هناكَ ظواهر تقف أمام شبابنا وتعد في ذلك مشكله لهم كيف نتعامل معها
هذا ما سنعرضه في هذا الموضوع
ظــاهرة الحــيره عند الشباب
ليست الحيرة شرًا محضًا؛ فالجزم في حالات الغموض والأوضاع المتنازع في شأنها يعبر عن الجهل وضعف الوعي، لكن ذلك يجب أن يظل محدودًا بمستويات معينة، وإلا أصبح عامل شلل ومصدر يأس وإحباط.
لدى الشباب همة وتطلّع وطموح ورؤى وأحلام... وكل هذا أساسي في كل المراحل العمرية؛ لكن محدودية الخبرة وضعف المعرفة بحدود الواقع ومدى ممانعة المجالات المتاحة... تجعل الفواصل بين الممكن والمستحيل غير مدركة، وهذا يؤدي إلى السقوط في الكثير من الأوهام، ويُحدث بالتالي الكثير من الصدمات النفسية والانعكاسات السلبية.
هل كل هذا طبيعي، وشيء لابد منه ؟ أم أن هناك خللاً ما يجعل ذلك شيئًا خارجًا عما ينبغي أن يكون؟ وما أسباب هذه الوضعية الصعبة؟ وكيف يمكن التخفيف من لأوائها؟ هذا ما أريد أن أتحدث عنه .
ولكن دعوني أشرح أولاً ما قصدته من حيرة الشباب عبر المفردات الآتية :
كثير من شبابنا حائر بين الماضي والحاضر، فهو دائم المقارنة بين ما عرفه عن الماضي المجيد والحضارة الإسلامية الزاهية، وبين واقع مفعم بالمغريات والإنجازات التقنية وألوان المرفهات، لكن شوكة الأمة فيه مخضودة، وراياتها منكسة، وهي عالة على أعدائها في جلّ ما تستهلكه، وتتنعم به حتى طباعة المصاحف وتشييد المآذن، فإن الأمة تعتمد فيهما على العتاد الذي صنعه أعداؤها أو منافسوها، شبابنا حائر بين الركون إلى ماضٍ يمده بالاعتزاز والكبرياء وبالطمأنينة والانتماء، لكنه لا يساعده في الحصول على وظيفة مرموقة .
كما لا يساعد الأمة على بناء حاملة طائرات أو صناعة حاسوب صغير، وبين حاضر يجافي –أو هكذا يشعر الشباب على الأقل- مضامين الإيمان، ويبتعد كثيرًا عن متطلبات التقوى والصلاح والسعي إلى الآخرة، لكن القوى التي تشكّل هذا الواقع هي التي تأتي بالجديد، وتطوّر القديم، وتمنحه التصريح "بالولوج إلى ساحات الشهرة والمال والنفوذ والسرور".
الشباب حائر في أمره بين المضي مع قلبه وبين الاستسلام لمصالحه، وهنا يأتي من يقول له: لا تناقضَ بين الولاء للماضي والانتفاع بالحاضر، وهو يقتنع بهذا لكنه عند التنفيذ العملي يجد نفسه مثل الذي يمشي على حبل مشدود، يخشى أن يسقط ذات اليمين أو ذات الشمال، وكلما مضى في مسيرته وجد أن الكلام سهل، وأن الممارسة وحدها هي التي تكشف عن الصعوبات والتحديات.
كثير من الشباب الصالح حائر في اختيار التخصص والعمل الذي يشبع من خلاله رغباته وحاجاته، ويحقق مصالحه، وفي الوقت نفسه يخدم من خلاله دينه وأمته ودعوته. في الإغراق في التخصص يجد مزية الإتقان والنجاح، ويجني الثروة، ويشعر بالتفوق. وفي التخصص الشرعي وممارسة العمل الدعوي يجد أنه يعمل لآخرته، ويستجيب لأشواق روحه وتطلعات قلبه .
كما أن النجاح في العمل الدعوي قد يجعل منه شخصية عامة، يُشار إليها بالبنان، وتخفق خلفها النعال، كثير من الشباب يشعر بالندم وشيء من الإحباط لأنه درس تخصصًا، لا يحبه، ولا يجد نفسه فيه. وكثير منهم يغبطون غيرهم على تخصصاتهم، في الوقت الذي يكونون فيه موضع غبطة وحسد من غيرهم. وبعض الشباب درس شيئًا، ثم تركه، وصار يعمل في مجالٍ، لا يمت إليه بأي صلة. ومن هنا فإن كثيرًا من الشباب يتمنى لو أنه يستطيع التخصص في أكثر من مجال، والسعي فيما يعمر دنياه وآخرته.
شباب كثيرون حائرون ومترددون بين العمل الفردي والعمل الجماعي، ومنهم سمعوا كثيرًا عن إنجازات الجماعات والمجموعات، كما سمعوا كثيرًا عن عقم الأعمال الفردية والصغيرة وقلة جدواها في مواجهة الطغيان العالمي والمشروعات والمخططات والإمكانات العملاقة؛ كما أنهم سمعوا عن أخطاء الجماعات وسلبياتها وأمراضها وانشقاقاتها... مما يضعف الرغبة في العمل معها. وهم أيضًا يرون أفرادًا كثيرين ينجزون للأمة الكثير من الأعمال العظيمة دون أن يكون لهم ارتباط بأي جماعة أو تنظيم.
ومن المؤسف أن هذه الوضعية تنشر في بعض البيئات الإسلامية معادلة الاستهجان والاستخفاف المتبادل، فأبناء الجماعات ينظرون إلى الشاب الذي يعمل بمفرده نظرة مشوبة بالاستغراب: كيف غابت عنه فضائل العمل الجماعي؟ وكيف نسي الآثار الواردة في التحذير من الفرقة والابتعاد عن الجماعة؟ والشاب الذي يعمل على نحو منفرد، ينظر فيرى ذهابًا وإيابًا لشباب كثيرين حوله، ويرى صولات وجولات، ثم يقول في نفسه ما قاله الأول: "أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا". فمن هو يا ترى المصيب ومن هو المخطئ؟!
حيرة كثير من الشباب من نوع آخر: أنهم سمعوا من يقول: نحن نعيش صحوة إسلامية حقيقية وشاملة، والشواهد عليها كثيرة وكثيرة جدًا. ولهذا فنحن في خيرٍ، يشوبه بعض الشر. وسمعوا أيضًا من يقول: لم نمر في مرحلة أسوأ من المرحلة التي نعيش فيها اليوم، وقد لا تشبهها إلا مرحلة احتلال التتار لكثير من بلاد المسلمين، ولهذا فنحن في شر، يشوبه بعض الخير.
والعولمة فعلت فعلها فينا؛ إذ فكّكت عرى وحدتنا، وضيّعت شبابنا، وأغوت بناتنا ونساءنا، وليس أمامنا سوى الانطواء والاعتـزال وإغلاق النوافذ والأبواب، ونتيجة كل هذا اضطرب عريض في تقييم الواقع، حتى إنك لترى أهل المجلس الواحد، وقد انتقلوا من المبالغة في ذم زماننا وأوضاعنا إلى مديحه ومديحها دون الشعور بالوقوع في أي تناقض!
ما أسباب هذه الحيرة، وكيف نعالجها؟
هذا ما سنعرض له في المقال القادم بإذن الله تعالى.
تابعونا
تعليق