السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
أصول الحوار وآدابه عند السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فالحوار وسيلة مهمة من وسائل الدعوة إلى الله -تعالى- وبقدر ما يكون
الداعية متمكنًا مِن فن الحوار، محيطًا بجوانبه، بقدر ما يكون أقدر على
النجاح في دعوته وإيصال الحق إلى الخلق، ولقد كان سلفنا الصالح يعنون
بأصول الحوار وآدابه عناية خاصة؛ لما للحوار مِن الأثر البالغ في إقامة
الحجة، والدعوة إلى الله -تعالى-
.
فالعلم بأصول الحوار وآدابه، والإحاطة بتفاصيله والتسلح بالحجج
والبراهين، سلاح ماض بيد المحاور الناجح، إذ يُمكِّنه مِن الوقوف على
أرض ثابتة وليس على رمال متحركة، فالمستيقن مِن الحق الذي معه تراه
مطمئن الخاطر آمنا على مذهبه مِن صولة الباطل، فينطق عن أناة وتخيُّر
للأقوال الصائبة، والعرب تقول: "قبل الرمي يراش السهم"، أي: هيئ الأمر وأعده قبل حاجتك إليه.
أما مَن لم يكن على بصيرة مِن رأيه فإنه ينزعج عند الحوار ويطيش به
الجدل؛ حتى يقذف بالسباب، ويلفظ بالكلام الذي لا قيد له ولا زمام مِن قبل
أن يقيم له وزنًا، فرأينا هذه الأيام على القنوات الفضائية مِن الحوارات التي
سمعناها ورأيناها ما يحزن ويصيب المسلم بالكرب والغم، والفزع والخوف
على المسلمين مِن الجدال العقيم، وعدم التقيد بأدب الحوار وأصوله ما
يؤدي إلى عدم بيان الحق وإيصاله للخلق، وصولة الباطل والبدعة، وتكلم
مَن لا علم له ولا حجة ولا برهان؛ إلا برفع الأصوات ومقاطعة المتكلم،
وعدم تحديد الهدف والغاية، وعدم ضبط الحوار بأصول ثابتة يُرجع إليها
ويؤسس عليها الحوار، فوجدنا مَن لم يعرف أصول الحوار وآدابه، ومَن
يتكلم في غير فنه، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أخبر عن
علامة من علامات الساعة وهي ضياع الأمانة، فقال: (إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى
غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) (رواه البخاري).
فالحوار هو مراجعة الكلام وتداوله بيْن طرفين، والأخذ والرد فيه، وقد ورد
لفظ الحوار في القرآن الكريم؛ فمن ذلك قوله -تعالى-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ
الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1).
ومِن المصطلحات القريبة من معنى الحوار:
1- المجادلة: ومعناها في الاصطلاح: دفع المرء خصمه عن إفساد قوله
بحجة أو شبهة أو يقصد به تصحيح كلامه، ويكون بحق أو باطل
2- المناظرة: وهي النظر والتبصر مِن الجانبين في النسبة بيْن الشيئين
إظهارًا للصواب.
3- المراء: يطلق ويُراد به الجدال إلا أنه غلب استعماله في اصطلاح الأئمة
على الجدال المذموم، فاستعمله بعض أهل العلم على الجدال بالباطل وعن
الباطل.
4- المحاجة: يطلق على التخاصم والجدال.
5- الخصومة: وهي لجاج الكلام ليستوفى به مقصوده مِن مال أو غيره،
وتارة تكون ابتداءً، وتارة تكون اعتراضًا، والمراء لا يكون إلا اعتراضًا.
وقد عنى القرآن الكريم والسنة النبوية عناية بالغة بالحوار، وذلك أمر لا
غرابة فيه أبدًا، فالحوار هو الطريق الأمثل للإقناع، ولقد كان السلف
الصالح على نهج القرآن والسنة في تطبيق هذا الأسلوب الدعوي في البلاغ
للفهم الصحيح للكتاب والسنة، فهم خير الأمة عملاً به وتطبيقًا له، وضبطًا
لأصوله وآدابه، فرحمهم الله -تعالى-.
وهناك أمثلة كثيرة في السنة النبوية في دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-
وحواراته مع الوفود والأفراد في الدعوة إلى الله -تعالى- ما يقتدي به كل
داعية في دعوته وحواراته مع الآخرين، فمثلاً قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) (النحل:125).
وسنذكر مِن أصول الحور وآدابه ما فيه النفع والخير لكل داعية إلى الله -تعالى- بما ينتفع بها في دعوته وسيره إلى ربه -عز
وجل- في نصرة دينه:
أولاً: التجرد في الحوار "إخلاص النية": فالإخلاص مِن أعظم الأصول
المهمة، ومن أهم أعمال القلوب، والتوفيق في الحوار لنصرة الحق منوط
بإخلاص العبد في نيته لربه -تعالى-.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع
ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا
فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهم من معرفة أحكام الجوارح".
وقال الخطيب البغدادي -رحمه الله تعالى-: "وليكن قصده في مناظرته
إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم".
وقال الشافعي -رحمه الله تعالى-: "ما كلمتُ أحدًا قط إلا وأحببت أن يُوفق
ويسدد ويعان، وما كلمت أحدًا قط إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو
لسانه".
وقال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-: "فانظر إلى مناظري زمانك اليوم، كيف
يسودُّ وجه أحدهم إذا اتضح الحق على لسان خصمه، وكيف يخجل به
وكيف يجهد في مجاهدته وكيف يذم مَن أفحمه طول عمره"
.
هذا في زمان الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى-؛ فكيف اليوم أمام بريق
الشهرة والظهور في القنوات الفضائية أمام الملايين مِن الناس، فيصبح هم
المحاور الانتصار لنفسه ومغالبة خصمه، ولو على حساب الحق،
والانتصار لرأي باطل شاذ ضعيف؟!
أما أصحاب النفوس العالية السامية كأئمة السلف الصالح لا يبالي بيَّن الله
الحق على لسانه أو لسان خصمه؛ فالانتصار للحق وإيضاحه للناس هو
غايته وهدفه، يبتغي بذلك وجه الله -تعالى- نصرة للدين وإحقاقًا للحق،
والرجوع إليه والتواضع لقبوله ممن جاء به، فيحمد الله -تعالى- على
هدايته للحق واتباعه والعمل به والدعوة إليه، فهذا هو هدي السلف
الصالح وغايتهم وهدفهم؛ فكونوا عباد الله على طريقهم وهديهم، وسمتهم
تفلحوا.
ثانيًا: "العلم": فلابد مِن التأهيل العلمي للمحاور، إذ أن الجاهل بالشيء
ليس كفوًا للعالم به، والعلم المقصود يقتضي أمرين متلازمين:
1- العلم بشرع الله المطهر؛ كتابًا وسنة، وأوله العلم بالله -تعالى- وما ي
جب اعتقاده في أسمائه وصفاته وأفعاله، وكذلك العلم بأركان الإيمان
والعلم بالتكاليف الشرعية العملية ومدار ذلك على التفسير والحديث
والفقه، وذلك على منهج السلف قولاً وعملاً، وفهمًا واعتقادًا.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فالصحابة كانوا أعلم الناس بأصول الدين،
فإنهم تلقوه عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق، وكانوا إذا استشكلوا شيئًا
سألوه عنه، وكان يجيبهم بما يزيل الإشكال، ويبين الصواب فهم العارفون
بأصول الدين حقًا، لا أهل البدع والأهواء مِن المتكلمين ومَن سلك سبيلهم".
2- العلم بالواقع حتى يتمكن من تطبيق نصوص الشرع على الواقع
المناسب، ولا يضع الأدلة في غير موضعها، ولابد أن يكون عالمًا
باصطلاحات المحاور، وأدلته، والوقوف على مصادره، ومعرفة الشبهات
والرد عليها، حتى يكون أشبه بالطبيب الذي يعلم تفاصيل المرض أكثر مِن
المريض، فيحصل بجواره شفاء الصدور وطمأنينة النفوس، وذهاب العلة
التي هي الشبهة، وحصول المقصود والغاية من المحاورة وهو الرجوع إلى
الحق وإيضاحه.
ثالثًا: "الرجوع إلى النص لدرء النزاع": فلابد مِن تحديد أصول يرجع إليها
عند الاختلاف والتنازع، وبذلك ينضبط الحوار ويتحدد مساره، قال الله
-تعالى-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد
ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة
وجب اتباعه".
وقال أيضًا: "وهذا لأن الناس لم يفصل بينهم النزاع إلا كتاب منزل مِن
السماء، وإذا ردوا لعقولهم فلكل واحد منهم عقل".
فلابد مِن الرجوع إلى الوحيين الشريفين عند التنازع على ضوء فهم سلفنا
الصالح؛ لأنهم أعلم بمواقع التنزيل، ولأنهم أهل الفصاحة والبيان، ودلت
نصوص الكتاب والسنة على فضلهم وعلو قدرهم وهم خير الناس علمًا
وعملاً، وهم الصحابة والتابعون وأتباع التابعين -رضي الله عنهم أجمعين-.
وإذا كان الطرف المحاوَر غير مسلم أو ممن يرد النصوص؛ فالحجة التي
تضمنتها النصوص حجة عقلية دامغة؛ فليجتهد المحاور المسلم في تبيينها
وتوضيحها، فإنها في الحقيقة الحجة البالغة التي لا يمكن ردها.
رابعًا: "حسن الفهم": فلابد مِن فهم حجج الطرف الآخر وأدلته وأقواله،
ومراده مِن الألفاظ والمصطلحات المستعملة.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "ولما كان المقصود بالخطاب دلالة السامع
وإفهامه مراد المتكلم مِن كلامه، وأن يبين له ما في نفسه مِن المعاني، وأن
يدله على ذلك بأقرب الطرق، وكان موقوفًا على أمرين:
الأول: بيان المتكلم وتمكن السامع مِن الفهم فإن لم يحصل البيان مِن
المتكلم أو حصل ولم يتمكن السامع مِن الفهم لم يحصل مراد المتكلم.
الثاني: فإذا بيَّن المتكلم مراده بالألفاظ الدالة على مراده، ولم يعلم السامع
معاني تلك الألفاظ لم يحصل البيان، فلابد مِن تمكن السامع مِن الفهم
وحصول الإفهام مِن المتكلم.
فالحوار بدون فهم لمعاني ألفاظ المتكلم ومصطلحاته يجعل المرء يُحمِّل
المسائل ما لا تحتمل أو تفهم الألفاظ على غير وجهها، فيطول الحوار
وتتشعب المسائل ويستمر الخلاف.
خامسًا: الأمانة والتوثيق؛ فلابد أن تكون الأقوال مدعمة بالشواهد والأدلة
وأقوال العلماء الذين تطمئن النفوس والقلوب إلى علمهم وفهمهم
للنصوص فهمًا صحيحًا سديدًا، ويستشهد بآرائهم وأقوالهم كالسلف
الصالح -رضي الله عنهم- وأئمة أهل السنة والجماعة ممن لا خلاف على
علمهم وفهمهم.
قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء
المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال، وأما إظهار
الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل؛ فنوع من النفاق في
العلم والجدل، والكلام والعمل".
ولابد كذلك مِن الأمانة العلمية في العرض والتوثيق، ونسبة الأقوال والآراء
إلى قائليها والرجوع إلى مصادرها الأصلية.
سادسًا: "حسن الاستماع": فمن أدب المروءة والحوار حسن إصغاء الرجل
لمن يحدثه مِن الناس؛ لما في ذلك مِن حسن الخلق واحترام الآخرين، وعدم
إثارة غضبه وحسده وحقده عليه، وعدم قبول قوله ورده.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إذا جالست فكن على أن تسمع أحرص
منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ولا تقطع
على أحد حديثه حتى يسكت".
فعلى السامع أن يحسن الاستماع لمحاوره حتى يستكمل حججه وبراهينه
وإن كان ما يسمعه منه شبه الوسواس، فإن كان فيه حق استخلص ثم
يستفيد منه، وإن كان فيه خطأ استخرج جذوره ودافعه، والشبهات التي
أدت إليه.
قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: "وليتق المناظر مداخلة خصمه في
كلامه وتقطيعه عليه، وإظهار التعجب منه، وليمكنه مِن إيراد حجته، فإنما
يفعل ذلك المبطلون، والضعفاء الذين لا يحصِّلون".
وقال إمام الحرمين الجويني في آداب المجادل: "وعليهما جميعًا أن يصبر
كل واحد منهما لصاحبه في نوبته، وإن كان ما يسمعه منه شبه الوسواس؛
لأنهما متساويان في حق المناوبة، ومَن لم يصبر منهما لصاحبه فقد قطع
عليه حقه، ومتى لم يصبر عليه خصمه، بل داخله بالاعتراض أو الجواب
في نوبته احتمله ووعظه فأن أصر عليه قطع مكالمته.. ".
وقد تجد محاورك يتحدث وفي كلامه ما ينبغي أن يستدرك عليه، ويراجع
فيه تعليقًا وتصحيحًا، فمن الأفضل أن يكون لديك قلم وورقة تسجل عليه ما
تود تسجيله حتى إذا جاء دورك أفضيت بما لديك حسب موقع ورودها.
هذا ما تيسر في هذا الموضوع المهم، وهو أصول وأدب الحوار عند
السلف، ونسأل الله -تعالى- التوفيق والسداد والهداية إلى الحق واتباعه
والدعوة إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقول
تعليق