السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أحوال الناس بعد رمضان
خطبة المسجد الحرام
8 من شوال 1431 هـ
لفضيلة الشيخ : سعود الشريم
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله مُقلِّب الأيام والشهور، والسنين والدهور، كريمٍ ودود، غفورٍ شكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الحريص الصبور، دعا فأبلغ، وبشَّر وأنذر، وبلَّغ رسالة ربه في جميع الأمور، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الميامين البدور، وعلى أصحابه أهل البرِّ والأجور، ومن تبعهم بإحسان ما سطع ضياءٌ، ولاحَ نور.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والثبات على دينه، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بِرٍّ، وإياكم والقصور والفتور؛ فإنهما يُهلِكان العبد ويُقعِدانه عن التزوُّد بمعالي الأمور، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ .
أيها المسلمون :
الفرص الثمينة ما لفواتها عِوَض، وإن انتهازها لدليلٌ جلِيٌّ على قوة الإرادة النابعة عن عزمٍ مُوفَّق، ومن فرِح بالبطالة جَبُن عن العمل، ولا يغُرنَّ المرء رغباتُه الصالحة مُجرَّدة عن العمل، فإنه لن يستفيد منها إلا إذا انتهز كلَّ فرصةٍ سانحةٍ له، وعموم الأعمال الصالحة لا تُكلِّف المرء وقتًا طويلاً ما لم يشُقَّ على نفسه ويُرهِقها عُسْرًا.
ولذا - عباد الله - فإن الميدان سباق، والأوقات تُنتَهَب، وما فات ما فات إلا بالخلود إلى الكسل، ولا نِيلَ خيرٌ إلا بالجِدِّ والعزم، وثمرة الأمرَيْن - عباد الله - أن تعب المُحصِّل للفضائل راحةٌ في المعنى، وراحة المُقصِّر في طلبها تعبٌ وشيءٌ يُعاب عليه إن كان ثَمَّ فهمٌ وإدراك.
والدنيا كلها إنما تُراد لتُعبَر لا لتُعمَر، وسيُودَع كلُ واحدٍ منَّا قبره ولما يقضي لُبانتَه منها، ومن ثَمَّ يأسف على فقد ما وُجودُه أنفع له في حين إن تأسُّفه ربما يكون نوع عقوبةٍ عاجلةٍ على تفريطه، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
وما هذه الدنيا - عباد الله - إلا كمائدةٍ شِبَعها قصير، وجوعها طويل، ومن سلك الطريق الواضح دون فتورٍ أو مللٍ ورَدَ الماء فنَهَلَ منه رِيًّا، ومن خالفَ فقد وقع في التيه ولاتَ ساعة ارتواء.
أيها المسلمون:
إن شهر رمضان قد انصرم وانمَحَق، وتفرَّق نظامُه بعد أن كان اتَّسَق، وانطوَت صحيفةُ ذلك السوق بعد عرضٍ وطلب، وبيعٍ وشراء، وربحٍ وخسارة، وغبنٍ وغِبطة،
وصارت أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ثلاثة أضرب:
فضَربٌ من الناس ظنُّوا أن الله لا يُعبَد إلا في رمضان، ولا يُطاع إلا في رمضان، ولا محارم له إلا في رمضان، فبئس القوم هؤلاء الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، وبئس القوم هم إذ لم يربحوا من صومهم إلا الجوع والعطش، ولا من صلاتهم إلا التعب والسهر، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وضَربٌ آخر من الناس حمَّلوا أنفسهم ما لا تُطيق، فأثقَلوا عليها في العبادة فوق ما أراده الله لهم، وراغَموها دون تلطُّف، وإن مما لا شكَّ فيه أن الرواحل إذا قطَعَت مرحلتين في مرحلةٍ واحدة فهي خَليقةٌ بأن تقِف، والطريق الشاقُّ ينبغي أن يُقطَع بألطف ممكن، ولذا فإن أخذ الراحة للجدِّ جِدٌّ، وغوصُ البحَّار في طلبِ الدُّرِّ صعودٌ له، ومن أراد البيِّنة على ذلك فليستمِع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين، فأوغِلوا فيه برِفق؛ فإن المُنبَتّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى»؛ رواه أحمد.
وفي "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإن الله لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دامَ وإن قلَّ».
أما الضَّربُ الثالثُ - عباد الله -: فهم أولئك المؤمنون المُلهَمون، الخائفون الراجُون، الراغبون الراهبون، الذين توسَّطوا يوم تبايَن آخرون، واعتدلوا يوم شذَّ مغرورون، بواطنُهم كظواهرهم، رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات من عُبَّاد ربِّ الشهور كلها، فهم يعبدون الله في كل حين، ويعلمون أن الله اختصَّ رمضان بزيادة فضلٍ وعملٍ لا يُلغِي عملَ الشهور كلها، ولا يستهينُ بالعمل في غيره، يعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَوادٌ في كل حِينه، وإنما يزداد جُوده في رمضان.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن هناك عباداتٍ هي من الثوابت التي لا تتغيَّر بعد رمضان؛ كالصلاة، والزكاة، والحجّ، وصوم النوافل، والصدقة، والدعاء، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكر، وغير ذلكم كثير.
ناهيكم - عباد الله - عن ثابت التوبة الذي لا يتغيَّر؛ بل هو مطلوبٌ في كل حينٍ وآن، كما قال - جلَّ وعلا -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأوَّلها بقوله: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة».
ألا فاعلموا - عباد الله - أنكم قد علمتم ما سمعتم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علِم، ولقد ذُقتُم طعم العبادة في رمضان، ولذَّة القُرب من الله، فلا تُعكِّروا هذا الصَّفوَ بالكَدَر، والهناءَ بالشقاء، والقُرب بالبُعْد، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفِطام، فما الرَّضَاع إلا للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، وعليكم بالصبر على مرارة الفِطام، والعقد على العافية والمعافاة؛ لأن النكسة أصعب من المرض، والحَوْر بعد الكَوْر بلاءٌ وانهيار.
ولذا فإن من أعظم ما يُعين المرء على الثبات، وحصد الأجور الكبيرة في مُقابل العمل الصغير:
ما جاء في أجور صيام النوافل التي يعلم المُقصِّر من خلالها أنه سيكون حِلْسَ تفريطٍ يجعله من القَعَدة المتخلِّفين إذا هو لم يُبادر ويتدثَّر بفضلها ونورها،
فقد روى مسلم في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان وأتْبَعه بستٍّ من شوال كان كصيام الدهر كله»، ووجه ذلك - عباد الله - أن الله - جل وعلا - جعل الحسنة بعشر أمثالها، فصيامُ رمضان يُعدُّ مُضاعفًا بعشرة شهور، وصيام الستّ بستين يومًا، فيتحصَّل من ذلكم أجر صيام سنةٍ كاملة.
وفي الحديث الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن صيام ثلاثة من كل شهر - وهي أيام البيض -: «إنها كصيام الدهر»، وعدد أيام البيض في السنة مع ستٍّ من شوال اثنان وأربعون يومًا، فمن صام رمضان، وستًّا من شوال، وأيام البيض في سنةٍ واحدة صار كمن صام سنتين كاملتين، فيتحصَّل بذلكم اثنان وسبعون يومًا بأجر سبعمائةٍ وعشرين يومًا، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن أمهات المؤمنين - رضي الله تعالى عنهن أجمعين -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغَله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحوال الناس بعد رمضان
خطبة المسجد الحرام
8 من شوال 1431 هـ
لفضيلة الشيخ : سعود الشريم
الخطبة الأولى :
الحمد لله، الحمد لله مُقلِّب الأيام والشهور، والسنين والدهور، كريمٍ ودود، غفورٍ شكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الحريص الصبور، دعا فأبلغ، وبشَّر وأنذر، وبلَّغ رسالة ربه في جميع الأمور، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الميامين البدور، وعلى أصحابه أهل البرِّ والأجور، ومن تبعهم بإحسان ما سطع ضياءٌ، ولاحَ نور.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -، والثبات على دينه، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بِرٍّ، وإياكم والقصور والفتور؛ فإنهما يُهلِكان العبد ويُقعِدانه عن التزوُّد بمعالي الأمور، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ .
أيها المسلمون :
الفرص الثمينة ما لفواتها عِوَض، وإن انتهازها لدليلٌ جلِيٌّ على قوة الإرادة النابعة عن عزمٍ مُوفَّق، ومن فرِح بالبطالة جَبُن عن العمل، ولا يغُرنَّ المرء رغباتُه الصالحة مُجرَّدة عن العمل، فإنه لن يستفيد منها إلا إذا انتهز كلَّ فرصةٍ سانحةٍ له، وعموم الأعمال الصالحة لا تُكلِّف المرء وقتًا طويلاً ما لم يشُقَّ على نفسه ويُرهِقها عُسْرًا.
ولذا - عباد الله - فإن الميدان سباق، والأوقات تُنتَهَب، وما فات ما فات إلا بالخلود إلى الكسل، ولا نِيلَ خيرٌ إلا بالجِدِّ والعزم، وثمرة الأمرَيْن - عباد الله - أن تعب المُحصِّل للفضائل راحةٌ في المعنى، وراحة المُقصِّر في طلبها تعبٌ وشيءٌ يُعاب عليه إن كان ثَمَّ فهمٌ وإدراك.
والدنيا كلها إنما تُراد لتُعبَر لا لتُعمَر، وسيُودَع كلُ واحدٍ منَّا قبره ولما يقضي لُبانتَه منها، ومن ثَمَّ يأسف على فقد ما وُجودُه أنفع له في حين إن تأسُّفه ربما يكون نوع عقوبةٍ عاجلةٍ على تفريطه، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
وما هذه الدنيا - عباد الله - إلا كمائدةٍ شِبَعها قصير، وجوعها طويل، ومن سلك الطريق الواضح دون فتورٍ أو مللٍ ورَدَ الماء فنَهَلَ منه رِيًّا، ومن خالفَ فقد وقع في التيه ولاتَ ساعة ارتواء.
أيها المسلمون:
إن شهر رمضان قد انصرم وانمَحَق، وتفرَّق نظامُه بعد أن كان اتَّسَق، وانطوَت صحيفةُ ذلك السوق بعد عرضٍ وطلب، وبيعٍ وشراء، وربحٍ وخسارة، وغبنٍ وغِبطة،
وصارت أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ثلاثة أضرب:
فضَربٌ من الناس ظنُّوا أن الله لا يُعبَد إلا في رمضان، ولا يُطاع إلا في رمضان، ولا محارم له إلا في رمضان، فبئس القوم هؤلاء الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، وبئس القوم هم إذ لم يربحوا من صومهم إلا الجوع والعطش، ولا من صلاتهم إلا التعب والسهر، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
وضَربٌ آخر من الناس حمَّلوا أنفسهم ما لا تُطيق، فأثقَلوا عليها في العبادة فوق ما أراده الله لهم، وراغَموها دون تلطُّف، وإن مما لا شكَّ فيه أن الرواحل إذا قطَعَت مرحلتين في مرحلةٍ واحدة فهي خَليقةٌ بأن تقِف، والطريق الشاقُّ ينبغي أن يُقطَع بألطف ممكن، ولذا فإن أخذ الراحة للجدِّ جِدٌّ، وغوصُ البحَّار في طلبِ الدُّرِّ صعودٌ له، ومن أراد البيِّنة على ذلك فليستمِع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا الدين متين، فأوغِلوا فيه برِفق؛ فإن المُنبَتّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى»؛ رواه أحمد.
وفي "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أيها الناس! خذوا من الأعمال ما تُطيقون، فإن الله لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمال إلى الله ما دامَ وإن قلَّ».
أما الضَّربُ الثالثُ - عباد الله -: فهم أولئك المؤمنون المُلهَمون، الخائفون الراجُون، الراغبون الراهبون، الذين توسَّطوا يوم تبايَن آخرون، واعتدلوا يوم شذَّ مغرورون، بواطنُهم كظواهرهم، رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمنات من عُبَّاد ربِّ الشهور كلها، فهم يعبدون الله في كل حين، ويعلمون أن الله اختصَّ رمضان بزيادة فضلٍ وعملٍ لا يُلغِي عملَ الشهور كلها، ولا يستهينُ بالعمل في غيره، يعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَوادٌ في كل حِينه، وإنما يزداد جُوده في رمضان.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن هناك عباداتٍ هي من الثوابت التي لا تتغيَّر بعد رمضان؛ كالصلاة، والزكاة، والحجّ، وصوم النوافل، والصدقة، والدعاء، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهيٍ عن منكر، وغير ذلكم كثير.
ناهيكم - عباد الله - عن ثابت التوبة الذي لا يتغيَّر؛ بل هو مطلوبٌ في كل حينٍ وآن، كما قال - جلَّ وعلا -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأوَّلها بقوله: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة».
ألا فاعلموا - عباد الله - أنكم قد علمتم ما سمعتم، ولقد أحسن من انتهى إلى ما سمع أو علِم، ولقد ذُقتُم طعم العبادة في رمضان، ولذَّة القُرب من الله، فلا تُعكِّروا هذا الصَّفوَ بالكَدَر، والهناءَ بالشقاء، والقُرب بالبُعْد، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، ولا ترجعوا بعد رمضان إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفِطام، فما الرَّضَاع إلا للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، وعليكم بالصبر على مرارة الفِطام، والعقد على العافية والمعافاة؛ لأن النكسة أصعب من المرض، والحَوْر بعد الكَوْر بلاءٌ وانهيار.
ولذا فإن من أعظم ما يُعين المرء على الثبات، وحصد الأجور الكبيرة في مُقابل العمل الصغير:
ما جاء في أجور صيام النوافل التي يعلم المُقصِّر من خلالها أنه سيكون حِلْسَ تفريطٍ يجعله من القَعَدة المتخلِّفين إذا هو لم يُبادر ويتدثَّر بفضلها ونورها،
فقد روى مسلم في "صحيحه" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان وأتْبَعه بستٍّ من شوال كان كصيام الدهر كله»، ووجه ذلك - عباد الله - أن الله - جل وعلا - جعل الحسنة بعشر أمثالها، فصيامُ رمضان يُعدُّ مُضاعفًا بعشرة شهور، وصيام الستّ بستين يومًا، فيتحصَّل من ذلكم أجر صيام سنةٍ كاملة.
وفي الحديث الآخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن صيام ثلاثة من كل شهر - وهي أيام البيض -: «إنها كصيام الدهر»، وعدد أيام البيض في السنة مع ستٍّ من شوال اثنان وأربعون يومًا، فمن صام رمضان، وستًّا من شوال، وأيام البيض في سنةٍ واحدة صار كمن صام سنتين كاملتين، فيتحصَّل بذلكم اثنان وسبعون يومًا بأجر سبعمائةٍ وعشرين يومًا، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن أمهات المؤمنين - رضي الله تعالى عنهن أجمعين -، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغَله بنفسه، واجعل كيده في نحره يا سميع الدعاء.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر »رواه مسلم
منقول
« من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر »رواه مسلم
منقول
تعليق