كان مبصرًا في بداية حياته يرى النور بعينيه، ويبصر الحياة بمقلتيه، ويحس بالضياء يملأ ناظريه، فلم يكن يدور بخلده يومًا أن يفقد بصره، وأن يُحرَم النور والرؤية في مستقبل أيامه، وأنه يومًا ما سيصبح ضريرًا ضُرِبَ على عينيه ذلك الحجاب الكثيف، وتلك الستارة السوداء الدائمة.
ولكن قَدَرَ الله وما شاء فعل، فقد أصيب بمرض في عينيه جعل نورهما يتلاشى رويدًا رويدًا خلال أربع سنوات، حتى تلاشى تمامًا، فأصبح ضريرًا في ريعان شبابه ونضارة إهابه، فلم يلحقه اليأس، ولم يهدمه القنوط، ولم يذهب به عدم الرضا إلى غياهب التبرم والسخط، ولسان حاله يقول:
إن يأخذ الله من عينـي نورهمـا **** ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل **** وفي فمي صارم كالسيف مشهور
ذهب بصره ففاضت نفسه بالهدوء والرضا والسكينة، والاطمئنان إلى قدر الله وحكمته، فلا رادٌّ لقضائه، ولا معقب لحكمه، بيده الأمر وإليه المرجع والمآب.
فقد حفظ القرآن منذ طفولته الباكرة مما نشر على نفسه الطمأنينة والهدوء، ثم بدأ رحلته في طلب العلم بجد واجتهاد، وحرص وسعي، متنقلًا بين مكة والرياض وغيرها من ربوع المملكة، يلجأ إلى حلقات الدرس والتعلم على أيدي العلماء المشهورين، المشهود لهم بالعلم والمعرفة والصلاح والورع والتقوى.
إنه الإمام العالم الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا العملاق الذي استطاع أن يُظهِر من علمه ومعرفته ونبوغه وبراعته، ما جعل أول أشياخه ومعلميه يجيزه للقضاء في الخرج ثم في الدلم ،وهي إحدى مدن المملكة العربية السعودية، حيث يجلس قاضيًا يفصل بين الخصوم المتنازعين ببراعة ودقة، وأن يُعطِي الحقوق لأصحابها بنزاهة وطهارة يد، وأن يجعل من نفسه نموذجًا فريدًا للكفاح والنجاح.
وأن يواصل طريقه إلى بلوغ القمة في جدٍّ واجتهاد، متقلدًا المناصب في القضاء، ثم في التعليم؛ حتى يتربع على رئاسة هيئة كبار العلماء، وإدارات البحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، وأن يجعل من حياته وساعات يومه زادًا لا ينضب في البحث والدراسة، والدعوة والتزود بالعلم والمعرفة، وحمل هَم هذا الدين.
ضاربًا من قوله وفعله القدوة والمثل، وكأنه يقول: (ويل لطالب العلم إن رضي عن نفسه)، حتى جعله ذلك كله يحظى بالحب والاحترام والتقدير على جميع المستويات والمحافل، والجماعات والهيئات والحكومات داخل المملكة وخارجها)
همة الشباب في عمر الشيوخ
وكان الشيخ رحمه الله وهو في الثمانين من عمره لا ينام إلا بحدود أربع إلى خمس ساعات فقط، والباقي عشرين ساعة كلها في ذكر الله وطاعته وعبادته وقضاء حوائج المسلمين، قال لنا أكثر من مرة: أنه مستحق للتقاعد منذ سبعة عشر عامًا بكامل الراتب، ولكن والله، ما بقيت إلا من أجل أن أخدم المسلمين .
القعيد الذي هز العالم
إنه الشيخ المجاهد، العملاق الفذ، هذا الرجل الأعجوبة، الذي كان حديث العالم الإسلامي في حياته، وأصبح حديث العالم بأسره بعد وفاته، ورغم كل تلك الظروف القاسية التي كان يعيش فيها، والتي قد تَبُث اليأس والفشل والإحباط في قلوب أقوى الرجال، إلا أن هذا العملاق أبى أن يعيش كغيره من المسلمين على هامش الحياة، في دوامة الفشل والعجز والتردد، أو حتى في غياهب الغفلة والنسيان.
فكان من القلائل الذين سطَّروا بأعمالهم سطور المجد، وكتبوا بدمائهم سجلات الشرف في أنصع صفحات التاريخ، وانتصب عملاقًا للبذل في سبيل الله تبارك وتعالى إلى آخر لحظة من لحظات حياته المباركة.
إنه الشيخ أحمد ياسين، العالم المجاهد، والداعية الرباني، شيخ الشهداء في القرن العشرين، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نُزكِّي على الله أحدًا.
لله دَرُّه من عملاق! تسامى على كل ظروف الفشل، وارتفع على كل ألوان العجز، حتى تَجلَّت فيه قدرة العاجز؛ ففضحت عجز القادرين.
شلل رباعي تعجز معه أطرافه كلها عن الحركة، صعوبة بالغة في حركة اللسان حتى ليكاد السامع ألا يستبين منه الكلام، ضعف شديد في السمع، فقد لإبصار العين اليمنى إثر تعذيب وحشي على أيدي الكلاب الصهيونية الدنسة، بل وضعف شديد في إبصار اليسرى كذلك، ومع كل ذلك لم يركن إلى أعذاره القهرية تلك.
هذا هو مؤسس أقوى حركة مقاومة ضد أعداء الله من اليهود الصهاينة، نعم، فقد أسس الشيخ رحمه الله حركة حماس، وهو رهين كرسيه المتحرك ذي الأربع عجلات، أمضى حياته كلها قائدًا ومربيًا، وداعية ومجاهدًا وخطيبًا، ولقي في سبيل ذلك من صنوف المحن والابتلاءات، ما كان كفيلًا أن يفت في عضد كتيبة من الرجال الأقوياء.
فمن تشريد إلى اعتقال، ومن سجن وتعذيب إلى محاولات اغتيال، كل ذلك مع عيشة الفقر والكفاف، ولكنه صَبَرَ صَبْرَ المؤمن، وصمد صمود الجبال الراسيات.
لو رأيته لرأيت رجلًا لا يتحرك فيه إلا قلبه ولسانه، ولكنك ترى مع ذلك عزيمة ماضية وهمة عالية، تستعصي على كل ظروف العجز والفشل، بل وعلى الدبابات والمجنزرات، وطائرات الأباتشي ذات النجمة اليهودية، والصناعة الأمريكية.
وكما كان رحمه الله عملاقًا فذًّا في حياته، فقد كان عملاقًا فذًّا أيضًا في وفاته، فأبى الله تعالى إلا أن يُكرِمه بتلك الميتة العالية، والتي لا ينالها إلا عمالقة المؤمنين، فكان أن رزقه الله تعالى الشهادة في سبيله، وهو عائد إلى بيته فوق كرسيه المتحرك، بعد أن أدى فريضة الفجر في بيت الله تعالى، فاغتاله الصهاينة المجرمون في عملية غادرة، استخدموا فيها ثلاثة صواريخ مدمرة من طائرات الأباتشي الأمريكية الصنع.
أرادوا قتله رحمه الله، فكانوا سببًا في انتقاله إلى الحياة الخالدة، أراد اليهود موت الأسد الشيخ، فجعل الله تعالى شهادته سببًا في حياة الأمة بأسرها، بل ما دروا أنهم بقتله قد حققوا له أغلى أمنية له في حياته، فهاهو ذلك العملاق الفذ وقبيل اغتياله بأيام قليلة، عندما سئل عن رأيه في التهديدات الصهيونية الأخيرة.
فهل هذه كلمات رجل تخلت الدنيا كلها عنه وعن قضيته؟ هل هذه كلمات عاجز أو قعيد أو مشلول؟
قيل لي عنك عاجز وضعيف ***** قيل شـيـخ محــطــم قـيـل مـقـعد
قلت كلا لم يعــرفوك ولــكن ****** نظـــروا للأمـــور نـظـــرة أرمــد
لم تكن مقعــدًا ولـكــن همامًا ****** ملهمًا للجـــهاد والكـــون يشـهد
لم يكن ذلك الكـــليل لســانًا ****** بل هو الصـــارم الحســـام المهـند
لم يكن صـوتك المـهــدج عيًّا ****** بل سطـــورًا مـــن الملاحـم تنشد
لم تكــن تــلك أجــفـــان كَلًّا ****** بل ســـهامًا مـــن اللـــظى تتـوقد
تلك كانت تجاربًا وشمـوخًا ****** لم تكـــن لحيـــة وشـــعرًا مجـــعــد
لم تكن مقعدًا ولكن جــوادًا ****** يـــتهـــادى أمـــام مـــليار مقـــعد
إنما المقعدون نحن الأسارى ****** في قيود من اليأس والعجز نصفد
إنما المقعد الذي رضـي الذل ****** وخــاف العــدا ولــلأرض أخـلد
راضـيًا بالقــعود في الخالفين ****** جــــبــــانًـــا في ريـــبـــه يـــتـــردد
وختامًا
سيرة هؤلاء العظماء تعلمنا أن الظروف لا تصنع للإنسان فشلًا أو نجاحًا، إنما هو الذي يصنع بنفسه فشله أو نجاحه، وتثبت له أن ضعيف الهمة والعزيمة مقعد، وإن مشي وتحرك بين الأحياء، بينما قوي الإرادة حي متحرك، وإن شُلَّت منه جميع الأعضاء.
(منقول بتصرف)
تعليق