الزَّمَن يَدُور ، والحياة تسير ، والزَّاد مع السَّالكين قليل ، والسَّفر إلى الله - تعالى - طويل ، والحساب أمام الله - عز وجل - شديد ، وما من يومٍ ينشقُّ فجْرُه إلاَّ ويُنادي مُنادٍ : " يا بن آدم ، أنا خلْقٌ جديد ، وعلى عملك شهيد ، فاغتنمْنِي ؛ فإنِّي إلى يوم القيامة لا أعود ".
عامٌ مضى وعام أتى ، عامٌ أدبرَ وعامٌ أقبل ، وبينهما يقف العبد مع نفْسِه يُحاسبها ، ومع أعماله يُراجعها ، ومع أولوِيَّاته يرتِّبها ، ومع حركاته وسكناته ينظِّمها ، يتخلَّص مِمَّا علق به من ذنوبٍ وسيِّئات ، ويسترجع ما فاته من درجات وحسنات ، ويستزيد مما أفاء الله عليه من نِعَمٍ ورحمات ؛ لينجو يوم الْمَمات من الشَّدائد والكربات ، كالتَّاجر النَّاجح في الدُّنيا لا ينام في أكثر الأيام ، وإنَّما يَقْضي وقته بين السَّفر والْمُقام ، بين السَّهر والزحام ، بين التَّعب والآلام ، حتَّى إذا كان آخر العام جرَّد دفاتره ، وراجع فواتيره ، وأنْهَى حساباته ؛ ليتجنَّب خسارته ، ويزيد من ربْحِه ، وهو ربحٌ دنيوي قد يكون أو لا يكون ، وإذا كان قد ينتفع به أو لا ينتفع ، وإذا انتفع به قد يدوم أو لا يدوم ، وإذا دام فإنَّ صاحبه نفسه لا يدوم ، كيف ؟
{ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [النساء: 77 - 78]،
فمَن لَم يُحاسب نفْسَه دامت يوم القيامة حسراته ، وطالت في عرَصات الآخرة وقفاتُه ، وزادت على أبواب العذاب أنَّاته ونزعاتُه ، وقادتْه إلى الْخِزي والْمَقت سيِّئاتُه ونزواته .
فمَن لَم يُحاسب نفْسَه دامت يوم القيامة حسراته ، وطالت في عرَصات الآخرة وقفاتُه ، وزادت على أبواب العذاب أنَّاته ونزعاتُه ، وقادتْه إلى الْخِزي والْمَقت سيِّئاتُه ونزواته .
يقول الفاروق - رضي الله عنه -: " حاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا ، وزِنُوها قبل أن تُوزَنوا ، وتَهيَّؤوا للعرض الأكبر على الله ".
بين عام وعام تخفت الآلام وتتزايد الأحلام :
مضى عامٌ بِحُلوه ومُرِّه ، بِخَيره وشرِّه ، بحسناته وسيِّئاته ، بأفراحه وأتْرَاحه ، ترادفَت السَّاعات ، وتسارعت اللَّحظات ، وتغيَّرت الحالات... كيف ؟
الصِّحة تَقْوى وتَضْعف ، والنُّجوم تَخْتفي وتظهر ، والأيام تُقْبِل وتدْبِر ، وربُّك يَخْلق ما يشاء ويَخْتار ، وكلُّ شيء عنده بِمِقدار ، والعبد المؤمن بين مَخافتَيْن : أجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله قاضٍ فيه ، وأجَلٍ قد بقي لا يدري ما الله صانعٌ فيه ، فلْيَأخُذ العبدُ من نفْسه لنفْسه ، ومن صحَّتِه لسقمه ، ومن حياته لِمَوته ، فما بعد الموت من مُستعْتب ، وما بعد الدُّنيا من دار إلاَّ الجنة أو النار .
يقول ابن كثير :
تَمُرُّ بِنَا الأَيَّامُ تَتْرَى وَإِنَّمَا *** تُسَاقُ إِلَى الآجَالِ وَالعَيْنُ تَنْظُرُ
فَلاَ عَائِدٌ ذَاكَ الشَّبَابُ الَّذِي مَضَى *** وَلاَ زَائِلٌ هَذَا الْمَشِيبُ الْمُكَدِّرُ
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: " ما مضى من الدُّنيا أحلام ، وما بقي منها أمانِي ، والوقت ضائعٌ بينهما "[1]،
وروى البخاريُّ في " صحيحه " من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال : ارتَحلَت الدُّنيا مدْبِرة ، وارتَحلَت الآخرة مقْبِلة ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا مِن أبناء الدنيا ، فاليوم عمَلٌ ولا حساب ، وغدًا حسابٌ ولا عمل !
وقْتُك هو ثروتك ، هو رأس مالك ، هو حياتُك ، وصحَّتك هي تاجك ، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (( نعمتان مَغبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصحَّة والفَراغ ))؛ "صحيح البخاري".
وروى البخاريُّ في " صحيحه " من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه قال : ارتَحلَت الدُّنيا مدْبِرة ، وارتَحلَت الآخرة مقْبِلة ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا مِن أبناء الدنيا ، فاليوم عمَلٌ ولا حساب ، وغدًا حسابٌ ولا عمل !
وقْتُك هو ثروتك ، هو رأس مالك ، هو حياتُك ، وصحَّتك هي تاجك ، لذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (( نعمتان مَغبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصحَّة والفَراغ ))؛ "صحيح البخاري".
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: ما ندِمتُ على شيءٍ ندَمِي على يومٍ غربَتْ شمسه ؛ نقص فيه أجَلِي ، ولَم يزدَدْ فيه عملي .
وقال الشافعي - رحمه الله -: " صحِبْتُ الصُّوفية ، فما انتفعت منهم إلاَّ بكلمتين ؛ سمعتهم يقولون : الوقت سيفٌ فإن قطعتَه وإلاَّ قطعَك ، ونفسك إن لَم تشْغَلها بالحق شغلتْك بالباطل "[2].
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تزول قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتَّى يُسأَل : عن عمره فيمَ أفناه ؟ وعن علمه فيمَ فعل ؟ وعن ماله من أين اكتَسَبه ؟ وفيمَ أنفَقَه ؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه ؟ ))؛ قال الترمذي: حسن صحيح.
اغتَنِم قبل أن تغتنم، وحاسِب قبل أن تُحاسَب :
((اغتَنِم خَمسًا قبل خمس : حياتَك قبل موتك ، وصحَّتك قبل سقمِك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابَك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك ))[3]،
وروي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنَّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد ، يُصَرِّفه حيث يشاء ))، ثُم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( اللهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ ، صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك ))؛ صحيح.
وروي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنَّ قلوب بني آدم كلها بين إصبعَيْن من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد ، يُصَرِّفه حيث يشاء ))، ثُم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( اللهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ ، صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك ))؛ صحيح.
يقول الله - تعالى -: { رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [النور: 37] لماذا؟ ترهيب: (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37]،
ثم ترغيب : { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 37]؛ لذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر مِن قول : (( يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّت قلبِي على دينك ))؛ "صحيح مسلم".
ثم ترغيب : { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [النور: 37]؛ لذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يُكثِر مِن قول : (( يا مُقَلِّبَ القلوب، ثَبِّت قلبِي على دينك ))؛ "صحيح مسلم".
وقال الحسَن البصري - رحمه الله -: " يا ابن آدم ، إنَّما أنتَ أيَّام ؛ فإذا ذهَبَ يومُك فقد ذهب بعضُك "،
وقال : أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتِهم أشدَّ منكم على دراهِمِكم ودنانيركم .
وقال : أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتِهم أشدَّ منكم على دراهِمِكم ودنانيركم .
لذلك ؛ وفي الصَّحيحين في قصَّة الكبش الذي يُذبَح بين الجنَّة والنَّار ، ويقال : يا أهل الْجنَّة ، خلودٌ فلا موت ، ويا أهل النار ، خلودٌ فلا موت ، ثُم قرأ النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [مريم: 39]،
وأشار بيده إلى الدنيا ؛ "صحيح مسلم".
وأشار بيده إلى الدنيا ؛ "صحيح مسلم".
قال محمد بن علي الترمذيُّ : اجعل مراقبتك لِمَن لا تغيب عن نظره إليك ، واجعل شكرك لِمَن لا تنقطع نِعَمُه عنك ، واجعل طاعتَك لِمَن لا تَسْتغني عنه ، واجعل خُضوعك لِمَن لا تَخْرج عن مُلكه وسلطانه !.
وعن ميمونِ بن مِهْران قال : لا يكون العبْدُ من الْمُتَّقين حتَّى يُحاسِب نفسَه أشدَّ من محاسبة شريكه ، والشريكان يتحاسَبان بعد العمل .
وتروي أمُّ المؤمنين عائشة أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - قال لَها عند الموت: " ما أحدٌ أحب إلَيَّ من عمر " ، ثُم قال لَها : " كيف قلتُ ؟ " ، فأعادتْ عليه ما قال ، فقال : " لا أحد أعز عليَّ من عمر " ؛ نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبَّر لَها ، وأبدلَها بكلمةٍ غيرها .
السقوط والانْحِدار :
وقيل : مَن كان يومُه مثْلَ أمْسِه فهو مغبون ، ومن كان يومه شرًّا من أمسه فهو ملعون ، كان يتجنَّب المكروهات والمُحرَّمات ، فاقتصر على تجنُّب المُحرَّمات ، وكان يصلِّي الفرض والنَّفل فأصبح لا يصلِّي إلا الفرض ، كان يُخْرِج الزَّكاة مع الصدقة ، فبات لا يُخرج إلا الزَّكاة ، وربَّما يقصر فيها ، كان يصلِّي حاضرًا فأصبح يصلِّي قضاء ، بدل أن يعلو انْحَدر ، وبدل أن يصعد نزَل ، وبدل أن يرتقي تسفَّل ، وبالتَّالي لُعِن ، ومَن لُعِن طُرِد ، ومن طرد خَسِر ، ومن خسر فقدَ الدنيا والآخرة ، مثل مَن قال الله فيهم: { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } [القصص: 42]
{ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً }[الأحزاب: 61].
{ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً }[الأحزاب: 61].
اختارهم الله لأمرٍ عظيم ، وخلقهم في أحسن تقويم ، { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [البلد: 4] ،
لكنَّه اختار لنفسه سبيلاً آخر ، إنَّ مثل هؤلاء ضيَّعوا أوقاتَهم ، وعمَّروا دُنياهم ، وخرَّبوا أُخْراهم ، فرُدُّوا إلى السُّقوط والانحدار ! { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [البلد: 5].
لكنَّه اختار لنفسه سبيلاً آخر ، إنَّ مثل هؤلاء ضيَّعوا أوقاتَهم ، وعمَّروا دُنياهم ، وخرَّبوا أُخْراهم ، فرُدُّوا إلى السُّقوط والانحدار ! { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } [البلد: 5].
اللهم امنَحْنا التَّقْوى ، وجَمِّلنا بالعلم ، وزيِّنَّا بالْحِلم ، اللهم استعمِلنا في طاعتك ، ولا تُذِلَّنا بِمَعصيتك ، اللهم ثبِّت قلوبنا على دينك ، وصرِّف قلوبنا على طاعتك ، اللهم اشرح صدورَنا ، وأحسِن ختامَنا ، وجَمِّل خلاصنا ، اللهم اجعلنا مع النبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصَّالِحين وحَسُن أولئك رفيقًا ، اللهم ارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل ، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا ، ولا مبلغ علمِنا ، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى أهله وصحبه وسلِّم ، والحمد لله ربِّ العالَمِين .
___________
[1] "الفوائد" ص 48.
[2] "مدارج السَّالكين" (3/ 97).
[3] (صحيح) انظر حديث رقم: 1077 في "صحيح الجامع".
م.ن
تعليق