منارات : أئمه ودعاة
د. أحمد محمد زايد
الأحد 15 جمادى الثانية 1433 ـ الموافق 06 مايو 2012
كثير هم الطيبون الراغبون في الثواب الحريصون على رضوان الله تعالى , ومع ذلك فكثير من هؤلاء الكثير لا يدركون المعنى الكامل الصحيح للعبودية الواجبة عليهم, ولذا فهم يمارسون شطراً من العبادة حسب فهمهم ويتركون جزءاً هاماً, وفي هذا المقال نقف مع المفهوم الواسع الصحيح للعبودية, فأقول من المقرر أن العبودية نوعان عامة وخاصة , فالعامة ما يشترك فيه المسلمون مما شرع للجميع من صلاة وصيام وحج وذكر ونوافل , وهذا ما عليه حال عموم المسلمين , أما العبودية الخاصة فيقول عنها ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إعلام الموقعين: "ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته سوى العبودية العامة التي سوّى بين عباده فيها".وهي عبارة دقيقة جامعة تضيف أفقاً في الفهم والعمل والإصلاح في الحياة الإسلامية يحتاج إلى بيان وتجلية , فإذا اشترك الناس في الواجبات والأحكام العامة بحكم كونهم مسلمين فقد خص الله تعالى كل أحد من الخلق بحالة من العطاء والمنح والمسئوليات تفرض عليه القيام بواجبات سماها ابن القيم "العبودية الخاصة" فصلها رحمه الله على النحو:
أولا: العبودية الخاصة للعلماء قال :"فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره"
ثانيا: عبودية الحاكم الخاصة وقال فيها:"وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي"
ثالثا: عبودية الأغنياء وقال فيها:" وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير"
رابعا:عبودية القادر على الدعوة إلى الله فقال:" وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما, وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت له امرأة هذا واجب قد وضع عنا فقال هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب فقالت صدقت جزاك الله خيرا"
تعطيل هذه العبوديات وموقف الشرع من أصحابها:
لما كان هذا اللون من العبودية ذا شأن خطير نظراً لما يترتب على القيام به من مصالح ولما ينشأ عن الإخلال به من مفاسد, وبخاصة عبودية العلماء الذين يناط بهم قيادة الإصلاح في المجتمعات الإسلامية يقول ابن القيم وهو يصور لنا أثر تعطيل وتضييع هذه العبودية:" وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع وعطلوا هذه العبوديات فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها, وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً, فإن الدين هو القيام لله بما أمر به, فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه, ومَن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم - وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً والله المستعان. وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلوب فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل".
وهكذا في مجال يمكن أن يقال مثل هذا الكلام فيقال في حق المدرس والطبيب والمحامي ورب الأسرة و أصحاب المهن وهكذا لأن كل واحد نائب عن الأمة في مجاله, فينبغي أن يقوم بحق هذه النيابة على الوجه الأتم.
ولهذا لما كان محمد بن الحسن يتعب في مذاكرة العلم فقيل له ألا تنام وترتاح قال: كيف أنام وأمة أمة تنتظرني. وقد سئل الشافعي عن مذاكرة العلم أفضل أم قيام الليل : قال طلب العلم مع النية أفضل من قيام الليل.
ومن هنا فجائز شرعاً تفرغ طالب العلم والعالم لطلب العلم ويجوز إعطاؤه من مال الزكاة مقابل هذا التفرغ لأنه يقوم بالنيابة عن الأمة في جانب العلم والفتيا والتعليم , ومثل هذه الأحكام لا تجوز للتفرغ للعبادة, فالعابد لو تفرغ للعبادة لا يعطى.
وإذا لم يقم كل صاحب حالة بالعبودية الخاصة فينبغي أن ينظر في شأنه بالحجر أو المنع أو التعزيز أو العقوبة أو النصح ومن هنا يأتي قول أبي حنيفة رضي الله عنه :"يجب أن يحجر على ثلاثة :المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس)
أغنياء المسلمين وعبوديتهم الخاصة:
وقبل الختام أحب أن أخص أغنياء المسلمين وهم كثر - والحمد لله- أنهم من أعمدة الإصلاح في الحياة الإسلامية متى فقهوا هذا النوع من العبودية وقاموا بها على الوجه الصحيح , فكثير من الأعمال الإسلامية العلمية والخيرية والدعوية والسياسية والتنموية تحتاج إلى تفعيل معنى العبودية الخاصة للأغنياء, بعد أن انصرف كثير منهم إلى نفسه وخصوصياته, وأحسنهم حالاً الذي ينفق في وجوه محددة لا يتصور الحاجة في غيرها, ورأينا البعض حريصاً على الحج كل عام والاعتمار أكثر من مرة في العام الواحد مضيعاً بذلك أبواباً أكثر ثواباً وآكد فرضية مما يقوم هو به.
قيل لبِشر: إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء :
وقال ابن مسعود :(في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الزرق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه).
وقال أبو نصر التمار إن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث وقال قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء فقال له كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم, قال بشر: فأي شئ تبتغي بحجك تزهداً أو اشتياقاً إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال ابتغاء مرضاة الله, قال فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال نعم, قال اذهب فأعطها عشرة أنفس ,مديون يقضي دينه ,وفقير يرم شعثه ,ومعيل يغني عياله, ومربي يتيم يفرحه ,وإن قوي قلبك تعطيها واحداً فافعل فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك.
فقال يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له:
إن المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين.
وختاماً فما أحوجنا إلى إشاعة هذا المعنى في حركتنا الإصلاحية , يشيعه العلماء والدعاة والموجهون , وبخاصة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ مصرنا الحبيبة .
والحمد لله رب العالمين.
تعليق