إن مناجاة الله عز وجلَّ والوقوف بين يديه في جوف الليل المُظلم، لمتعة من متع الجنة قد أظهرها الله تعالى لعباده الصالحين في الدنيـــا ..
قال بعض الصالحين “قيام الليل، والتملق للحبيب ( جلَّ جلاله ) والمناجاة للقريب سبحانه في الدنيا، ليس من الدنيا، هو من الجنة ، أُظهِّر لأهل الله تعالى في الدنيا لا يعرفه إلا هم، ولا يجدون سواه روحًا (أي: سعادة وراحة ) لقلوبهم”، وقال بعضهم “ليس من الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة”
فبنا نتعلم كيف نقوم بين يدي رب العالمين، كي ننال المنازل العظيمة ونذق لذة القيام كما كان سلفنا الصالح يستمتعون به ..
قال مسلم بن يسار “ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عزَّ وجلَّ”، وكان يدخل الكعبة فيصلي ركعتين ويسجد ويبكي حتى يبل المرمر، ويقول “اغفر لي ذنوبي وما قدمته يداي” .. وقال ابن المنكدر “ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، والصلاة في جماعة”.
فلكي يكون قيـــامك مقبولاً إن شاء الله وتنـــال المنــازل العــاليــة، عليــك بالآتي ..
1) الإخـــلاص .. وذلك يتحقق من خلال أمرين:
أ) عمل خبيئة .. فتصلي سرًا حيث لا يراك أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “صلاة الرجل تطوعا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسا وعشرين” [صحيح الجامع (3821)] .. وقال صلى الله عليه وسلم” من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل” [صحيح الجامع (6018)]
ب) الإجتهـــاد .. فعلامة الإخلاص هي بذل المجهود في الطاعة، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامًا كاملاً حتى تشققت أقدامهم إلى أن خفف الله عنهم .. فعليك أن تجتهد إجتهادًا شديدًا في الطاعة، ولكن دون الغلو الذي يوقعك في التفريط في الفرائض بعد ذلك .. إنما اجتهد قدر المُستطاع، وتدرَّج حتى تصل.
2) تجديـــد التوبــــة .. فعليكأن تُطهِّر قلبك بالتوبة والإستغفار، كي يصلح لمناجاة ربك ..
واعلم أن الذنوب هي سبب حرمانك من قيام الليل .. كانالفضيل بن عياض يقول “إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم مكبَّل كبلَّتك خطيئتك”.. وقال سفيان الثوري “حُرمت قيام الليل بذنب أحدثته خمسة أشهر”.
3) تذلل وافتقر .. قال تعالى { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ، وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217,220] .. فعليك أن تستعن بالله عز وجلَّ وتسأله أن يُعينك على ذكره وشكره وحُسن عبادته، كي يوفقك للقيام بين يديه ..
وكن مُنكسر، ذليــــل، خاضع بين يدي الله سبحانه وتعالى .. لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الإنكسار ورفعوا قصص الإعتذار مضمونها { .. يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ..} [يوسف: 88] .. لبرز لهم التوقيع عليها {.. لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]
4) استجلِّب الرحمة .. لأن الرحمة هي التي ستدفعك للعمل، فعليك بهذا الدعــاء الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم “اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد وأسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب” [السلسلة الصحيحة (3228)]
5) كثرة الذكر بالنهار .. فلا تنس ربك أثناء إنشغالك بالنهار، كي يتذكرك بالليل ويمُنَّ عليك بنعمة القيام بين يديه .. قال تعالى {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] .. كما إن الذكر يقوي القلب والبدن.
6) التفكُّر في أهوال الآخرة .. كان طاووس يفترش فراشه ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول “طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين”.. وكان شداد بن أوس الأنصاري رضي الله تعالى عنه إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه لا يأتيه النوم، فيقول “اللهم إن النار أذهبت مني النوم”، فيقوم فيصلى حتى يصبح.
عمرك قصير، فاستدرك الفائت،،
7) معرفة إجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم من الصالحين .. فهذا سيدفعك للعمل بإجتهاد ويُنشِّط من عزيمتك .. عن المغيرة قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال “أفلا أكون عبدا شكورا”. [متفق عليه]، قال ابن بطال “في هذا الحديث أخذ الإنسان على نفسه بالشدة في العبادة وإن أضر ذلك ببدنه، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له فكيف بمن لم يعلم بذلك؟ فضلا عمن لم يأمن أنه استحق النار”.
وعن عبد الله بن أبي قيس رضي الله عنه قال، قالت عائشة رضي الله عنها: لا تدع قيام الليل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدا.[رواه أبو داود وصححه الألباني]
8) التخفيف من الطعام .. خاصة طعام العشاء، لأن كثرة الطعام تدعو إلى الكسل والخمول .. قال بعض الصالحين “كم من وجبة منعت قيام ليلة، وكم من نظرة منعت قراءة سورة، إن العبد ليأكل الأكلة أو يفعل الفعلة فيُحرم بها قيام سنة”.
9) نــوم القيــلولة .. بالأخص بين الظهر والعصر، لكي تتقوى على القيام ليلاً.
10) الدعـــاء بأن يوفقك الله تعالى للقيام بين يديه .. كان همام بن الحارث يدعو “اللهم اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهرا في طاعتك”، فكان لا ينام إلا هنيهة وهو قاعد.
وقال ابن القيم في (الفوائد) “وما أُتيَ من أُتيَ إلا من قِبَل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء”
11) فرِّغ قلبك وتهيأ لمقابلة ربك الجليل جلَّ جلاله .. الذي يطلِّع على ما في قلبك، وسيُعطيك على قدر صدق عزمك وهمتك .. فاستشعر إن الله عز وجلَّ مُطلِّع عليك في كل صلاة تُصليها وجاهد نفسك واخرِّج من قلبك جميع ما يشغله من أهواء أو وساوس أو تعلُق بأي من زخرف الدنيا، كي تُحسِّن الوقوف بين يدي الله تعالى.
12) صلاة ركعتان خفيفتان بعد العشاء .. حتى تطرد الغفلة عن القلب وتتمكن من القيام، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين” [رواه أبو داوود وصححه الألباني]
وقد أرشدتنا السُنة النبوية المُطهَّرة إلى آداب النـوم المُعِينة على قيـام الليل، وهي ..
1) النوم على طُهر .. قال صلى الله عليه وسلم “طهِّروا هذه الأجساد طهَّركم الله، فإنه ليس عبد يبيت طاهرا إلا بات معه ملك في شعاره لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال اللهم اغفر لعبدك فإنه بات طاهرا” [حسنه الألباني، صحيح الجامع (3936)] .. يقول المناوي “الطهارة عند النوم قسمان: طهارة الظاهر وهذه بالوضوء، وطهارة الباطن وهذه تكون بالتوبة فينبغي أن يزيل من قلبه كل غش وحقد ومكروه تجاه المسلمين وأيضًا ما بينه وبين رب العالمين”.
2) النوم على الشق الأيمن .. وقد بيَّن ابن القيم الحكمة من إستحباب النوم على الشق الأيمن، فقال “وفي اضطجاعه على شِقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلَّق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر، استثقل نوماً، لأنه يكون في دَعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شِقه الأيمن، فإنه يقلق ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب، وطلبه مستقره، وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر لكمال الراحة وطيب المنام، وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن، لئلا يثقل نومه فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفعُ للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن، والله أعلم”.
3) المحافظة على أذكار النوم .. عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما {قل هو الله أحد} و{قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ برب الناس} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات. [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم “إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوئك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن ثم قل اللهم أسلمت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به” [صحيح الجامع (276)]
وقراءة آية الكرسي وآخر آيتين من سورة البقرة، كي تكفيك من كل شر .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه” [صحيح الجامع (6465)] .. وقال صلى الله عليه وسلم “اقرأ قل يا أيها الكافرون ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك” [رواه أبو داوود وصححه الألباني]
4) ذكر الله عند الإستيقاظ .. عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد . فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلانا” [متفق عليه] .. فعليك بالإستعاذة من الشيطان الرجيم عند إستيقاظك من النوم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من تعار من الليل فقال حين يستيقظ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم دعا رب اغفر لي أو قال ثم دعا استجيب له فإن قام فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته “ [رواه البخاري]
عليك بمجاهدة نفسك والتدرج حتى تصل .. قال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
وكان الفُضيل بن عياض يقول “ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول الرب: من ادعى محبتي إذا جنَّه الليل نام عني! أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه، ها أنذا مطلع إلى أحبائي إذا جنَّهم الليل مثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة، وكلموني على حضوري، غدًا أقر أعين أحبائي في جناتي”.
فاللهم مُنَّ علينا بقيــام الليل طيلة أعمارنا، ولا تحرمنا من القُرب منك يا أرحم الراحمين،،
من درس " الذي يراك حين تقوم " للشيخ/ هاني حلمي
و درس "نجيناهم بسحر " للشيخ / هاني حلمي
تعليق