إنجازات المسلمين في مجال الطب (الابتكارات)
د. عبدالله حجازي
صاحبت حركة الترجمة والتأليف ممارسة فعلية لأمور الطب كلها، وكان للأطباء دور مُهمٌّ في تطوير فروع الطب المختلفة، وكانت لهم آراء، ربما خالفوا فيها جالينوس وأبقراط وغيرهما من جهابذة الطب اليونان، ترتَّب على ذلك فتح المدارس الطبية التي كانت تتضمَّن حلقات تشمل تلاميذ الطبيب وتلاميذ تلاميذه، حتى إذا جاء المريض سأل أول ما يسأل تلاميذ التلاميذ، فإن لم يُجيبوا انتقل إلى التلاميذ، فإذا جَهِلوا سأل الأستاذ وهكذا، ومِن الممارسة الفعلية تمكَّن كثير مِن الأطباء مِن التمييز بين الأمور المتشابهة، بل أدى ببعضهم أن يردَّ نظرية لجالينوس أو غيره كانت سائدة لبضعة قرون.
من ذلك مثلاً: التمييز بين الحَصبة والجدري، في رسالة كتبها أبو بكر الرازي تعدُّ مِن خير ما وصل إلينا مِن التراث الطبي، ولأهمية هذا الكتيِّب المُحكم في الأمراض المعدية، فقد طُبع أربعين طبعةً باللغة الإنجليزية، وذلك ما بين سنتَي 903 - 1283هـ/ 1497 - 1866م، كما أنه تُرجم إلى الفرنسية عام 964 - 1556م، فقد كان بحق عملاً ابتكاريًّا في عالم الطب، ومن الآراء التي خالف فيها الأطباء المسلمون تعاليم جالينوس رأيُ الطبيب عبداللطيف البغدادي في مسألة عظْم الفكِّ السفلي، الذي قرَّر فيه أنه يتألف مِن قطعة واحدة، وليس من قطعتين كما كان شائعًا بناءً على آراء جالينوس.
ومن الابتكارات التي قام بها الأطباء المسلمون: استخدامهم أمعاء الحيوانات لخياطة الجُروح، وإجراؤهم طريقة تخدير للمريض بالاستنشاق، وقد كانت طريقة التخدير هذه طريقة أصيلة في شكلها، وصحيحة في مفعولها، فما كانت تقوم على المشروبات المسكرة كما كانت طريقة الهنود واليونان والروم؛ ولم تستخدم لتخفيف الآلام فحسب، بل كانت تعدُّ لعمليَّة خالية من الآلام، وذلك باستخدام قطعة مِن الإسفنج تُشَرَّب بعصير نبات الحشيش ونبات البنج ونبات الجلبان "البقية"، ثم توضع قطعة الإسفنج في الشمس حتى تجفَّ، فإذا أريد استعمالها، بُلِّلت ثم أدخلت في أنف المريض، حتى تغبَّ الأغشية المخاطية المحلول، الأمر الذي يجعل المريض يغطُّ في نوم عميق، غير شاعر بآلام العملية التي لو كانت بدون التخدير لكانت لا تُطاق، ولقد دخلت طريقة التخدير هذه أوروبا عبر طرق مختلفة، إلا أنها لم تعمر طويلاً، حتى إذا كانت سنة 1844م طواها النسيان؛ فقد اكتُشفت طريقة أرقى وأجدُّ.
والأطباء المسلمون هم أول مَن عمل على سلِّ الشرايين النازفة، وهم الذين اكتشفوا الدودة المستديرة "الأنكيلوستوما" التي تؤدي إلى مرض اليرقان، وذلك قبل دوبيني الإيطالى بتسعمائة سنة.
وهم الذين اكتشقوا طفيلية الجرب، وسماها ابن زهر (ت 1162هـ/ 557م) صؤابة، وهم أول من استخدم الماء البارد في الحُميات المُستمِرَّة، ومهر بعضهم في الطب النفسي، ولقد خلَّص الأطباء المسلمون الطب القديم مِن صور الجهل والشعوَذة، ووضعوا أسس الطب علميًّا مِن الناحية النظرية، وفنيًّا من ناحية الممارسة، أما طريقة الفحص الطبي "التشخيص" عند الأطباء في العهود الإسلامية، فقد كانت في مستوى لا يختلف عن مستواه في الوقت الحاضر؛ إذ كان الطبيب يَستخدم أدقَّ الوسائل التي أتيحت في عصره مِن جهة، وكان يُنصِت إلى مريضه وهو يَعرِض شكواه مِن جهة أخرى، مُتتبِّعًا بذلك تاريخ المريض، والعِلل التي انتابته في حياته، ومُهتمًّا بمعرفة الأحوال الصحية بين أفراد أسرته، وعاداته وطرائق معيشته، ومناخ البلدة التي يقيم فيها، فإذا جمع الطبيب هذه المعلومات، قام بجسِّ النبض وتحليل البول، وفحص لون الجلد، وملحمة العينين وحالة التنفُّس، وبذلك برع الأطباء في - تلك العهود - في تشخيص الأمراض والتفريق بين المتشابه منها؛ التفريق بين الحصبة والجدري، وبين الالتهاب الرئوي والبلوري، وبين الالتهاب السحائي الحاد والثانوي، وبين المغص الكلوي والمغص المعوي، فضلاً عن ذلك فقد كانوا يدوِّنون مشاهداتهم هذه على أنها ملاحظات سريرية، وهو الأمر الذي لم يعرفه الأطباء في أوروبا إلا في وقت متأخِّر؛ وذلك عن طريق أنطونيو بنيفيتي الفلورنسي (ت 908هـ - 1502م).
فيما يلي نموذج تشخيص للرازي (ت 313هـ/ 925م) يُبيِّن المنزلة الرفيعة التي بلغها الأطباء في العصور الإسلامية الزاهية:
"كان يأتي عبدالله بن سوادة حميات مُخلطة (حميات معها مضاعفات تخالطها)، تَنوب مرة في ستة أيام، ومرة غبًّا (تأتي يومًا وتغيب يومًا)، ومرة ربعًا (تأتي كل أربعة أيام، وهي ما تُسمى اليوم بالملاريا)، ومرة كل يوم، ويتقدَّمها نافض (حمى الرعدة) يَسير، وكان يَبول مرات كثيرة، وحكمتُ: أنه لا يخلو إما أن تكون هذه الحميات تُريد أن تنقلب ربعًا، وإما أن يكون به خُراج في كُلاه، فلم يلبث إلا مُدَيدَة حتى بال مدةً (صديدًا، قيحًا)، أعلمته بعدها أنه لن تُعاوِده هذه الحميات، وكان كذلك، وإنما صدَّني في أول الأمر عن أن أبتَّ القول بأن به خُراجًا في كُلاه أنه كان يُحم قبل ذلك حمى غبٍّ وحميات أخَر، فكان للظنِّ بأن تلك الحميات المخلطة مِن احتراقات تريد أن تُصبح ربعًا موضعًا أقوى، ولم يَشكُ إليَّ أن قطنه (ما بين الوركين) يكون شبه ثقل مُعلَّق منه إذا قام، وأغفلت أنا أيضًا أن أسأله عنه، وقد كانت كثرة البول تُقوِّي ظني بالخُراج بالكُلى، إلا أنني كنت لا أعلم أن أباه أيضًا ضعيف المثانة يَعتريه هذا الداء، وهو أيضًا قد يعتريه في صحته، ولما بال المدَّة أكببتُ عليه بما يدرُّ البول حتى صفا البول مِن المدة، ثم سقيته بعد ذلك الطين المختوم والكُندُر ودم الأخوين، وتخلَّص مِن عِلته وبَرُؤ برءًا تامًّا سريعًا في نحو شهرَين، وكان الخُراج صغيرًا، دلَّني عليه أنه لم يَشكُ إليَّ ابتداء ثقلاً في قطنه، لكن بعد أن بال المِدة قلت: هل كنت تجد ذلك؟ قال: نعم، نعم، فلو كان كبيرًا لقد كان يشكو إليَّ ذلك، وإن المدة التي تَنِثُ (ترشح) سريعًا تدلُّ على صِغَر الخُرَّاج.
فأما غيري مِن الأطباء فإنهم كانوا حتى بعد أن بال مدة أيضًا لا يعلمون حالته ألبتَّة".
والأطباء في عهود سلطان الإسلام على العباد والبلاد هم أول مَن كشف عن مرض "الحساسية"، وفي ذلك مقالة للرازي بعنوان: "مقالة في العِلة التي من أجلها يَعرض الزكام لأبي زيد البلخي في فصل الربيع عند شمه الورد"، وهم أول مَن نسَب البواسير إلى قبض المعدة، وأشاروا بالمأكولات النباتية علاجًا لها، وهم أول مَن وصَف الخراجات التي تنشأ في تجاويف الأغشية الجنبيَّة، وهم أول مَن وصف التِهاب شغاف القلب بنوعَيه الجافِّ والرطب.
ومِن الاكتشافات المُهمَّة في عالم الطب - وقد كان المسلمون أول مَن اهتدى إليها - القول بأن الأوبئة تنشأ عن تعفُّن يَنتقل عن طريق الهواء والمخالطة؛ استدلوا عليها بما ثبت لديهم بالتجربة والاستقراء والحسِّ والمُشاهدة والأخبار المتواترة، مِن أنه إذا وقع مرض سارٍ (مُعدٍ)؛ كالطاعون مثلاً فإنه ينتقل مِن المريض إلى السليم الذي يعيش معه في الدار، أو يخالطه، أو يلبس ثوبه، أو يستخدم آنيته، فلقد لوحظ أن القرط أتلف مَن عُلِّق بأذنِه، وأباد البيت بأَسْره، واشتعل المرض الساري في الجيران والأقارب والزوار خاصة، حتى يتَّسع الخرق.
وفي هذا المجال كتب أحمد بن علي بن محمد بن الخاتمة (ت بعد 770هـ - 1369م) بحثًا تفوَّق كثيرًا جدًّا على جميع البحوث العديدة التي نُشرت في أوروبا عن الطاعون فيما بين القرن الثامن/ الرابع عشر، والقرن العاشر/ السادس عشر.
المصدر: لمحات في تاريخ العلوم الكونية عند المسلمين
تعليق