كفران النعم
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
هيآفة صعبة وآفة سيئة نود أن تنتهي وأن نتوب منها ونبتعد عنها، أو نكون من غير المتصفين بها. هذه الآفة هي كفران النعم ونكران الجميل، و هذه صفة، وللأسف الشديد، موجودة في صغارنا قبل كبارنا، موجودة في رجالنا ونسائنا، إلا من رحم ربي. وتعني أن الإنسان لا يعترف بلسانه بما قر ّفي قلبه من الخير ومن جميل الصنع، أو من جميل الصنائع التي تسدى إليه سواء هذا الخير من الخالق أو من المخلوق. فالإنسان مغمور في نعم كثيرة، كل واحد فينا مغمور بنعم كثيرة، أول نعمة هي نعمة الإسلام نحمد الله رب العالمين على هذه النعمة، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: يا رب رزقتني الإسلام وأنا لم أسألك، فارزقني الجنة وأنا أسألك (1).
الإنسان يزجي جميلاً إلى الناس، الأب يزجي جميلاً إلى ابنه؛ أنه يسميه اسما حسناً ويختار له أماً صالحة وينفق عليه، ويقوم على تعليمه وتأديبه وتربيته، يمرض لمرضه، ويفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، إذا رسب الولد يحزن الأب أكثر من حزن ابنه، إذا نجح وتفوق يفرح الأب أكثر من فرح ابنه، هكذا الأم تصنع، ويأتي الولد بعد ذلك أو البنت وكأن الأب مفروض عليه أن يصنع هذا وكأن الأم مفروض عليها أن تصنع هذا.......
حقيقة الأمر لا شيء يفرض على الأب والأم في مسألة الأبناء إلا الطعام والشراب إلى سن البلوغ ثم التعليم إذا وصل إلى سن البلوغ وكان متفوقا نابها؛ وجب علي كأب أو أم أن أواظب معه على تعليمه إن كان نابغة فيه. أما غير ذلك فهذا تفضل من الأب وتفضل من الأم.
لكن كثيراً من أبنائنا يكفرون النعم وينكرون جميل صنع الآباء والأمهات، وكأنه يقول: ما مهمتك في الحياة أبتي إلا أن تنفق علي، لا مهمة الأب غير ذلك، أنت الذي فهمت المسألة خطأ!! أنت لست أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعمل وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان يرعى غنماً على قراريط في مكة، ويعين عمه أبا طالب على تربية أبنائه الكثيرين، ثلاثة عشرة ولداً، إذاً ليس أبناؤنا ولا أبناء المسلمين كلهم أشرف عند الله وأعز عند الله من المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي عمل وهو في هذه السن.
الكارثة الكبرى في مسألة كفران النعم هو نابع من جهل وغفلة الإنسان ونسيان نعم الله سبحانه وتعالى، نعمة الصحة والعافية، نعمة الأمن، نعمة المال، نعمة المسكن، نعمة الملبس، كل هذه نعم. الإنسان عندما يرى أهل الابتلاء، يرى أناساً يبيتون في العراء، ومن يبيت في خيام خارج المدن، هؤلاء اللاجئون في كل مكان، هؤلاء المرضى في كل مكان، وأنت تنعم بنعمة الصحة والعافية، حتى إن مرضت تجد المستشفى التي تطببك، والطبيب الذي يحاول أن يكون وسيلة في شفائك، كل هذه النعم نحن للأسف الشديد، ننساها، لماذا؟!لأننا إذا جهلنا نعم الله سبحانه وتعالى علينا واستقلّ الإنسان نعمة الله سبحانه وتعالى بدأ في نكران الجميل، حتى وإن كان هذا الجميل مسدى إلينا من إنسان؛ فنرى كفران النعم ونكران الجميل، من بعض الأزواج مثلاً، عندما تخدمه المرأة، وتصبر على سوء خلقه، وتصبر على شراسة طبعه، وتصبر على تقطيب جبينه، وتقدم له الطعام في الوقت الذي يطلب، وتعينه على تربية أولاده، وترعى له ماله، وترعى له أبناءه وبيته، وتحفظه في ماله وعرضه، ورغم ذلك يقول هذه إنسانة مقصرة!! هذه إنسانة جاهلة!! هذه إنسانة لم تصنع خيراً قط!! وهذا أيضا موجود عند كثير من الزوجات، إلا من رحم ربي،تقول الزوجة: والله ما رأيت منه خيراً قط!! قد يحسن إليها عشرين سنة وثلاثين سنة كزوج و تأتي بعد ذلك تقول: والله ما رأيت منه خيراً قط لا منه ولا من أهله، وتنكر الجميل وتنكر كفران النعم، حتى إن سألتها وقلت لها أما ابتسم في وجهك مرة؟! تقول لا والله أنا لا أذكر، أما كلمك كلاما طيباً مرة؟! تقول: لا والله، سبحان الله!! و كأن هذه الإنسانة ما رأت خيراً قط!! عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال : خرج رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال: "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكنأكثر أهل النار " فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال:" تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن". قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال:" أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"؟ قلن: بلى، قال: "فذلك نقصان من عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال:" فذلك من نقصان دينها"(2).
وأنا أقول دائماً إن كل زوج وزوجة إن لم يتق الله رب العالمين فكأنما يضع في ذاكرته كما نقول كيسين في هذه الذاكرة، كيس مثقوب يضع فيه هذا الإنسان للطرف الآخر حسناته كلها، فالحسنات تنزل من الكيس المثقوب، فلا حسنة لهذا عند ذاك، ويضع في الكيس غير المثقوب أو تضع هي لزوجها في الكيس غير المثقوب كل سيئاته، فبعد سنوات من الزواج هو حاصل على ملايين السيئات عندها، وغير حاصل على ولا حسنة واحدة لأنها تسربت من الكيس المثقوب وهكذا هو!! ولكن الأمور تنضبط عندما يتعلم الإنسان كيف هي النعم، عندما يتخلق الإنسان بخلق الإسلام، عندما يعرف الإنسان أن نعم الله سبحانه وتعالى يجب أن تقيد بقيد الشكر؛ فإذا لم يشكر رب العباد ويستشعرها تزول هذه النعم،قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم:28) هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل في سورة النعم، سورة النحل التي يسميها العلماء بسورة النعم، عندما قال سبحانه وتعالى: ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83).
والله سبحانه وتعالى ضرب هذا المثل الواضح في كتابه حينما قال عز وجل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112). إذاً القضية كما أن الفرد قد لا يشكر النعم فتزول، كذلك الأمم أيضاً إذا أنكرت الجميل ولم تشكر زالت عنها النعم وربما لا تعود إليهم مرة أخرى. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ثلاث من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيرا دفنه وإن رأى شراً أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك" (3)والعياذ بالله رب العالمين!! هذه من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء عندما يرى منك الحسنة ويرى منك الخير يدفنه وكأنه لم ير شيئاً وإن رأى شراً أذاعه لأنه جار وإذا تحدث الجار عن جاره صدقه الناس وقالوا والله هو أعرف وأعلم الناس به.
تعلم أن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإن أعرب لسانه، يعني لما يتكلم لسانه إما شاكراً وإما كافراً، يقول تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان:3)، الشاكر هو الذي يعرف النعمة للمنعم، ولا تنسيه النعمة المنعم.الإنسان قد يشتغل بماله عن من رزقه هذا المال، قد يشغل بالصحة ويحافظ على صحته ولكنه ينسى من الذي أعطاه هذه الصحة، قد يرى نعمة الولد وينسى من الذي رزقه نعمة الولد، قد ينعم بالأمن ولكنه ينسى من الذي أعطاه هذه النعمة. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر، رضي الله عنه، أنه قال: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعطه كان كلابس ثوبي زور"( 4).
"من أعطي عطاء" أي نوع من العطاء: ابتسامة، كلمة طيبة، معاملة طيبة، "فليجز به" يعني: يعطي عليه الجزاء الحسن، "ومن لم يجد" يعني: أن يعطي رداً بالجزاء الحسن المقابل للإحسان الذي وصله، "فليثني" يعني: يمدح؛ يقول: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، هكذا يقول الزوج لزوجته، وتقول الزوجة لزوجها، ويقول الابن لأبيه، وتقول البنت لأمها، ويقول الجار لجاره، ويقول الصاحب لصاحبه، ومن قال لأخيه: جزاك الله خيراً فقد أجزل له العطاء، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر. الإنسان الذي لم يشكر الناس على ما صنعوه من خير معه لم يشكر الله عز وجل لأن هؤلاء العباد خلفاء الله في الأرض وهم عبيد الله، فإذا أحسن إليك إنسان فلتشكره لأنك كأنما شكرت الله سبحانه وتعالى. فمن أعطى عطاء فوجد عنده ما يرد به فليجز به وليعطي، ومن لم يجد فليثني، أي يقول خيراً ويمدح، فإن من أثني فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعطه كان كلابس ثوبيّ زور، ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. فالتحدث بنعمة الله شكر، وترك التحدث بنعمة الله نوع من الكفر، قال تعالى: "إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ" (العاديات:6) الكنود هو الذي يعدد المصائب وينسى نعم الله عليه،هكذا قال الحسن البصري، رضي الله عنه.تجلس مع إنسان كيف الحال يا فلان، والله أنا مريض وصحتي تعبانة وزوجتي متعبة وأبنائي متعبون والظروف صعبة والغلاء مستمر، يعني يأيسك من رحمة الله، يضيق عليك الدنيا، يحول الدنيا إلى صورة قاتمة، يعني يا أخ الإسلام قل: الحمد لله رب العالمين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خير قال: الحمد لله، وإذا أصابه ما يكره قال: الحمد لله على كل حال، يعني كلمة الحمد في لسانه صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال. وفي حديث صهيب بن سنان الرومي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"عجباً لأمر المؤمن، فأمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له"( 5).
فالله تعالى أعلم بخلقه وبما يصلحهم، وبما يقيمهم على عبادتهوطريقه، فهو سبحانه القائل: ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14). فمن عباد الله الغني لا يصلحه إلا الغنى؛ لو أفقره الله تعالى لفسد حاله، وإن من عباد الله الفقير لا يصلحه إلا الفقر؛ لو أغناه لفسد حاله، وهكذا، إن من عباد الله الصحيح لا تصلحه إلا الصحة؛ لو أسقمه الله تعالى لفسد حاله، وإن من عباد الله تعالى السقيم لا يصلحه إلا السقم؛ لو أصححه لفسد حاله، لأن الله هو الذي يعلم.حتى أنت مع أبناءك في البيت تعرف أن هذا الولد مسرف؛ لو أعطيته المائة أو المائتين أو أكثر ربما أنفقها في لحظة، وأنت تعطيه بقدر لأنك تعلم إسرافه. وهذا إنسان آخر تعلم طريقته في التعامل كذا وكذا فتعطيه بقدر.وأنت إنسان محدود ولأنكَ أب ولأنكِ أم، ولأنك أكبر سناً وأفضل وأكثر علما فتقول أنا أفعل هذا لكذا فما بالك، ولله المثل الأعلى برب العبادسبحانه وتعالى الذي خلق العباد وهو الذي يعلم دخائلهم، وظواهرهم، وبواطنهم.
فالإنسان المسلم الحق هو الذي لا يكفر النعمة ولا ينكر الجميل، بل يشكر الله على كثير الأمر و قليله. قيدوا النعمة بقيد الشكر فأيما نعمة لم تقيد بقيد الشكر هربت، والإنسان إذا رزق بنعمة فليحسن جوارها، فإن من رزق بنعمة العلم؛ يحسن جوار نعمة العلم، ومن رزق بنعمة المال؛ يحسن جوار نعمة المال، ومن رزق بنعمة الصحة؛ يحسن جوار نعمة الصحة. فإن الإنسان إن لم يحسن جوار النعم زالت، وإذا زالت قلما تعود مرة أخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين لا ينكرون النعم و لا يجحدون الفضل، وإنما يشكرون الناس على ما يفعلونه معهم. وقبل ذلك وبعد كل ذلك يشكرون رب العباد سبحانه وتعالى على نعمائه صغيرها وكبيرها، القائل: "لئن شكرتم لأزيدنكم" (إبراهيم من الآية7).والحمد لله والشكر لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د. عمر عبدالكافي
بتصرف من حلقات آفات اللسان
هيآفة صعبة وآفة سيئة نود أن تنتهي وأن نتوب منها ونبتعد عنها، أو نكون من غير المتصفين بها. هذه الآفة هي كفران النعم ونكران الجميل، و هذه صفة، وللأسف الشديد، موجودة في صغارنا قبل كبارنا، موجودة في رجالنا ونسائنا، إلا من رحم ربي. وتعني أن الإنسان لا يعترف بلسانه بما قر ّفي قلبه من الخير ومن جميل الصنع، أو من جميل الصنائع التي تسدى إليه سواء هذا الخير من الخالق أو من المخلوق. فالإنسان مغمور في نعم كثيرة، كل واحد فينا مغمور بنعم كثيرة، أول نعمة هي نعمة الإسلام نحمد الله رب العالمين على هذه النعمة، وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: يا رب رزقتني الإسلام وأنا لم أسألك، فارزقني الجنة وأنا أسألك (1).
الإنسان يزجي جميلاً إلى الناس، الأب يزجي جميلاً إلى ابنه؛ أنه يسميه اسما حسناً ويختار له أماً صالحة وينفق عليه، ويقوم على تعليمه وتأديبه وتربيته، يمرض لمرضه، ويفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، إذا رسب الولد يحزن الأب أكثر من حزن ابنه، إذا نجح وتفوق يفرح الأب أكثر من فرح ابنه، هكذا الأم تصنع، ويأتي الولد بعد ذلك أو البنت وكأن الأب مفروض عليه أن يصنع هذا وكأن الأم مفروض عليها أن تصنع هذا.......
حقيقة الأمر لا شيء يفرض على الأب والأم في مسألة الأبناء إلا الطعام والشراب إلى سن البلوغ ثم التعليم إذا وصل إلى سن البلوغ وكان متفوقا نابها؛ وجب علي كأب أو أم أن أواظب معه على تعليمه إن كان نابغة فيه. أما غير ذلك فهذا تفضل من الأب وتفضل من الأم.
لكن كثيراً من أبنائنا يكفرون النعم وينكرون جميل صنع الآباء والأمهات، وكأنه يقول: ما مهمتك في الحياة أبتي إلا أن تنفق علي، لا مهمة الأب غير ذلك، أنت الذي فهمت المسألة خطأ!! أنت لست أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يعمل وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان يرعى غنماً على قراريط في مكة، ويعين عمه أبا طالب على تربية أبنائه الكثيرين، ثلاثة عشرة ولداً، إذاً ليس أبناؤنا ولا أبناء المسلمين كلهم أشرف عند الله وأعز عند الله من المعصوم صلى الله عليه وسلم الذي عمل وهو في هذه السن.
الكارثة الكبرى في مسألة كفران النعم هو نابع من جهل وغفلة الإنسان ونسيان نعم الله سبحانه وتعالى، نعمة الصحة والعافية، نعمة الأمن، نعمة المال، نعمة المسكن، نعمة الملبس، كل هذه نعم. الإنسان عندما يرى أهل الابتلاء، يرى أناساً يبيتون في العراء، ومن يبيت في خيام خارج المدن، هؤلاء اللاجئون في كل مكان، هؤلاء المرضى في كل مكان، وأنت تنعم بنعمة الصحة والعافية، حتى إن مرضت تجد المستشفى التي تطببك، والطبيب الذي يحاول أن يكون وسيلة في شفائك، كل هذه النعم نحن للأسف الشديد، ننساها، لماذا؟!لأننا إذا جهلنا نعم الله سبحانه وتعالى علينا واستقلّ الإنسان نعمة الله سبحانه وتعالى بدأ في نكران الجميل، حتى وإن كان هذا الجميل مسدى إلينا من إنسان؛ فنرى كفران النعم ونكران الجميل، من بعض الأزواج مثلاً، عندما تخدمه المرأة، وتصبر على سوء خلقه، وتصبر على شراسة طبعه، وتصبر على تقطيب جبينه، وتقدم له الطعام في الوقت الذي يطلب، وتعينه على تربية أولاده، وترعى له ماله، وترعى له أبناءه وبيته، وتحفظه في ماله وعرضه، ورغم ذلك يقول هذه إنسانة مقصرة!! هذه إنسانة جاهلة!! هذه إنسانة لم تصنع خيراً قط!! وهذا أيضا موجود عند كثير من الزوجات، إلا من رحم ربي،تقول الزوجة: والله ما رأيت منه خيراً قط!! قد يحسن إليها عشرين سنة وثلاثين سنة كزوج و تأتي بعد ذلك تقول: والله ما رأيت منه خيراً قط لا منه ولا من أهله، وتنكر الجميل وتنكر كفران النعم، حتى إن سألتها وقلت لها أما ابتسم في وجهك مرة؟! تقول لا والله أنا لا أذكر، أما كلمك كلاما طيباً مرة؟! تقول: لا والله، سبحان الله!! و كأن هذه الإنسانة ما رأت خيراً قط!! عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال : خرج رسول اللهصلى الله عليه وسلمفي أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال: "يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكنأكثر أهل النار " فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال:" تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن". قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال:" أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"؟ قلن: بلى، قال: "فذلك نقصان من عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم" قلن: بلى، قال:" فذلك من نقصان دينها"(2).
وأنا أقول دائماً إن كل زوج وزوجة إن لم يتق الله رب العالمين فكأنما يضع في ذاكرته كما نقول كيسين في هذه الذاكرة، كيس مثقوب يضع فيه هذا الإنسان للطرف الآخر حسناته كلها، فالحسنات تنزل من الكيس المثقوب، فلا حسنة لهذا عند ذاك، ويضع في الكيس غير المثقوب أو تضع هي لزوجها في الكيس غير المثقوب كل سيئاته، فبعد سنوات من الزواج هو حاصل على ملايين السيئات عندها، وغير حاصل على ولا حسنة واحدة لأنها تسربت من الكيس المثقوب وهكذا هو!! ولكن الأمور تنضبط عندما يتعلم الإنسان كيف هي النعم، عندما يتخلق الإنسان بخلق الإسلام، عندما يعرف الإنسان أن نعم الله سبحانه وتعالى يجب أن تقيد بقيد الشكر؛ فإذا لم يشكر رب العباد ويستشعرها تزول هذه النعم،قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم:28) هؤلاء الذين ذكرهم الله عز وجل في سورة النعم، سورة النحل التي يسميها العلماء بسورة النعم، عندما قال سبحانه وتعالى: ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83).
والله سبحانه وتعالى ضرب هذا المثل الواضح في كتابه حينما قال عز وجل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل:112). إذاً القضية كما أن الفرد قد لا يشكر النعم فتزول، كذلك الأمم أيضاً إذا أنكرت الجميل ولم تشكر زالت عنها النعم وربما لا تعود إليهم مرة أخرى. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ثلاث من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيرا دفنه وإن رأى شراً أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك" (3)والعياذ بالله رب العالمين!! هذه من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء عندما يرى منك الحسنة ويرى منك الخير يدفنه وكأنه لم ير شيئاً وإن رأى شراً أذاعه لأنه جار وإذا تحدث الجار عن جاره صدقه الناس وقالوا والله هو أعرف وأعلم الناس به.
تعلم أن كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإن أعرب لسانه، يعني لما يتكلم لسانه إما شاكراً وإما كافراً، يقول تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (الإنسان:3)، الشاكر هو الذي يعرف النعمة للمنعم، ولا تنسيه النعمة المنعم.الإنسان قد يشتغل بماله عن من رزقه هذا المال، قد يشغل بالصحة ويحافظ على صحته ولكنه ينسى من الذي أعطاه هذه الصحة، قد يرى نعمة الولد وينسى من الذي رزقه نعمة الولد، قد ينعم بالأمن ولكنه ينسى من الذي أعطاه هذه النعمة. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جابر، رضي الله عنه، أنه قال: " من أعطي عطاء فوجد فليجز به، ومن لم يجد فليثن، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلى بما لم يعطه كان كلابس ثوبي زور"( 4).
"من أعطي عطاء" أي نوع من العطاء: ابتسامة، كلمة طيبة، معاملة طيبة، "فليجز به" يعني: يعطي عليه الجزاء الحسن، "ومن لم يجد" يعني: أن يعطي رداً بالجزاء الحسن المقابل للإحسان الذي وصله، "فليثني" يعني: يمدح؛ يقول: جزاك الله خيراً، بارك الله فيك، هكذا يقول الزوج لزوجته، وتقول الزوجة لزوجها، ويقول الابن لأبيه، وتقول البنت لأمها، ويقول الجار لجاره، ويقول الصاحب لصاحبه، ومن قال لأخيه: جزاك الله خيراً فقد أجزل له العطاء، فإن من أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر. الإنسان الذي لم يشكر الناس على ما صنعوه من خير معه لم يشكر الله عز وجل لأن هؤلاء العباد خلفاء الله في الأرض وهم عبيد الله، فإذا أحسن إليك إنسان فلتشكره لأنك كأنما شكرت الله سبحانه وتعالى. فمن أعطى عطاء فوجد عنده ما يرد به فليجز به وليعطي، ومن لم يجد فليثني، أي يقول خيراً ويمدح، فإن من أثني فقد شكر، ومن كتم فقد كفر، ومن تحلّى بما لم يعطه كان كلابس ثوبيّ زور، ومن لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. فالتحدث بنعمة الله شكر، وترك التحدث بنعمة الله نوع من الكفر، قال تعالى: "إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ" (العاديات:6) الكنود هو الذي يعدد المصائب وينسى نعم الله عليه،هكذا قال الحسن البصري، رضي الله عنه.تجلس مع إنسان كيف الحال يا فلان، والله أنا مريض وصحتي تعبانة وزوجتي متعبة وأبنائي متعبون والظروف صعبة والغلاء مستمر، يعني يأيسك من رحمة الله، يضيق عليك الدنيا، يحول الدنيا إلى صورة قاتمة، يعني يا أخ الإسلام قل: الحمد لله رب العالمين، كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خير قال: الحمد لله، وإذا أصابه ما يكره قال: الحمد لله على كل حال، يعني كلمة الحمد في لسانه صلى الله عليه وسلم في كل الأحوال. وفي حديث صهيب بن سنان الرومي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"عجباً لأمر المؤمن، فأمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له"( 5).
فالله تعالى أعلم بخلقه وبما يصلحهم، وبما يقيمهم على عبادتهوطريقه، فهو سبحانه القائل: ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14). فمن عباد الله الغني لا يصلحه إلا الغنى؛ لو أفقره الله تعالى لفسد حاله، وإن من عباد الله الفقير لا يصلحه إلا الفقر؛ لو أغناه لفسد حاله، وهكذا، إن من عباد الله الصحيح لا تصلحه إلا الصحة؛ لو أسقمه الله تعالى لفسد حاله، وإن من عباد الله تعالى السقيم لا يصلحه إلا السقم؛ لو أصححه لفسد حاله، لأن الله هو الذي يعلم.حتى أنت مع أبناءك في البيت تعرف أن هذا الولد مسرف؛ لو أعطيته المائة أو المائتين أو أكثر ربما أنفقها في لحظة، وأنت تعطيه بقدر لأنك تعلم إسرافه. وهذا إنسان آخر تعلم طريقته في التعامل كذا وكذا فتعطيه بقدر.وأنت إنسان محدود ولأنكَ أب ولأنكِ أم، ولأنك أكبر سناً وأفضل وأكثر علما فتقول أنا أفعل هذا لكذا فما بالك، ولله المثل الأعلى برب العبادسبحانه وتعالى الذي خلق العباد وهو الذي يعلم دخائلهم، وظواهرهم، وبواطنهم.
فالإنسان المسلم الحق هو الذي لا يكفر النعمة ولا ينكر الجميل، بل يشكر الله على كثير الأمر و قليله. قيدوا النعمة بقيد الشكر فأيما نعمة لم تقيد بقيد الشكر هربت، والإنسان إذا رزق بنعمة فليحسن جوارها، فإن من رزق بنعمة العلم؛ يحسن جوار نعمة العلم، ومن رزق بنعمة المال؛ يحسن جوار نعمة المال، ومن رزق بنعمة الصحة؛ يحسن جوار نعمة الصحة. فإن الإنسان إن لم يحسن جوار النعم زالت، وإذا زالت قلما تعود مرة أخرى.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الذين لا ينكرون النعم و لا يجحدون الفضل، وإنما يشكرون الناس على ما يفعلونه معهم. وقبل ذلك وبعد كل ذلك يشكرون رب العباد سبحانه وتعالى على نعمائه صغيرها وكبيرها، القائل: "لئن شكرتم لأزيدنكم" (إبراهيم من الآية7).والحمد لله والشكر لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
اللهم اجعلنا من الشاكرين واجعلنا من الذين لا ينكرون الجميل صغيره أو كبيره يا رب العالمين.
تعليق