هاني الشيخ جمعة سهل (*)
بسم الله الرحمن الرحيم
تطيش العقول ، وتتحير الأفهام ، وتجف الأحبار ، وينقطع المداد ، وتنعقد الألسنة ، ويحار الفكر ، عندما ترى أخاً لك صالحاً يشار إليه بالبنان في التقى والخشية قد تحولت حاله ، وغيرت الدنيا قلبه ، فما هو (فلان) الذي تعرفه ، ولا هو منطقه الذي تألفه ، عندها .. لا تملك إلا أن ترفع يديك مرتجفتين ، وتخرجها دعوات صادقة من سويداء قلبك .. يا رب ، يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك .
عجباً لنا .. نتكلم عن الثبات كأننا أهله ، ونتحدث عن الانتكاسة وفي أذهاننا أننا أبعد البشر عنها ، هل عهد الله إلى أحد منا أنه سيتوفاه على الإيمان ؟! هل عندنا ضمان من مصرف القلوب والأبصار أن يثبتنا على هداه حتى نلقاه؟ ألا يخيفنا ما حصل لبعض من سبقنا ونحن نعلم أنهم خير منا ؟
آية عجيبة مررنا بها كثيراً دون أن ننعم الفكر في مدلولاتها ، وهي ابتهال داعية التوحيد وأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لربه تعالى قائلاً : (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) ، عجباً ! إمام الموحدين الذي جعل الأصنام جذاذاً يخاف على نفسه ويبتهل للمولى أن يجنبه عبادة الأصنام !
مصيبتنا أن كثيراً منا يشعر أنه لا يمكن أن يفتن ، ولا يخطر بباله أن تتغير أحواله ، ولا تجول بخاطره صورة أخرى لنفسه غير صورته صائماً قانتاً مبتهلاً بالأسحار .
كم قرأنا وسمعنا ، بل وعاصرنا ممن كان بالأمس لا يتأخر عن الصف الأول ، ولا يدع قيام الليل ، ولا تراه إلا آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً إلى الله ، مهموماً بأمور المسلمين ، مشاركاً في حلقات تحفيظ القرآن ، ثم هو اليوم منغمس في المنكرات ، والج في الملذات ، لاهث وراء الشهوات ، قد بدل الأصحاب ، وأغلق دون الصالحين الباب ، تنكر لرفاق الدرب فأنكروه ، وسخر مما عاش عليه دهراً ، فأنكر ما كان يعرف ، وعرف ما كان ينكر ، سلب حلاوة الإيمان ، وراحة القلب ، قد نزع الله النور من وجهه فأظلم ، وتغشت قلبه وحشة المعصية والمنكر ، اغتر بلذات الدنيا الفانية المنقطعة ، وهجر لذة الطاعة التي لا تدانيها لذة .
أكثر الانتكاسات لا تحصل في يوم واحد ، بل تمر بمراحل عدة ، تبدأ بشبهة أو شهوة ، ينفثها الشيطان في قلب الملتزم ، فيسترسل معها حتى تقوى ، ثم يستهين على إثرها ببعض المحرمات فيقسو قلبه ويظلم ، ويتراكم عليه الران ، فإذا أكثر من المعاصي أوحى إليه الشيطان بأنه ليس أهلاً لمصاحبة الصالحين الطاهرين ، فتراه ينسلخ من تجمعاتهم ، ويفارق دروسهم ومحاضراتهم ، متعللاً بكثرة الأشغال وازدحام الأعمال ، وربما سد كل طريق يوصله إلى أصحابه الصالحين ، فيغلق هاتفه الجوال ، ويغير عناوينه الالكترونية ، ويوقف صفحاته على المواقع الاجتماعية ، وما هي إلا أيام حتى يفاجأ الصالحون بفلان العابد القانت ، قد فارق الطاعات وولغ في ألوان المنكرات ، واستبدل صحبة المؤمنين المخبتين ، بصحبة اللاهين الفاسقين .