رحيل أمي
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم
أيعقل أنها ماتت؟!!.
منذ أربعين سنة، لم نر حالة وفاة في محيط العائلة المكرمة، حينذاك توفي والدنا الكريم - رحمه الله تعالى رحمة واسعة – ولم أكن أعي معنى الموت تماما؛ استيقظت والبيت يبكي، فقلت: ماشأنكم؟. قالوا: مات أبوك. قلت: حسنا، أنا ذاهب إلى المدرسة.
وجرت مراسيم الدفن العزاء كأني أراها اليوم، وذهبت الأيام وأدركتُ أُمَّنا على كبر من سنها، وهي في حيوية ونشاط تحسد عليها، يصدق عليها الوصف النبوي: (حارث همام)، وقد تجاوزت الثمانين فبلغت الثامنة منه، فما كانت تشكو من علة سوى وهن العظم.. تقوم بأعبائها بغير معونة، وتدبر شئونها بكل اقتدار وذكاء، وترعى بيتها وهي الراعية المحنكة، في: نظامها، وترتيبها، ونظافتها. وربما حمّلناها أعباءنا، لا رغبة في إرهاقها، بل اغتناما لخبرتها، وحسن صنعتها، ودقة مصنوعاتها.
لا أطيل في وصف حركاتها وسكناتها المباركة، فقد كانت خفيفة علينا جميعا؛ لم ترهق أحدا منا نحن أولادها، لا بطلب، ولا بمرض، ولا بخلق عسر، بل سعت في رضانا وكأنا نحن الأب والأم وهي الولد، بما كان يثير في نفوسنا الحسرة والألم، بل والغضب أحيانا من استرضاءها البالغ لأبنائها، وتطلب الأعذار لمن قصر منهم في حقها أو بعض حقها، والأولاد في كل حال مقصرون مهما بدوا بررة بارين، فحقها عظيم وعطاؤها أجمل، لكن حرصها علينا أملى لها أن تكون الفراش والأرض المهاد والجمل الذلول، فلا أذكر خلافا إلا وبادرت إلينا قبل أن نبادر نحن إليها، كانت أسرع إلى أولادها منهم إليها، وأبر بهم منهم بها، تسعى في رضاهم وهي في سرور وحبور من صلتها بهم وجلوسها إليهم، لقيت أحد أبنائها وهي في مرض موتها، فكانت عليه أَسِفا، تقول: انظروا لقد أحرق الشمس خده، وأرهقه الحر والعمر.
لقد أحسنت إليهم حملا وولادة، وتربيتهم صغارا وكبارا، فحملتهم على برها حملا، وأغرتهم بحقها إغراء حتى تشربوا حبها ومعنى البر بها فبرّوا، فما كان لهم من سبيل إلا أن يبروها، هكذا كانت هي رحمها الله تعالى.
وفي الأبناء بر لا يخفى، لكن نمط الحياة المادية، والسعي الدؤوب في دروبها، تلهي عن فضائل جمة أو تقلل من اغتنامها، لا حبا في التقصير، إنما عجزا عن القيام بما يجب كما ينبغي، لكن أمّنا تغلبت على قوانين هذه الحياة وصوارفها، ورجعت بأولادها إلى حضنها ورعايتها، فاستنقذتهم من مخالب المدنية والمادية، حتى كانوا لا يقطعون وصالها، ولا يمنعونها خير ما عندهم وأفضله، فكانت نقطة الجذب، ومحور الحياة، ومغناطيس القلوب، وامتد الأثر إلى الأحفاد فكانوا أشد لها حبا وتعلقا واحتراما، بل وامتد إلى أزواج الأبناء؛ فكن معها كريمات وهي معهن أكرم، ولم تكن تلك الغيرة المذمومة التي تكون بين الحموات والأزواج، فإن إكرامها لهن ساوى إكرامها لأبنائها، فأحببنها وأدركن فضلها، وسارعن في رضاها وهي إليهن أسرع، ولم يختلف حال أزواج بناتها عن ذلك، وحال هؤلاء كلهم جميعا في مرضها وموتها، كشف عن قدر مشاعرهم تجاهها.
لأول مرة أكتب عن شخص بعينه، لم أجد سبيلا يخفف ثقلا ورد على قلب ضعيف إلا الكتاب، فأسكب الروح والألم والحسرة فيه، وذلك دأب العاجز، لقد طرق بابنا الحزن، حين وقفنا على حقيقة مرة، لازلت في شك منها؛ أنها لم تعد بيننا، أخذت من بين أيدينا، بل نحن الذين خرجنا بها من بيوتنا لتسكن بيتا لم نتهيأ له، وقد تهيأت هي له، ولم نستوعب ألا نراها وهي تدخل علينا، أو ندخل عليها بيتها وهي تجلس على كرسي لها لدى الباب ترقب مجيئنا. حملناها على أكتافنا وأسرعنا وكأن شيئا يلحق بنا، بعد أن جهزناها كعروس، ورحلنا بها إلى محطة تنقلها إلى دار أخرى بعيدة عنا قريبة منا.
مضت إلى رحمة الله تعالى، وعالجنا للتو صبرنا، واختبرنا ثباتنا وما كنا نحدث به الناس عن الإيمان بالأقدار وفضل الرضا، ولم ندر أن الواقعة شيء آخر غير الصورة والخيال، وأن بمقدور المرء أن ينظّر ويتكلم بكلام الأنبياء، لكنه عند الاختبار يدرك قيمة نفسه ومحلها.
مضت إلى الله تعالى، وأغلق دوننا بابا من أبواب الجنة: (رغم أنف امرئ أدرك أبويه فلم يدخلاه الجنة). وهذا مبلغ الحسرة، وقد شهدنا في مرضها الذي لم يتم شهره الثلاث أمورا خفف عنا شيئا، فإنها لم تمت بالفجأة، بل هيأتنا جميعا للحظة الحزينة، بوصيتها بما ملكت، وبما يجب أن نقوم به لتجهيزها، ثم بمرضها العضال الذي أصابها فجأة في عنقها، والذي جزم جميع من مررنا بهم من الأطباء: أنه مرض خبيث لا علاج له، وهو أسرع من كل دواء. هو سرطان الغدة الدرقية ونوعه (anaplastic) وقد شرع في تضييق الخناق على القصبة والبلعوم، بما كان يعني حتما موتها مختنقة، والأطباء يقولون: أشد أنواع الميتات موتة المخنوق. لكن ما حدث، أنها رحمها الله دخلت في غيبوبة تامة منذ عصر الجمعة الثاني من شعبان، في هذا الوقت الفضيل، وهي في ذكر لله تعالى، ثم قبض روحها يوم الأحد الرابع منه 1433 وقت صلاة العشاء، ولم يأخذ منها النزع سوى لحظات يسيرة، تحركت في حركة بسيطة، لفتت به النظر، واستوجبت استدعاء الأطباء والممرضين، لكن كانت هي النهاية، فلم تعان معاناة المخنوق، وخرجت روحها تسيل من جسدها، كما تسيل القطرة من في السقاء.
هذا ما شهده من حضر الواقعة، والحمد لله على نعمته وفضله، وفي مجموع الآثار: أن الغريق، والمطعون، والمبطون، والحريق: شهيد. وهي في معناهم؛ فإنها أدواء تأخذ الصحيح السليم، فتكون سببا في موت سريع، وهكذا كان موتها بهذا المرض الذي هو أخبث المرض.
وقد خفف عنا، أنها كانت صالحة كثيرة الذكر والتسبيح والتهليل وقراءة ما استطاعت حفظه من القرآن وهي الأمية، وكم كان تشوقها لو تعلمت القراءة، فقط لتقرأ القرآن، وهذا ما حملها على الجد والاجتهاد لتحفظ عامة قصار السور وجزء عم.
كما كانت زاهدة، فلم نعرف عنها حرصا على الدنيا، بل كانت ترضى بأقل القليل، وما يكون لديها من مال تفرقه بين أحفادها والفقراء ومن كان في حاجة حتى من أولادها. زهدت في المال وزهدت في الدنيا، وأقبلت علينا تفضي إلينا برغبتها في لقاء ربها، ونحن في عجب من حالنا وحالها، نحن نخاف الموت، وهي تحبه لا يأسا وسأما، ولكن حبا فيما عند الله تعالى، وللمؤمن أن يرجو لقاء ربه، لا لضر أصابه، بل رغبة فيما عند الله تعالى، وقد تمناه جمع من الصحابة رضوان الله عليهم، وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره.
أقبلت علي في مرضها، وقد رأتني مهموما كئيبا فقالت: لا تحزن، فما من شيء تخشى عليه، فإنك تقوم اليوم على قدميك، ولست مثلي التي نشأت يتيمة الأبوين، وقد كبر سني وطال عمري، والرحيل لا بد منه".
ما من شيء كان أخف علينا حملا منها؛ في حياتها، وفي مرضها، وفي موتها وما تبع ذلك، فإنها ماتت وقت العشاء، وغسلت وكفنت قبل صلاة الفجر، وصلى الناس عليها في حرم الله، وكان يعج بالمصلين وكأنه الحج، ثم حملت أسرع شيء، كأنها تقول: قدموني، قدموني. حتى خشينا من ضياعها، فما عدنا نرى من الجنازة إلا أعلاها، وهي محمولة على الأعناق، وبيننا وبينها مسافة طويلة، ثم دفنت في مقبرة العدل ولما تسفر والليل على المشهد أطغى.
ولقد رأينا في غسلها أمرا لم يكن في الحسبان، فالمغسلة في عجب تقول عن قدميها: كأنها لم تطأ بها أرضا قط. وغيرها تقول: كأنها أقدام فتاة في الخامسة عشرة من عمرها. مما بها من الصفاء والنضرة بزوال آثار العمر عليها.
وشهد جميع من حضر - من أبنائها وبناتها وأحفادها وأزواج أولادها - في محياها الرضى والسرور، كانت راضية مستبشرة، ولم يكن هذا تواطأ منهم، بل أخذهم المشهد عن ذهول وتعجب.
وفي السياق مشهد يستحق الذكر، فإنها حدثتنا عن رؤيا رأتها قبل وفاتها بشهر: أن بيتا لها من زجاج أبيض قد بني لها واكتمل إلا الستور، ورجل يشتغل بوضعها، وهي في الخارج تتحاشى الدخول لوجود هذا الأجنبي – كما عبرت – وأبونا في ناحية ينادي بها.
لما حدثتني بها ارتعت وانعقد لساني، وكتمت خشية تأويلها بما يوافق ظاهرها؛ وهو قرب الأجل، واليوم قد وقع ما ارتعت منه، وما عاد ينفع حذر من قدر، والحمد لله على كل حال، وإنا لنسأل الله تعالى أن ينفذ موعوده في عباده الصالحين، فيكرمها في قبرها، وفي آخرتها كما أكرمها في الدنيا، ويجمعنا بها في أعلى عليين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }.
لقد كانت حسنة الظن بربها، ترجو رحمته، وحق لمثلها امرأة صابرة – وكل مسلم ينبغي أن يحسن الظن بربه – فمذ كانت ثلاث سنين فقدت أمها، وفي خمس فقدت أباها، وتعرضت للرحيل والخطر والموت المحقق مرارا وتكرارا، وصبرت على الفقر والجوع وضعف الحال، وفوق ذلك كانت زاهدة عابدة ذاكرة، أحسنت تربية أولادها، حتى تبوءوا المناصب المرموقة، ولم تسع في أذى أحد وهي تعلم، ولم تعرف إلا الحشمة حتى في مرضها، كانت تقول لحفيدتها حين دخلت المشفى: كوني معي لا يخلو بي الرجل الأجنبي. ومما أثار مشاعر الحفيدة وأفضت به إلي حرصها البالغ على ستر قدميها ألا يراها أجنبي، وإن من صلاحها أن أطباءها كانوا يقبلون يديها ورأسها، ويقولون: إنا لنرى في وجهها نور الإيمان.
مع أمّنا أدركنا أن طريق الجنة ليس بالعسير الشاق، الذي يلزم علما كبيرا كثيرا، وجدا واجتهادا منقطع النظير، فهي العامية التي لا تحسن شيئا من العلم، غير أنها على الفطرة السليمة، مع الصبر والرضا والمكابدة في القيام بما توجب عليها تجاه نفسها وأولادها، ولقد تذكرت معها قول الإمام الجويني الإمام المتكلم النحرير الفقيه وهو يقول بحسرة راجيا ومتمنيا: أموت على دين العجائز. ومثله عن الرازي الذي ملأ السمع والبصر ذكرا لعلمه: من مات على دين العجائز، فهو الفائز.
والآن، وبعد أن نفذ قضاؤه وقدره سبحانه، أصدقكم القول أني غير قادر على استيعاب الحدث الجلل، ولست بمتصور ولا مصدق رحيلها، ولقد كنت أدعوه ألا يقبضها بغتة، فيأخذها فجأة، ظنا مني أن تقدم علامات الرحيل يخفف الوطأة وثقل المصيبة، فإذا بالموت عسير في كل حال، سواء أتى بغتة أو على مهل، وأن فراق الأم شديد، فإنها لما مرضت ورأيت ما حل بنا من الجزع والهلع خشية القضاء، صرت أدعوه أن يمد في عمرها ولو لسنوات معدودة، لكن ربي لم يرد ذلك، وهو يفعل ما يشاء، وما لنا إلا التسليم والصبر.
رحلت أمنا العزيزة، لكنها لم تحرمنا بركاتها حتى وهي عند ربها، فاجتمعت قلوب الأبناء على أمر واحد، وتآلفت على وصيتها والبر بها بعد مماتها، ولقد شاركنا الألم والحزن قرابة وإخوان وأصحاب، أكبرتهم وعظمت صنيعهم؛ إذ توافدوا من أمكنة بعيدة، ولازموا العزاء أيامه، يقدمون العون والخدمة تطوعا ورغبة، وفي هذه اللحظة أدركت سر التعزية؛ إنه التخفيف واحتواء الأحزان ونسيانه، وذلك لا يتحقق بمجرد كلمات يلقيها المعزي ثم يمضي؛ فلقد كان في حضور المعزين وجلوسهم في العزاء برهة وهنيهة مصدر اطمئنان لقلوبنا، وسلوة من أحزاننا، وكم كنت أرجو من الذين عزوا وقوفا ومضوا سريعا فلم يجلسوا، أن لو أكرمونا بلحظات نأنس بهم، فالتعزية بالكلام فاتحة العزاء، والجلوس تتمته، فإنه يشعرك بقربهم منك، واحتوائهم لأحزانك، تراهم فتنسى وتذهل عن مصابك، وآية ذلك: وحشة تربض على القلب بعد انتهاء العزاء، وكأنها ماتت للتو.
نعم لقد كانوا مصدر أنس، فبارك الله كل من أتى، وكل من جلس ولازمنا طيلة أيام العزاء، والذين عملوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في إطعام أهل الميت؛ فقد جاء ما يشغلهم.
لا أحصي أن أتكلم في هذا المصاب الجلل، وإن لوالدتنا حقا علينا فوق ذلك؛ أن نسرد لها سيرة ورواية وتاريخا حافلا بالصبر والعبر والرضا عمره ثمانية وثمانون عاما، كانت تحدثنا بها، أدركنا بعض قيمتها في حياتها، ونحن ندركها اليوم بعد رحيلها.
وأخيرا، أيعقل أنها ماتت ؟!.
سؤال حائر حزين، جوابه معلوم، لكن إن كان عمر رضي الله عنه قال في حبيبه وحبيبنا صلوات الله عليه وسلامه عليه: "إن محمدا لم يمت، إنما ذهب للقاء ربه، كما ذهب موسى". فإن كل محب وكل ولد لم يحتمل ولم يطق سماع قول القائل: إن أمك ماتت. فحقه أن يقعده الخبر، وأن يسقط في يده ويذهل ويدهش، وأن ينعقد لسانه فيلزم الصمت، ثم ما له إلا الصبر والتسليم، ولو كان لنا من الأمر شيء لأعطيناها من أعمارنا، قال الله تعالى:
(وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فاللهم ارحم أمنا، واكتب لها أجر كل من قرأ هذه الكلمة فانتفع بشيء منها، واكتب لها أجر ما كتبته وما أكتبه في سبيلك ولوجهك إلى يوم الدين، اللهم آمين.
* * *
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم
أيعقل أنها ماتت؟!!.
منذ أربعين سنة، لم نر حالة وفاة في محيط العائلة المكرمة، حينذاك توفي والدنا الكريم - رحمه الله تعالى رحمة واسعة – ولم أكن أعي معنى الموت تماما؛ استيقظت والبيت يبكي، فقلت: ماشأنكم؟. قالوا: مات أبوك. قلت: حسنا، أنا ذاهب إلى المدرسة.
وجرت مراسيم الدفن العزاء كأني أراها اليوم، وذهبت الأيام وأدركتُ أُمَّنا على كبر من سنها، وهي في حيوية ونشاط تحسد عليها، يصدق عليها الوصف النبوي: (حارث همام)، وقد تجاوزت الثمانين فبلغت الثامنة منه، فما كانت تشكو من علة سوى وهن العظم.. تقوم بأعبائها بغير معونة، وتدبر شئونها بكل اقتدار وذكاء، وترعى بيتها وهي الراعية المحنكة، في: نظامها، وترتيبها، ونظافتها. وربما حمّلناها أعباءنا، لا رغبة في إرهاقها، بل اغتناما لخبرتها، وحسن صنعتها، ودقة مصنوعاتها.
لا أطيل في وصف حركاتها وسكناتها المباركة، فقد كانت خفيفة علينا جميعا؛ لم ترهق أحدا منا نحن أولادها، لا بطلب، ولا بمرض، ولا بخلق عسر، بل سعت في رضانا وكأنا نحن الأب والأم وهي الولد، بما كان يثير في نفوسنا الحسرة والألم، بل والغضب أحيانا من استرضاءها البالغ لأبنائها، وتطلب الأعذار لمن قصر منهم في حقها أو بعض حقها، والأولاد في كل حال مقصرون مهما بدوا بررة بارين، فحقها عظيم وعطاؤها أجمل، لكن حرصها علينا أملى لها أن تكون الفراش والأرض المهاد والجمل الذلول، فلا أذكر خلافا إلا وبادرت إلينا قبل أن نبادر نحن إليها، كانت أسرع إلى أولادها منهم إليها، وأبر بهم منهم بها، تسعى في رضاهم وهي في سرور وحبور من صلتها بهم وجلوسها إليهم، لقيت أحد أبنائها وهي في مرض موتها، فكانت عليه أَسِفا، تقول: انظروا لقد أحرق الشمس خده، وأرهقه الحر والعمر.
لقد أحسنت إليهم حملا وولادة، وتربيتهم صغارا وكبارا، فحملتهم على برها حملا، وأغرتهم بحقها إغراء حتى تشربوا حبها ومعنى البر بها فبرّوا، فما كان لهم من سبيل إلا أن يبروها، هكذا كانت هي رحمها الله تعالى.
وفي الأبناء بر لا يخفى، لكن نمط الحياة المادية، والسعي الدؤوب في دروبها، تلهي عن فضائل جمة أو تقلل من اغتنامها، لا حبا في التقصير، إنما عجزا عن القيام بما يجب كما ينبغي، لكن أمّنا تغلبت على قوانين هذه الحياة وصوارفها، ورجعت بأولادها إلى حضنها ورعايتها، فاستنقذتهم من مخالب المدنية والمادية، حتى كانوا لا يقطعون وصالها، ولا يمنعونها خير ما عندهم وأفضله، فكانت نقطة الجذب، ومحور الحياة، ومغناطيس القلوب، وامتد الأثر إلى الأحفاد فكانوا أشد لها حبا وتعلقا واحتراما، بل وامتد إلى أزواج الأبناء؛ فكن معها كريمات وهي معهن أكرم، ولم تكن تلك الغيرة المذمومة التي تكون بين الحموات والأزواج، فإن إكرامها لهن ساوى إكرامها لأبنائها، فأحببنها وأدركن فضلها، وسارعن في رضاها وهي إليهن أسرع، ولم يختلف حال أزواج بناتها عن ذلك، وحال هؤلاء كلهم جميعا في مرضها وموتها، كشف عن قدر مشاعرهم تجاهها.
لأول مرة أكتب عن شخص بعينه، لم أجد سبيلا يخفف ثقلا ورد على قلب ضعيف إلا الكتاب، فأسكب الروح والألم والحسرة فيه، وذلك دأب العاجز، لقد طرق بابنا الحزن، حين وقفنا على حقيقة مرة، لازلت في شك منها؛ أنها لم تعد بيننا، أخذت من بين أيدينا، بل نحن الذين خرجنا بها من بيوتنا لتسكن بيتا لم نتهيأ له، وقد تهيأت هي له، ولم نستوعب ألا نراها وهي تدخل علينا، أو ندخل عليها بيتها وهي تجلس على كرسي لها لدى الباب ترقب مجيئنا. حملناها على أكتافنا وأسرعنا وكأن شيئا يلحق بنا، بعد أن جهزناها كعروس، ورحلنا بها إلى محطة تنقلها إلى دار أخرى بعيدة عنا قريبة منا.
مضت إلى رحمة الله تعالى، وعالجنا للتو صبرنا، واختبرنا ثباتنا وما كنا نحدث به الناس عن الإيمان بالأقدار وفضل الرضا، ولم ندر أن الواقعة شيء آخر غير الصورة والخيال، وأن بمقدور المرء أن ينظّر ويتكلم بكلام الأنبياء، لكنه عند الاختبار يدرك قيمة نفسه ومحلها.
مضت إلى الله تعالى، وأغلق دوننا بابا من أبواب الجنة: (رغم أنف امرئ أدرك أبويه فلم يدخلاه الجنة). وهذا مبلغ الحسرة، وقد شهدنا في مرضها الذي لم يتم شهره الثلاث أمورا خفف عنا شيئا، فإنها لم تمت بالفجأة، بل هيأتنا جميعا للحظة الحزينة، بوصيتها بما ملكت، وبما يجب أن نقوم به لتجهيزها، ثم بمرضها العضال الذي أصابها فجأة في عنقها، والذي جزم جميع من مررنا بهم من الأطباء: أنه مرض خبيث لا علاج له، وهو أسرع من كل دواء. هو سرطان الغدة الدرقية ونوعه (anaplastic) وقد شرع في تضييق الخناق على القصبة والبلعوم، بما كان يعني حتما موتها مختنقة، والأطباء يقولون: أشد أنواع الميتات موتة المخنوق. لكن ما حدث، أنها رحمها الله دخلت في غيبوبة تامة منذ عصر الجمعة الثاني من شعبان، في هذا الوقت الفضيل، وهي في ذكر لله تعالى، ثم قبض روحها يوم الأحد الرابع منه 1433 وقت صلاة العشاء، ولم يأخذ منها النزع سوى لحظات يسيرة، تحركت في حركة بسيطة، لفتت به النظر، واستوجبت استدعاء الأطباء والممرضين، لكن كانت هي النهاية، فلم تعان معاناة المخنوق، وخرجت روحها تسيل من جسدها، كما تسيل القطرة من في السقاء.
هذا ما شهده من حضر الواقعة، والحمد لله على نعمته وفضله، وفي مجموع الآثار: أن الغريق، والمطعون، والمبطون، والحريق: شهيد. وهي في معناهم؛ فإنها أدواء تأخذ الصحيح السليم، فتكون سببا في موت سريع، وهكذا كان موتها بهذا المرض الذي هو أخبث المرض.
وقد خفف عنا، أنها كانت صالحة كثيرة الذكر والتسبيح والتهليل وقراءة ما استطاعت حفظه من القرآن وهي الأمية، وكم كان تشوقها لو تعلمت القراءة، فقط لتقرأ القرآن، وهذا ما حملها على الجد والاجتهاد لتحفظ عامة قصار السور وجزء عم.
كما كانت زاهدة، فلم نعرف عنها حرصا على الدنيا، بل كانت ترضى بأقل القليل، وما يكون لديها من مال تفرقه بين أحفادها والفقراء ومن كان في حاجة حتى من أولادها. زهدت في المال وزهدت في الدنيا، وأقبلت علينا تفضي إلينا برغبتها في لقاء ربها، ونحن في عجب من حالنا وحالها، نحن نخاف الموت، وهي تحبه لا يأسا وسأما، ولكن حبا فيما عند الله تعالى، وللمؤمن أن يرجو لقاء ربه، لا لضر أصابه، بل رغبة فيما عند الله تعالى، وقد تمناه جمع من الصحابة رضوان الله عليهم، وقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره.
أقبلت علي في مرضها، وقد رأتني مهموما كئيبا فقالت: لا تحزن، فما من شيء تخشى عليه، فإنك تقوم اليوم على قدميك، ولست مثلي التي نشأت يتيمة الأبوين، وقد كبر سني وطال عمري، والرحيل لا بد منه".
ما من شيء كان أخف علينا حملا منها؛ في حياتها، وفي مرضها، وفي موتها وما تبع ذلك، فإنها ماتت وقت العشاء، وغسلت وكفنت قبل صلاة الفجر، وصلى الناس عليها في حرم الله، وكان يعج بالمصلين وكأنه الحج، ثم حملت أسرع شيء، كأنها تقول: قدموني، قدموني. حتى خشينا من ضياعها، فما عدنا نرى من الجنازة إلا أعلاها، وهي محمولة على الأعناق، وبيننا وبينها مسافة طويلة، ثم دفنت في مقبرة العدل ولما تسفر والليل على المشهد أطغى.
ولقد رأينا في غسلها أمرا لم يكن في الحسبان، فالمغسلة في عجب تقول عن قدميها: كأنها لم تطأ بها أرضا قط. وغيرها تقول: كأنها أقدام فتاة في الخامسة عشرة من عمرها. مما بها من الصفاء والنضرة بزوال آثار العمر عليها.
وشهد جميع من حضر - من أبنائها وبناتها وأحفادها وأزواج أولادها - في محياها الرضى والسرور، كانت راضية مستبشرة، ولم يكن هذا تواطأ منهم، بل أخذهم المشهد عن ذهول وتعجب.
وفي السياق مشهد يستحق الذكر، فإنها حدثتنا عن رؤيا رأتها قبل وفاتها بشهر: أن بيتا لها من زجاج أبيض قد بني لها واكتمل إلا الستور، ورجل يشتغل بوضعها، وهي في الخارج تتحاشى الدخول لوجود هذا الأجنبي – كما عبرت – وأبونا في ناحية ينادي بها.
لما حدثتني بها ارتعت وانعقد لساني، وكتمت خشية تأويلها بما يوافق ظاهرها؛ وهو قرب الأجل، واليوم قد وقع ما ارتعت منه، وما عاد ينفع حذر من قدر، والحمد لله على كل حال، وإنا لنسأل الله تعالى أن ينفذ موعوده في عباده الصالحين، فيكرمها في قبرها، وفي آخرتها كما أكرمها في الدنيا، ويجمعنا بها في أعلى عليين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ }.
لقد كانت حسنة الظن بربها، ترجو رحمته، وحق لمثلها امرأة صابرة – وكل مسلم ينبغي أن يحسن الظن بربه – فمذ كانت ثلاث سنين فقدت أمها، وفي خمس فقدت أباها، وتعرضت للرحيل والخطر والموت المحقق مرارا وتكرارا، وصبرت على الفقر والجوع وضعف الحال، وفوق ذلك كانت زاهدة عابدة ذاكرة، أحسنت تربية أولادها، حتى تبوءوا المناصب المرموقة، ولم تسع في أذى أحد وهي تعلم، ولم تعرف إلا الحشمة حتى في مرضها، كانت تقول لحفيدتها حين دخلت المشفى: كوني معي لا يخلو بي الرجل الأجنبي. ومما أثار مشاعر الحفيدة وأفضت به إلي حرصها البالغ على ستر قدميها ألا يراها أجنبي، وإن من صلاحها أن أطباءها كانوا يقبلون يديها ورأسها، ويقولون: إنا لنرى في وجهها نور الإيمان.
مع أمّنا أدركنا أن طريق الجنة ليس بالعسير الشاق، الذي يلزم علما كبيرا كثيرا، وجدا واجتهادا منقطع النظير، فهي العامية التي لا تحسن شيئا من العلم، غير أنها على الفطرة السليمة، مع الصبر والرضا والمكابدة في القيام بما توجب عليها تجاه نفسها وأولادها، ولقد تذكرت معها قول الإمام الجويني الإمام المتكلم النحرير الفقيه وهو يقول بحسرة راجيا ومتمنيا: أموت على دين العجائز. ومثله عن الرازي الذي ملأ السمع والبصر ذكرا لعلمه: من مات على دين العجائز، فهو الفائز.
والآن، وبعد أن نفذ قضاؤه وقدره سبحانه، أصدقكم القول أني غير قادر على استيعاب الحدث الجلل، ولست بمتصور ولا مصدق رحيلها، ولقد كنت أدعوه ألا يقبضها بغتة، فيأخذها فجأة، ظنا مني أن تقدم علامات الرحيل يخفف الوطأة وثقل المصيبة، فإذا بالموت عسير في كل حال، سواء أتى بغتة أو على مهل، وأن فراق الأم شديد، فإنها لما مرضت ورأيت ما حل بنا من الجزع والهلع خشية القضاء، صرت أدعوه أن يمد في عمرها ولو لسنوات معدودة، لكن ربي لم يرد ذلك، وهو يفعل ما يشاء، وما لنا إلا التسليم والصبر.
رحلت أمنا العزيزة، لكنها لم تحرمنا بركاتها حتى وهي عند ربها، فاجتمعت قلوب الأبناء على أمر واحد، وتآلفت على وصيتها والبر بها بعد مماتها، ولقد شاركنا الألم والحزن قرابة وإخوان وأصحاب، أكبرتهم وعظمت صنيعهم؛ إذ توافدوا من أمكنة بعيدة، ولازموا العزاء أيامه، يقدمون العون والخدمة تطوعا ورغبة، وفي هذه اللحظة أدركت سر التعزية؛ إنه التخفيف واحتواء الأحزان ونسيانه، وذلك لا يتحقق بمجرد كلمات يلقيها المعزي ثم يمضي؛ فلقد كان في حضور المعزين وجلوسهم في العزاء برهة وهنيهة مصدر اطمئنان لقلوبنا، وسلوة من أحزاننا، وكم كنت أرجو من الذين عزوا وقوفا ومضوا سريعا فلم يجلسوا، أن لو أكرمونا بلحظات نأنس بهم، فالتعزية بالكلام فاتحة العزاء، والجلوس تتمته، فإنه يشعرك بقربهم منك، واحتوائهم لأحزانك، تراهم فتنسى وتذهل عن مصابك، وآية ذلك: وحشة تربض على القلب بعد انتهاء العزاء، وكأنها ماتت للتو.
نعم لقد كانوا مصدر أنس، فبارك الله كل من أتى، وكل من جلس ولازمنا طيلة أيام العزاء، والذين عملوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في إطعام أهل الميت؛ فقد جاء ما يشغلهم.
لا أحصي أن أتكلم في هذا المصاب الجلل، وإن لوالدتنا حقا علينا فوق ذلك؛ أن نسرد لها سيرة ورواية وتاريخا حافلا بالصبر والعبر والرضا عمره ثمانية وثمانون عاما، كانت تحدثنا بها، أدركنا بعض قيمتها في حياتها، ونحن ندركها اليوم بعد رحيلها.
وأخيرا، أيعقل أنها ماتت ؟!.
سؤال حائر حزين، جوابه معلوم، لكن إن كان عمر رضي الله عنه قال في حبيبه وحبيبنا صلوات الله عليه وسلامه عليه: "إن محمدا لم يمت، إنما ذهب للقاء ربه، كما ذهب موسى". فإن كل محب وكل ولد لم يحتمل ولم يطق سماع قول القائل: إن أمك ماتت. فحقه أن يقعده الخبر، وأن يسقط في يده ويذهل ويدهش، وأن ينعقد لسانه فيلزم الصمت، ثم ما له إلا الصبر والتسليم، ولو كان لنا من الأمر شيء لأعطيناها من أعمارنا، قال الله تعالى:
(وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته).
فاللهم ارحم أمنا، واكتب لها أجر كل من قرأ هذه الكلمة فانتفع بشيء منها، واكتب لها أجر ما كتبته وما أكتبه في سبيلك ولوجهك إلى يوم الدين، اللهم آمين.
* * *
تعليق