ليشهدوا منافع لهم
يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الحج (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (27) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
إن هذا النداء الخالد يحرك المشاعر ، ويجذب العواطف ، ويشوق القلوب المومنة إلى أطهر وأقدس مكان على وجه الارض ، هذا النداء الكريم ـ الذي يبقى مسموعا إلى أن يرث الله الارض ومن عليها . ويسمع دويه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ويستجيب له المؤمنون في مختلف الشعوب والاجناس لاتجمعهم معالم دنيوية ولا أغراض مادية ولا أهداف عاجلة ، ولكن يجمعهم حب الله والرغبة في رضاه معبرين عن الاستجابة العاجلة والتلقائية لنداء ربهم بالشعار الخالد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك . )
فيقابل الرب الكريم استجابة عباده بثواب أعظم ، نصت عليه بعض الاحاديث النبوية الكريمة منها ما رواه الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ ، فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ ، كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ ، وليسَ للحجةِ المبرورَةِ جزاءُ إلا الجنةُ . وفي رواية ( وليسَ لحجَّةٍ مبرورةٍ )
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث:البغوي - المصدر: شرح السنة - الصفحة أو الرقم: 4/6
خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود
. وروى النسائي وابن حبان وابن خزيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ إن دعَوْه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم الراوي: أبو هريرة المحدث:المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 2/169
خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]
) ولفظ ابن خزيمة ( وفد الله ثلاثة الحاج والمعتمر والغازي ) . وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارَةٌ لمَا بينَهمَا ، والحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلا الجنَّةُ . الراوي: أبو هريرة المحدث:البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 1773
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
الحج مظهر لوحدة المسلمين
إن موسم الحج مناسبة كريمة وفرصة طيبة أتاحها الله لعباده المومنين ليلتقوا فيها ، وقد قصدوا الديار المقدسة من مختلف أقطار الاراضي ، يجتمعون وعلى صعيد احد ، ويرددون شعارا واحدا ، ويقصدون بيتا واحدا ويسألون ربا واحدا . فبذلك تتوحد مشاعرهم ، وتتألف قلوبهم ، وهم في ارض الحرام سواء لا فرق بين غنيهم وفقيرهم ، وعربيهم وعجميهم ، أبيضهم وأسودهم ، حاكمهم ومحكومهم ، شريفهم ووضيعهم .
إن الحج فرصة طيبة يلتقي فيها المسلمون في أعظم مؤتمر اسلامي ، فهو أسمى تجمع ، وأعظم لقاء ، وهي فرصة أتاحها الله لحجاج البيت الحرام ليتعارفوا ويتذاكروا فيها بينهم ، ويستطلعوا أحوال بعضهم ويتبادلوا الرأي ، ويتشاوروا فيما بينهم حول القضايا المشتركة وذات الاهتمام المشترك . ويبحثوا في أسباب وإعلاء كلمة الاسلام ، مع استرخاص كل غال ورخيص من أجل نصرة الاسلام اقتداء بالرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا يغتنمون فرصة الحج ليبلغوا دعوة الله ويحثوا على الاستمساك بدين الله ، ففي موسم الحج اتصل الرسول الله صلى الله عليه وسلم بوفد يثرب من الاوس والخزرج ، فدعاهم إلى الله فآمنوا به وبايعوه على الاسلام . وقد تكرر ذلك في موسمين متتاليين .
فبهذين اللقائين من أجل الدعوة ، انتقل الاسلام من مكة إلى يثرب ، ولهذا ينبغى أن يكون موسم الحج فرصة لتعارف المسلمين على بعضهم البعض ، والتزود من بعضهم بما يخدم الاسلام والمسلمين ، كما أنه فرصة للتعرف على أحوال المسلمين في كل بقاع الارض ومعاناتهم من أجل دينهم والتفكير في سبيل النهوض بهم دينيا وسياسيا واقتصاديا وتنظيميا .
ولابد من التذكير بأن أرض الحج ليست موطنا للقلاقل والفتن والشغب والفوضى ، فهي أرض السلم والسلام والامن والامان ، فعلى الحاج أن يبتعد عن كل شغب وأن يكف عن كل عمل أو قول يفتن الناس ويحلق الضرر بهم ويقلق راحتهم ، ويذهب أمنهم عملا بقول الله تعالى في سورة الحج ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) ( الحج 25 )
ومرددة كلمة التوحيد وشعاره الخالد : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير ) يرددها كل حاج ذكرا أو أنثى وهو واقف على الصفا وعلى المروة .
وفي عرفة ، تأكيدا لوحدة الالوهية ، وإعلانا لانفراد الله بالعبودية . فالمعبود واحد له تسجد الحياة وبحمده تسبح الالسنة ، واليه ترفع الاكف وله تنقاد القلوب ، فهو سبحانه الذي يُطلب خيره ويُرجى عفوه ويتقى سخطه وغضبه .
وفي الحج تتحقق وحدة الاتجاه ، فالقبلة واحدة . وهي الكعبة المشرفة ، اليها وحدها يتجه القائمون الراكعون الساجدون أين كانوا وهم يصلون أو يدعون .
وفيه يتحقق وحدة الزمان . فاشهر الحج محددة معلومة ، فلا حج إلا فيها لقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ. ) (البقرة 197 )
وفيه تتحقق وحدة المكان ، فالبيت الحرام ، وعرفات ومزدلفة ومنى هي الاماكن التي عينها الشرع لأداء مناسك الحج بها ، ففريضة الحج مقيدة بزمانها ومكانها ولا حرية لا حد في تجاوزها أو استبدال غيرها بها ، فهي رمز الطاعة والعبادة والاستجابة لله رب العالمين .
وفي الحج تتحقق وحدة الافعال ، فكل حاج يحرم من الميقات ويلبي بما نوى الحج به ، ويطوف حول الكعبة ويصلي في مقام ابراهيم ، ويقف بالملتزم ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ويقف بعرفة ، ويبيت بالمزدلفة ، ويرمي الجمار بمنى ، ويبيت بها ، فهم سواسية في القيام بهذه الافعال ، فلا فضل لهذا على ذاك ، هم سواسية في الملبس والمظهر ، وشعارهم التلبية والتزام الاحرام ، وهكذا يتفق كل الحجيج في وحدة الافعال ، وهو مظهر من مظاهر المساواة التي جاء بها الاسلام ، وتحققت عمليا في أداء مناسك الحج .
الحج تجربة تربوية
ومن آثار الحج ومنافعه ، تعوُّد المؤمن الصبر ، واستساغة النفس تحمل الاذايات والمتاعب وتعود العفو والصفح والتسامح والتمرن على الانسجام والتوافق مع الآخرين وان اختلفت بيئاتهم وتباينت طبائعهم وتعددت لغاتهم .
ومن آثار الحج في نفس المؤمن اعتياد العبادة والطاعة والامتثال والذكر والدعاء والاستغفار والتضرع إلى الله ، والانقطاع اليه ، فلا هم له إلا الصلاة والذكر والتلبية والحرص على أداء المناسك وفق توجيهات الشرع .
ومن آثار الحج ومنافعه غنم الاجر والثواب ، غفران الذنوب لكون الحجاج وفد الله لقوله صلى الله عليه وسلم : ( الحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ إن دعَوْه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم الراوي: أبو هريرة المحدث:المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 2/169
خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما]
ولقوله صلى الله عليه وسلم ( من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) (رواه البخاري ومسلم ) ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرةِ ، فإنهما ينفيانِ الفقرَ والذنوبَ ، كما ينفِي الكيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ ، وليسَ للحجةِ المبرورَةِ جزاءُ إلا الجنةُ . وفي رواية ( وليسَ لحجَّةٍ مبرورةٍ )
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث:البغوي - المصدر: شرح السنة - الصفحة أو الرقم: 4/6
خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح غريب من حديث ابن مسعود
ومن آثار الحج ومنافعه التجربة التربوية التي يعيشها المومنون وهم في رحلة الحج بعيدون عن أوطانهم وأهليهم ، يؤدون فريضة الحج تماما لدينهم صابرين محتسبين منقاذين لامر الله حين فرض على سلوكهم رقابة صارمة ، وما داموا مقيدين بالاحرام فهم في سلم وسلام ، وما حولهم في أمن وأمان مصداقا لقوله عز وجل: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ )
إن المدة التي يقضيها المومن الحاج في الديار المقدسة هي في الحقيقة تدريب وتربية يعيشها المومن وهو يمارس العبادة والطاعة من خلال أداء المناسك في أماكن الحج وأرض الحرام ، هذه التجربة التربوية تفرض عليه أن يلتزم الاسلام أمرا ونهيا وأن يتقيد بتوجيهاته في حله وإحرامه ، فيكون رقيبا على نفسه يحاسبها ويضبط أهواءها ويقرر عقوبتها . وهو بذلك يراقب الله في أقواله وأفعاله وتصرفاته .
احرص أيها المسلم أن يكون حجك مبرورا ، وذنبك مغفورا وسعيك مشكورا وعملك متقبلا مأجورا . ولكن متى يتحقق كل ذلك ؟
فحجك مبرور إن قصدت به وجه الله ، إيمانا به وطاعة لامره واستجابة لدعوته ، واتباعا لسنة نبيه وأداء للمناسك وفق شريعته .
وذنبك مغفور إن أنت عزفت عن الشهوات ، ورفضت المغريات ، ولم تقترف إثما ولم تأت خطيئة ( من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )
وسعيك مشكور يشكره الله لك ويحمده منك ملائكة الرحمة ، فيكتبون لك بكل خطوة حسنة ويضعون عنك بها سيئة إن شكرت له توفيقه لك .
وعملك متقبل مأجور إن كان خالصا لله وموافقا لشرع الله ، والتزمت فيه حدوده، فيضاعف الله لك فيه الحسنات : الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف ذلك :
أختي المسلمة أخي المسلم : إذا نزلت أرض الحرام والحج قاصدا وجه الله عبادته وطاعته مومنا به مصدقا بكتابه موقنا باجره . متبعا لنبيه ، فاديت المناسك كما أمر ، تحرم ملبيا وتلبي رجاء ، وتطوف إذعانا ، وتسعى طاعة ، تقوم قانتا ، وتقف مهللا ترمي مكبرا . وتقبل الحجر مؤمنا مصدقا متبعا ، كنت من الفائزين إن شاء الله .
بقلم الشيخ : القاضي برهون
م/ن
تعليق