التزكيــــة أولاً ..
إن الخلل السائد في مجتماعتنا في هذا الزمان، ليس سببه الضعف العلمي أو الإقتصادي أو السياسي، إنما الخلل يكمُن في أنفسنا .. يقول تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]
فالسبيـــل إلى تنشأة جيل التمكين الذي يعرف ربه، يبدأ من التزكيــــة ..
أهمية التزكيــــة
فهي إحدى المهـام التي بعث الله عزَّ وجلَّ الرسل من أجلها .. فكانت دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] .. وقد استجاب الله عزَّ وجلَّ لدعوته فبعث لنا حبيبنا محمد ليقوم بهذه المهمة ..
ولكنه سبحـــانه قدَّم التزكيــــة على العلم، كما جاء في كتابــه الكريــم ..
قال تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151] .. ثمَّ قال تعالى {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] .. وقال عزَّ وجلَّ {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]
فالتزكية قبل العلم .. لأن التزكية تُطهِّر القلب حتى يكون مؤهلاً لتقبُل العلم والعمل به، وحينها لن يحول بينه وبين الهداية قواطع وموانع ..
وآفات النفوس كالتكبر والعُجب تقطع على المرء طريقه إلى الهداية، مما يؤدي إلى إعوجاجه وتوقفه عن العمل .. فقد قيل “العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشبر الثانى تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ما يعلم“ ..
ولكن التزكية تُحرر النفس من تلك الآفات وتجعله ينتفع بما يتعلَّم ..
فلا ينبغي أن تُقدِم شيئًا على تزكية نفسك ومعرفة عيوبها والشروع في إصلاحها،،
الآثــــــار المُترتبة على التزكيــــة ..
أن يتحقق القلب بالتوحيد والإخلاص .. ويصل للمنازل العالية من الصبر والشكر والخوف والرجاء والمحبة لله سبحانه وتعالى والصدق مع الله، ويتخلى عن الرياء والعجب والغرور والغضب وغيرها من آفات النفوس ..
ولقد كان السلف الصالح يولون أمر تزكية النفس وتطهير القلب إهتمامًا بالغًا، ويقدمونها على سائر الأمور ..
كان عبد الرحمن بن القاسم المصري (الفقيه المالكي) يقول “خدمت الإمام مالك عشرين سنة، كان منها ثمان عشرة سنة في تعليم الأدب، وأخذت منه العلم في سنتين”
وقد كانالإمام مالك يقول “ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم ما نفع، وعمل به صاحبه “ ..
فأهم من العلم العمل بما تعلمه، والذي لا يعمل بما تعلمه فهو مصاب بمرض العجز أو الكسل.
وكان الإمام الشافعي يقول “قال لي الإمام مالك: يا محمد، اجعل عملك دقيقاً، وعلمك ملحاً” .. فانظر ـ رحمَّك الله ـ ماذا يصلح الدقيق من الملح، إنها قطرات من الملح على أكوام من الدقيق .. فـاعمل.
وكان عبد الله بن المبارك يقول “من حمل القرآن ثمَّ مال بقلبه إلى الدنيا فقد اتخذ آيات الله هزوًا .. وإذا عصى حامل القرآن ربَّه ناداه القرآن في جوفه: ـ والله ـ ما لهذا حُمِلت، أين مواعظي وزواجري؟ وكلحرف منى يناديك ويقول: لا تعصِ ربَّك”.
وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا رأى طالب العلم لا يقوم من الليل يكف عن تعليمه، وقد بات عنده أبو عصمة ليلة من الليالي، فوضع له الإمام ماءللوضوء، ثمَّ جاءه قبل أن يؤذن للصبح فوجده نائماً، والماء بحاله فأيقظه .
وقال: لم جئت يا أبا عصمة؟، فقال: جئت أطلب الحديث .
قال : كيف تطلب الحديث وليس لك تهجد في الليل ؟! .. اذهب من حيث جئت.
وكان الإمام الشافعي يقول “ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كل ما ظهر للناس من علم أو عمل قليل النفع في الآخرة، وما رؤى أحدٌ في منامه فقال: غفر الله لي بعلمي إلا قليلٌ من الناس” [مقدمة المجموع للنووي]
كان يوسف بن أسباط يقول “أني لأهمَّ بقراءة السورة ثم أعرف ما جاء فيها، وأميل إلى التسبيح”، فقيل له: يا أبا محمد، وما جاء فيها؟، قال: “أن الرجل ليبدأ بأول السورة فإن كان ليس يعمل بما فيها لم تزل السورة تلعنه من أولها إلى آخرها، وما أحب أن يلعنني القرآن” ..
وكتب يوسف إلى حذيفة: .. من كان طلب الفضائل أهم إليه من ترك الذنوب فهو مخدوع وقد حبب أن يكون خيراً عالياً أصبر علينا من ذنوبنا. [حلية الأولياء (3,469)]
والتزكيـــــة لا تكون إلا بمجاهدة النفس .. يقول تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] .. وجهاد النفس أصعب بكثير من مجاهدة العدو الخارجي، لإنك قد تتغلب على نفسك مرة ومرات أخرى عديدة تتفلت منك .. لذا فقد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
واعلم إنك ستواجه عقبات في طريقك لتزكية نفسك .. قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد: 11,12] .. فنفسك أشبه بالجبل الوعِر، الذي لن تتمكن من تسلقه إلا إذا كنت خفيف الحركة وذلك لن يكون إلا عن طريق ترك التعلُق بالدنيا والذنوب التي تُثقلَّك .. قال رسول الله “إن وراءكم عقبة كؤودا لا يجوزها المثقلون، فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة” [رواه الطبراني وصححه الألباني].
ومن لم يتزكى فسيقع في شراك نفسه .. التي تجعله يعيش في الخداع والوهم، ويحسب نفسه من الصالحين وهو أبعد ما يكون عنهم .. لذا يقول تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9,10]، ودسَّاها: أي خبأ نفسه وسط الصالحين.
فخذها إذاً شعارًا لك: الفلاح في التزكيـــة ..
قال تعالى { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14,1
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
تعليق