في انتظار القطار
"معاناة منتظرة".. تزوجت صديقاتي وبقيت أنا
قالت بلسانها: تزوجت الصديقات جميعهن.. حققن الحلم، بيت
وزوج وأطفال، وحياة ممهورة بتوقيعهن، وتحمل في كل ركن
فيها طابعهن واختياراتهن.. بعضهن تسير الآن وخلفها طفل،
وعلى يدها آخر.. تزوجن جميعا وبقيت أنا.
وحكت عيناها: طال انتظاري، واشتد شوقي، وعظم قلقي.. لو أنني أطمئن إلى
أن الحلم سيتحقق، ولن يظل حبيس الخيال، ورهن الأماني.. لو أنني أطمئن..
لسكنت نفسي، وهدأ بالي، ولكن أنَّى هذا والعمر يمر؟ والأيام تعبر خاطفة
كالبرق؟ والخطّاب يأتون ولا يتم الأمر لسبب لا أعلمه؟
اطمئني يا أخية.. قرّي عينا، واستبشري بفرج قريب، ورزق عميم.. أزمتك
ليس أزمة زواج، ولكنها أزمة الانتظار.. انظري حولك لتدركي أنها معاناة
الجميع، الكل ينتظر، ويقلق، يرتفع به الأمل الطاغي ولا يلبث اليأس إلا أن
يطيح به من علٍ.
الكل ينتظر لو تعلمين.. فهذه تزوجت ولكنها تنتظر الإنجاب.. بقلق ووله،
والأخرى تزوجت وأنجبت بنات، ولكنها تنتظر بأمل بالغ أن ترزق بالبنين، وعلى
الضفة المقابلة تقف منتظرة ثالثة ترجو بنتا تخفف صلابة بيتها الذكوري،
وتؤانسها.
هذه تنتظر المال، وذاك ينتظر فرصة العمل المناسبة، وتلك تنتظر شفاء ولدها،
واستقامة حاله.. الكل ينتظر، ومن لا ينتظر فهو المكتئب، يرقد في الملالة،
تحيط به رماديتها، فلم يعد في الدنيا ما يرجوه، أو تتحرك إليه حماسته.
أزمتك يا عزيزتي ليست في الزواج.. وإنما هي في الانتظار!
والانتظار بحد ذاته ليس أزمة، فهو سلوك إنساني طبيعي، الأزمة في الاحتراق..
في القلق.. في ضياع العمر بحثا عن المفقود.. وطلبا للغائب.
أزمتنا أن الانتظار يشوش على إدراكنا للدنيا أنها دار ابتلاء واختبار، فنستطيلها
وهي قصيرة، بل هي كما وصفها القرآن الكريم: "ساعة من نهار"[1]
المشكلة أن يتحول انتظارنا إلى قلق يعوقنا عن الطاعة، بدلا من أن يكون أمل
يقربنا من الدعاء، ويملأ حياتنا تضرعا ورجاء.. أن يورثنا طول الانتظار
المتململ الحانق الشك في الفرج، واستبعاد الرزق، فنهجر سؤال الله، أو ندعوه
غير موقنين.
الخطورة في الانتظار عندما يصبح سمة الحياة أنه يزرع قلوبنا في المستقبل،
فيضيع حاضرنا سدى، وتفوت علينا أوقاته الثمينة، وننسى شكر نعمائه، والتمتع
بطيباته.
ومن خطورته أيضا أنه يستهلك طاقة الفرحة، ويبدد مع الأيام بهجة الحلم،
فعندما نصل إليه، ونقطف ثمرته.. تكون سعادتنا باهتة، وكثيرا ما يتعجب الناس
من أنفسهم.. لزهدهم عندما تتحقق الأمور التي طالما تمنوها، فخيالنا يضفي
ألوانا سحرية على كل شيء، ويصور لنا سعادة مكتملة موهومة في أرض الأحلام
البعيدة، ولكن الأهداف تتحقق هنا.. على هذه الأرض، وفي ظل قوانين الدنيا
المطبوعة على كدر.
ليس الصواب أن نكف عن الانتظار، فهذا تكليف بمستحيل، كما أن الانتظار
ضروري للتخطيط وتحديد الأهداف، ومحرك نحو الإلحاح في الدعاء، ولكن
الصواب أن نقيم في قلوبنا تلك الفريضة الغائبة عنها وهي "حسن الظن بالله"،
والتي بها يطمئن القلب، وينشأ التوكل، ويستجاب الدعاء، وتستقيم الحياة.
انتظري الزواج واثقة برزق الله وتدبيره واختياره.. انتظري الزواج ولا تقطعي
نفسك لهذا الانتظار فسوف تسألين عن عمركِ فيمَ أفنيتهِ.. انتظري الزواج بعزة
نفس فإن الأمور تجري بالمقادير
"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ"
[1] الأحقاف: 35
منقول
تعليق