لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه(ابن القيم(
الوجه الثانى: قوله: "وليس فى منازل الخواص خوف" قد تبين فساده، وأن الخاصة أشد خوفاً [لله] من العامة.الوجه الثالث: قوله: العاقل يعبد ربه على وحشة من نظره ونفرة من الأُنس به عند ذكره: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} [الشورى: 22]، فهذا إِنما هو وحشة ونفار، وهو غير الخوف، فإن الوحشة إما تنشأُ من عدم الخوف، وأَما الخوف فإنه يوجب هروباً إلى الله وجمعية عليه وسكوناً إليه، فهى مخافة مقرونة بحلاوة وطمأْنينة وسكينة ومحبة، بخلاف خوف المسيء الهارب من الله فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة فخوف الهارب إليه سبحانه محشو بالحلاوة والسكينة والأُنس لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه.فله نظران: نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة، ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأُنس وحلاوة وطمأنينة.الوجه الرابع: إن استشهاده بقوله: {تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22]، ليس استشهاداً صحيحاً، فإن هذا وصف لحالهم فى الآخرة عند معاينة العذاب أو عند الموت.فهذا إشفاق مقرون بالاستيحاش، لأنه قد علم أنه صائر إليه كمن قدم إلى العقوبة ورأَى أسبابها، فهو مشفق منها إذا رآها لعلمه بأَنه صائر إليها. فليست الآية من الخوف المأْمور به فى شيء.الوجه الخامس: أن الخوف يتعلق بالأَفعال، وأَما الحب فإنه يتعلق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف فى الْجنة، وأما الحب فيزداد.ولما كان الحب يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه "الودود"، قال البخارى فى صحيحه: "الحبيب"، وأما الخوف فإن متعلقه أفعال الرب [سبحانه] ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايته من قدر الله. ولهذا قال على بن أبى طالب [رضى الله عنه]: لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه.فمتعلق الخوف ذنب العبد وعاقبته، وهى مفعولات للرب، فليس الخوف عائداً إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحب أن الحب سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلق الحب التام.وأما الخوف فسببه توقع المكروه، وهذا إنما يكون فى الأَفعال والمفعولات. وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنه سبحانه يُخاف لا لعلة ولا لسبب، بل كما يخاف السيل الذى لا يدرى العبد من أين يأْتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفى محبته سبحانه وحكمته.وأنه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التى ترجح مثلاً على مثل بلا مرجح، ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهولاء عندهم الخوف يتعلق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاءُ من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاءِ فالخوف لازم للعبد فى كل حال، أحسن أم أساءَ. وليس [لأفعالهم] تأْثير فى الخوف. وهذا من قلة نصيبهم من المعرفة بالله وكماله وحكمته.وأين هذا من قول أمير المؤمنين على [رضى الله عنه] لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه؟ فجعل الرجاءَ متعلقاً بالرب سبحانه وتعالى، لأن رحمته من لوازم ذاته، وهى سبقت غضبه. وأما الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة.فإن قيل: فما وجه خوف الملائكة [وهم] معصومون من الذنوب التى هى أسباب المخافة، وشدة خوف النبى صلى الله عليه وسلم مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر وأنه أقرب الخلق إلى الله؟والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات