، عندما غلب عليه الترفُ، وغلب عليهِ الانحرافُ عنِ الجادَّةِ، فكثرُتِ الجواري في بيتهِ، والدُّفوفُ والطَّنابيرُ، والعزْفُ وسماعُ الغناءِ، فاستغاث يوماً بابن تاشفين – وهو سلطانُ المغربِ – على أعدائِهِ الروم في الأندلسِ، فعبر ابنُ تاشفين البحر، ونصرَ ابن عبَّادِ، فأنزلهُ ابنُ عبَّادٍ في الحدائقِ والقصورِ والدُّورِ، ورحَّب به وأكرمه. وكان ابنُ تاشفين كالأسدِ، ينظرُ في مداخلِ المدينة وفي مخارجِها، لأنَّ في نفسه شيئاً.

    وبعد ثلاثةِ أيام هجم ابنُ تاشفين بجنودِه على المملكةِ الضعيفةِ، وأسر ابن عبَّادٍ وقيَّده وسَلَبَ مُلكه، وأخذ دُوره ودمَّر قصوره، وعاث في حدائقِهِ، ونَقَلَهُ إلى بلدِه (أغماتٍ) أسيراً، {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. فتقلَّد ابنُ تاشفين زِمام الحُكمِ، وادعى أنَّ أهل الأندلسِ همُ الذين استدعوْه وأرادوه.

    ومرَّتِ الأيامُ، وإذا ببناتِ ابنِ عبَّادٍ يصِلْنه في السجنِ، حافياتٍ باكياتٍ كسيِفاتٍ جائعاتٍ، فلمَّا رآهنّ بكى عند البابِ، وقال:

    فيما مضى كُنت بالأعيادِ مسرورا *** فساءك العيدُ في أغمات مأسورا
    ترى بناتِك في الأطمارِ جائعةً *** يغزِلْن للناسِ ما يمْلِكْن قطميرا
    بَرَزْنَ نحْوك للتَّسليمِ خاشعةً *** أبصارُهُنَّ حسيراتٍ مَكاسِيرا
    يطأْن في الطينِ والأقدامُ حافيةٌ *** كأنَّها لم تطأ مِسكاً وكافُورا

    ثمَّ دخل الشاعرُ ابنُ اللَّبانةِ على ابنِ عبّادٍ، فقال له:

    تَنَشَّقْ رياحين السَّلامِ فإنَّما *** أصُبُّ بها مِسْكاً عليك وحَنْتَما
    وقُلْ مجازاً إن عدمت حقيقةً *** بأنك ذو نُعمى فقد كُنت مُنعما
    بكاك الحيا والريحُ شقَّتْ جُيُوبها *** عليها وتاه الرَّعدُ باسمِك مُعْلِما
    وهي قصيدةٌ بديعة، أوْرَدَها الذهبيُّ ومدحها.
    روى الترمذيُّ، عن عطاءٍ، عنْ عائشة – رضي اللهُ عنها وأرضاها – أنَّها مرَّتْ بقبرِ أخيها عبدِالله الذي دُفن فيه بمكة، فسلَّمت عليهِ، وقالتْ: يا عبداللهِ، ما مثلي ومثُلك إلا كما قال مُتمِّمٌ:

    وكُنَّا كندْماني جُذيْمَةَ بُرهةً *** من الدهرِ حتى قِيل لنْ يتصدَّعا
    وعِشْنا بخيرٍ في الحياةِ وقبلنا *** أصاب المنايا رهط كسرى وتُبَّعا
    فلمَّا تفرَّقْنا كأنِّي ومالِكاً *** لطُولِ اجتماعٍ لم نبِتْ ليلةً معا
    ثمَّ بكتْ وودَّعتْه.
    وكان عمرُ رضي اللهُ عنهُ يقولُ لمتمِّمِ بن نويرة: يا متمِّم، والذي نفسي بيده، لَوَدِدْتُ أني شاعرٌ فأرثي أخي زيداً، واللهِ ما هبَّتِ الصّبا منْ نجد إلاَّ جاءتني بريحِ
    زيدٍ. يا متممُ، إنَّ زيداً أسلم قبلي وهاجرَ وقتل قبلي، ثمَّ يبكي عمر.
    • يقول متمِّم:

    لعمْري لقد لام الحبيبُ على البُكا *** حبيبي لِتذْرافِ الدُّموعِ السَّوافِكِ
    فقال أتبكي كلَّ قبرٍ رأيتهُ *** لقبرٍ ثوى بين اللِّوى فالدّكادِكِ
    فقلتُ له إن الشَّجى يبعثُ الشَّجى *** فدعْني فهذا كلُّهُ قبرُ مالِكِ
    نُكب بنو الأحمرِ في الأندلسِ، فجاء الشاعرُ ابنُ عبدون يُعزِّيهم في هذه المصيبةِ فقال:
    الدَّهْرُ يفجعُ بعد العَيْنِ بالأثرِ *** فما البكاءُ على الأشباحِ والصُّورِ
    أنهاك أنهاك لا آلُوك موعظة *** عنْ نوْمَةٍ بين نابِ اللَّيْثِ والظُّفُرِ
    وَلَيْتها إذ فدتْ عمراً بخارجةٍ *** فدتْ عليّاً بمنْ شاءتْ من البشرِ
    {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا }، {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ}.

    والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
    اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات


  • #2
    رد: تعزَّ بالمنكوبين

    جزاكِ الله خيرا

    نفع الله بكِ أختي

    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

    تعليق

    يعمل...
    X