ولئن شكرتم لأزيدنكم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء، والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
يقول تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)).
صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الذين بدلوا نعمة الله كفراً هم قريش عندما جاء إليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكذبوه ولم يطيعوه.
وقال كثير من المفسرين أن كل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار.
قال تعالى: ((نِعْمَةَ اللَّهِ))، ولم يقل (نعم) الله؛ لأن النعمة الواحدة إذا لم تشكر فكيف بالنعم كلها؟
ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا))، ولم يقل نعم الله.
وعند أحمد في كتاب الزهد بسند مرفوع إلى رب العزة والجلال أنه قال: (عجباً لك يا ابن ادم، خلقتك وتعبد غيري، ورزقتك وتشكر سواي، أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إليّ، خيري إليك نازل وشرك إليّ صاعد) (1) .
وهذا شأن العبد عندما يترك منهج الله تبارك وتعالى ويرتكس ويعرض عن الطريق المستقيم الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر أهل السير أن موسى بن عمران عليه السلام كان جريئاً شجاعاً في الأسئلة، فهو الذي يقول: ((رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ))، لم يقلها أحد من الناس، بل قالها موسى عليه السلام، يقول في سؤال: يا رب أسألك مسألة. قال: ما هي يا موسى ؟
قال: أن تمنع ألسنة الناس أن تتكلم في عند غيابي.
فقال الله عز وجل: (<A class=yiv1559638507h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7003334" rel=nofollow target=_blank>يا موسى ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وقد خلقتهم، وأعافيهم، ويقولون أني اتخذت صاحبةً وولداً، وأنا الله لا إله إلا أنا لم أتخذ صاحبة ولا ولداً).
وفي حديث عند البخاري : (يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله: إن لي ولداً، وأما تكذيبه فقوله: ليس يعيدني كما بدأني) (1)، وفي حديث آخر: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) (1) .
وعن عمر رضي الله عنه وأرضاه وسند الحديث إليه حسن: [<A class=yiv1559638507r_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=8000409" rel=nofollow target=_blank>أنه دخل على إبل الصدقة فرآها حمراً، فقال له أحد الناس: يا أمير المؤمنين صدق الله يوم يقول: ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)).
قال عمر : أتظن أن الرحمة هي الإبل؟
لا والله، أتدري ما رحمة الله؟
قال: لا.
قال: هي العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله، وتترك المعصية بنور من الله، تخاف عذاب الله].
فالرحمة والنعمة ليست الثياب ولا السيارات ولا القصور؛ لأننا رأينا الناس يوم كثرت فيهم النعم الدنيوية أعرضوا عن الله وعن المسجد وعن القرآن وعن الرسالة، وتحولوا إلى عصاة، وتحولت شواطئهم كما نرى ونشاهد إلى منتجعات للنساء ولممارسة الاختلاط والتهتك.
ولكن النعمة الحقيقية هي نعمة الإيمان، ونعمة الإسلام، ونعمة القرآن.
قال تعالى: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً))، انظر إلى التعبير والروعة: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [<A class=yiv1559638507r_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=8000410" rel=nofollow target=_blank>القرية الآمنة المطمئنة هي مكة، كانت آمنة مطمئنة يسوق الله لها أرزاقها من أنحاء الدنيا فكفرت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فجعلهم الله شذر مذر].
ونقول: يا ابن عباس لقد صدقت، ولكن يدخل في ذلك كل قرية أعرضت عن منهج الله، ولو كانت قريبة منا وحبيبة على قلوبنا.
يدخل في ذلك كل قرية أو مدينة لم تعرف نعمة الله، ولم تقدر لا إله إلا الله، ولم تنضوِ تحت مظلة الله أكبر، فهي قرية أعلنت فسوقها وعصيانها.
ويقول سبحانه: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)).
قال أهل التفسير: ((أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا))، أي كثّرنا مترفيها من الرجال والنساء الذين من ترفهم أنهم ازدادوا فجوراً.
تخرج الفتاة بلا حجاب وتسفر عن وجهها وتضيع قرآنها وحجابها ودينها وعفافها وزوجها وبيتها، وتجوب الأسواق مع الخياطين والباعة وتصل إلى الشاطئ.
أحد العرب الأوائل من أصحاب الغيرة نظر إلى امرأته فرآها تنظر إلى رجل فقال: عجيب! أتنظرين إلى رجل، والله لا تحلي لي.
ونظم قصيدة رائعة يقول فيها:
فكيف لو رأى هذا الأعرابي شواطئنا وأسواقنا؟
كيف لو رأى الفتاة التي تخرج بلباس يستحي الرجل من لبسه؟
والشاهد قول تعالى: ((وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً))، فإن الله يدمرها ويفنيها ويقسي قلوب أصحابها، ((أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)).
ويقول سبحانه: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ))، وكأين عند النحاة للتكثير، أي: كم من قرية.
((وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا)).
كحال لبنان عندما عاشت الظلال والبساتين، وعاشت الندى والظل، وعاشت الثلج والزهر، وعاشت الفجر والنسيم.
لكنها أعرضت عن منهج الله، فما كان يؤذن في مساجدها إلا قليلاً، وما كان هناك طلبة علم يبينون النهي والمنكر، فأصبحوا كحال من قيل فيهم: ((لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)).
فغضب الله، وإذا غضب الله فإن غضبه أليم شديد: ((وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))، فأخذهم الله بحرب وسلب ونهب وتقتيل وخوف ومجاعة حتى سمع أطراف العالم بمآسي لبنان وبدموع لبنان وبجراح لبنان .
ويقول الله عن قرية في اليمن عاشت الخير والنعيم؛ ولكنها بدلت النعمة كفراناً فحل بها البوار، يقول سبحانه: ((لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)).
قال الشاعر:
لقد أعرضوا عن منهج الله.
قال ابن كثير وغيره من المفسرين: أعطى الله كل رجل من سبأ بجانب بيته بستانين ((جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ))، بستان عن يمينه وبستان عن يساره، وشجر متدلّ، ونعيم خالد، وظل وارف، وماء بارد، وطيور ترفرف، وحياة رغيدة.
كحالنا الآن، شقق وقصور وفلل وسيارات ورغد ومطاعم ومشارب؛ لكن هناك من يفسد ويريد أن لا ينكر عليه، من يفجر ويريد أن يسكت عنه، ومن يفحش، ومن يخادع الدين، ومن يقيم المنكر، ومن يعارض الصالحين، ومن يستهزئ بالرسالة، ومن يعارض المسجد، ومن يقاطع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال ابن كثير عن سبأ : كان الرجل يذهب بمكْتله على رأسه فيمتلئ المكتل من الثمار التي تسقط في المكتل.
ولكنهم ما قدروا هذه النعم، فأعرضوا تماماً وجاهروا بالمعاصي.
لأن بعض الناس يحارب الله جهاراً، فهو يقاطع المسجد ولا يعرف الصلاة ولا يسجد سجدة، لكن ليله ونهاره تطبيل.
ونحن نقول: ليت السيئة عليهم فتأخذهم وتتركنا، لكن الشر يعم والخير يخص.
نعم إذا لم ننه ولم نأمر ولم ندع ولم ننكر، فإن معنى ذلك أننا سوف نجتاح معهم كلنا، وسوف يغضب الله علينا جميعاً، نعوذ بالله من غضب الله.
فماذا فعل الله بقرى سبأ ؟
هل حاربهم بجيش أو أنزل عليهم ملائكة؟
لا.. هم أحقر من ذلك.
قال بعض العلماء: يا مسكين العزم، يا فقير الإرادة، أتحارب الله؟
أتحارب الله الذي لما حاربه النمرود بن كنعان أرسل عليه بعوضة فقتلته.
يقول سبحانه وتعالى: ((وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)).
لقد غضب الله عليهم، فأرسل عليهم فأراً فتحت السد فهوى السد فاجتاحهم الماء فصاروا شذر مذر.
بكى الأطفال، وبكى الشيوخ، وبكى النساء، لكن ولات ساعة ندم.
كذلك من يخرج عن شريعة الله، ومن يتذمر من رسالة الله، ومن يغضب الله، يكون هلاكه بشيء ذليل حقير ليعرف قدر نفسه.
فيا إخوتي في الله.. الله الله في نعم الله التي لا تحفظ إلا بالشكر.
يقول المولى تبارك وتعالى: ((لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)).
البرامكة: أسرة عاشت في عهد العباسيين، كانوا يطلون قصورهم بماء الذهب، لكن أعرضوا عن الله فما عدلوا وما خافوا الله، بل جمعوا كأس الخمر والفتيات والغانيات في قصورهم.
فحذّرهم أحد العلماء وقال لهم: انتبهوا إن النعم لا تفيد إلا بالشكر.
لكن ما فعلوا.
وفي لحظة من اللحظات غضب الله عليهم فأهلكهم بأقرب الناس إليهم: هارون الرشيد ، فاجتاحهم بالسيف فقتل شبابهم ضحى وأخذ شيوخهم وهم يتباكون إلى السجن فحبسهم.
فكان يحيى بن خالد البرمكي أحدهم يبكي في السجن سبع سنوات. قال له أحد الناس وقد زاره في السجن: ما هذا البلاء يا يحيى ؟
قال: عصينا الله فأصابتنا دعوة مظلوم سرت في ظلام الليل غفلنا عنها وما غفل الله عنها.
سبحان الله! دعوة المظلوم، دعوة الصالحين في ظلام الليل.
قيل لـعلي بن أبي طالب : كم بين التراب والعرش؟
قال: دعوة مستجابة يرفعها الله على الغمام ويقول: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) (1) .
وقال سبحانه: ((وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ))، وقال: ((وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)).
قيل لأحد علماء السلف: ما هو الشكر؟
قال: شكر العين البكاء من خشية الله، لا بكاء الطرب؛ لأن بعض الناس إذا سمع الموسيقى بكى؛ لكنه لا يبكي عند سماع القرآن ولا عند تلاوة الذكر.
كان أبو بكر و عمر والصحابة تتبلل لحاهم بالدموع إذا سمعوا آيات الله تتلى.
قال: شكر العين البكاء، وشكر القلب الحياء من الواحد الأحد، إذا استجاب القلب لله فقد سعد في الدنيا والآخرة.
(والحياء لا يأتي إلا بخير) (1) .
يقول الشافعي : والله لو علمت أن شرب الماء ينقص من حيائي ما شربته أمام الناس.
قلنا: يا شافعي ، لله درّك، والله لقد وجد من الجيل من تفسخ عن شريعة الله بلا حياء، وأدبر عن المسجد بلا حياء، ونقض عرى الإسلام بلا حياء، وكفر بالله بلا حياء، وسب الرسول بلا حياء، وهجر القرآن بلا حياء.
الحياء جلباب ومنعة من الله على وجه العبد ليستحي من الله إذا همّ بمعصية.
فعينه تقول: انظر، والحياء يقول: لا تنظر.
أذنه تقول: اسمع، والحياء يقول: لا تسمع.
رجله تقول: امش، والحياء يقول: لا تمش في معصية الله. ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)).
قال بعض العلماء: النعمة قسمان، نعْمة ونعمة بالكسر والفتح.
فالنعمة يدخل فيها ما قرب إلى الله الواحد الأحد.
والنعمة بالفتح هي نعمة يشترك فيها الناس، جميعاً، مسلمهم وكافرهم، إنسانهم وحيوانهم.
قال الله عن هذه النعمة: ((ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ))، فالله عز وجل جعل لهؤلاء أكلاً وشرباً كغيرهم؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: ((أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)). كالأنعام في شربهم، وكالأنعام في أكلهم، وكالأنعام في خروجهم ودخولهم.
ولذلك لما وصفهم الله في موضع آخر أخبر أنه أعطاهم الإرادات والجوارح والأعضاء؛ ولكنهم ما استعملوها في الخير، قال سبحانه: ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ))، من هو الأعمى؟
الأعمى ليس هو الذي عميت عيناه.
الأعمى الذي عمي قلبه: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)).
وفي الرعد: ((أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)).
أفمن يعلم أن المسجد خير من المقهى، وأن المصحف خير من المجلة الخليعة، وأن التلاوة خير من الأغنية الماجنة، وأن صحبة الأخيار خير من الأشرار.. كمن ارتكس على رأسه، وأعرض عن طاعة الله، وأصبح شيطاناً يقول لسان حاله:
يقول: كنت في فترة من الفترات أطيع إبليس ، فقرّبني إبليس ثم مضى بي الحال فترقيت حتى أصبحت أنا الذي أسير إبليس ! ولذلك يسمى هذا: المارد الإنسي.
والمارد الإنسي هو الذي يتعدى ضرره على الناس، فبعض الناس فاسد في نفسه، ولكن بعضهم يفسد نفسه ويفسد بيته ويفسد مجتمعه ويفسد إخوانه.
فهو أينما ذهب أفسد.. بخلاف الذي أينما ذهب أصلح فهو مبارك، قال الله سبحانه عن أحد الصالحين من الأنبياء والمرسلين: ((مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ))، قالوا: كلما حل في بلدة كان مباركاً.
قال المتنبي :
الكريم إذا حل في مجلس تحول المجلس إلى روضة من رياض الجنة، وإذا ما سافر معك أسعدك، وإذا صحبك آنسك، وإذا فارقك دعا لك، وإذا فارقته بكيت عليه.
وأما الفاسد فشؤم عليك، يحل معك فتحل معه الشياطين، وتحل معه المعصية والغضب من الله.
قال جعفر الصادق لابنه: لا تصاحب ثلاثة؛ لأن الله غضب عليهم:
1- لا تصاحب من عصى الله؛ لأنه قطع الحبل بينه وبين الله.
2- ولا تصاحب عاق الوالدين فهو ملعون.
3- ولا تصاحب كذاباً، فإنه يقرب لك البعيد ويبعد منك القريب.
يا مسلمون! النعم التي آتاها الله للإنسان على قسمين كما سبق: نعمة يشترك فيها الناس جميعاً، ونعمة خاصة بالمسلمين دون غيرهم، وهي نعمة الإسلام والقرآن ونعمة الهداية.
ولذلك في الحديث الصحيح أن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب، وأما الدين فلا يعطيه الله إلا من يحب (1) .
وفي الصحيحين : (من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين) (1) .
لقد ارتفعت راية لا إله إلا الله من على الصفا.
يقول أحد العلماء: أذن مؤذن الفتح للقلوب على الصفا فأتى التوفيق يطفح، فقال أبو جهل : كفرت بلا إله إلا الله.
وقال أبو لهب : أعرضت عن لا إله إلا الله.
وقال سلمان الفارسي في أرض فارس : لبيك اللهم لبيك.
وأتى بلال من أرض الحبشة يقول: الله أكبر.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (<A class=yiv1559638507h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7003340" rel=nofollow target=_blank>أقم الصلاة يا بلال ، أرحنا بها يا بلال) (1) .
وأتى صهيب فاشترى نفسه من الواحد الأحد فقال سبحانه وتعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)).
وأتى خباب بن الأرت وهو يصلح السيوف يصقلها وكان مولى، فأعاده ليصقل القلوب حكمة بالغة.
أبو جهل بأسرته يتدكدك في النار.
و بلال أنقذ نفسه، فقصره كالربابة في الجنة.
دخل قيس بن حازم على سليمان بن عبد الملك الخليفة.
فقال سليمان لـقيس بن حازم : ما لنا نكره الآخرة ونحب الدنيا؟
قال: لأنكم عمرتم دنياكم وأخربتم آخرتكم، فتكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب.
نعم، فبعض الناس عمّر دنياه؛ لكنه أخرب آخرته.
وبعض الناس لا يملك شيئاً؛ لكنه يملك في الدنيا إيماناً وصدقاً مع الله.
دخل هشام بن عبد الملك الحرم فرأى سالم بن عبد الله بن عمر العالم الكبير أحد الفقهاء السبعة يحمل حذاءه بيديه.. قيل: كانت عمامته وحذاؤه وثوبه بثلاثة عشر درهماً.
فرآه هشام الخليفة ومعه الأمراء والوزراء والحاشية فقال:. يا سالم ألك إليّ حاجة؟
قال سالم : أما تستحي أن تقول لي هذا في بيت الله؟
فلما خرج هشام انتظر سالماً حتى يخرج فقال له: سألتك يا سالم داخل الحرم فها نحن قد خرجنا: هل لك إلي حاجة؟
قال: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟
قال: بل من حوائج الدنيا.
قال: والله الذي لا إله إلا هو، ما سألت الدنيا الذي يملكها فكيف أسألها منك أنت الفقير!!
مسكين.. يظن أن الإنسان إذا ملك الملايين أو القصور أو الدور أو البساتين أنه ملك الدنيا.
وما علم أن الغنى والثروة تكون في القلوب عندما تحيا بالإيمان.
الوليد بن المغيرة ، قال أهل العلم: كان يكسر الذهب بالفؤوس، وكان يحلي الكعبة كل سنتين مرة.
وكان يمشي في الديباج وعنده عشرة أبناء.
لكن لما أتت لا إله إلا الله كفر بها وبدل نعمة الله كفراً.
فقال سبحانه: ((ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا)).
فأهلكه الله شر هلكة، فلم تنفعه دوره ولا ثروته؛ لأنها قامت على معصية الله وكفران نعمه.
لقد خرج الصحابة من الجزيرة لا يملكون إلا ثيابهم وسلاحهم، فدخلوا قصور كسرى و قيصر والذهب يلوح.
فلما رأى سعد الذهب في قصر كسرى قال: الله أكبر (قيل في بعض الروايات أن الإيوان انصدع).
وقف سعد وعيونه تدمع من هذا النعيم الذي كفر أهله فأعرض عنه وقال: ((كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ)).
قال ابن كثير : لما فتح قتيبة بن مسلم المشرق أتي له بغنيمة كرأس الثور ذهباً خالصاً.
فقال للقادة حوله: أتدرون أن مسلماً يدفع له هذا الذهب فيقول: لا؟
قالوا: لا، ما نرى في الجيش أحداً يرفض هذا الذهب أبداً.
قال قتيبة وكان عبداً صادقاً مسلماً حنيفاً ولم يكن من المشركين:
والله لأرينكم أناساً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذهب عندهم كمثل التراب.
ثم أرسل إلى محمد بن واسع الأزدي العالم العابد الذي كان معه في الجيش الذي يقول فيه قتيبة وهو يبكي وقد سمع أنه يدعو الله للجيش: والله الذي لا إله إلا هو، لأصبع محمد بن واسع خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومائة ألف شاب طرير.
فأرسل بالذهب إلى محمد بن واسع ، فلما رآه أخذه!!
فعادوا إلى قتيبة وقالوا: لقد أخذ محمد بن واسع الذهب.
قال: الله المستعان، اللهم لا تخيب ظني فيه.
فمر فقير بـمحمد بن واسع يقول: من مال الله، من مال الله.
فأعطاه الذهب كله.
فقال قتيبة لما سمع بذلك: هكذا فلتكن الدنيا.
لما عظمنا الدين على الدنيا أذل الله لنا الدنيا، فلما عبدنا الدنيا ضاع منا الدين واستحوذ علينا أهل الدنيا.
((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ))، والنعمة بالكسر هي ما أعانك على طاعة الواحد الأحد، وهي ما ساعدك في طريقك إلى الجنة.
ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم المال مشتركاً وتألف به القلوب، لكن الإيمان جعله لناس من الناس لا يشركهم فيه أحد.
فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فلما أتت الغنائم ترك الأنصار فلم يعطهم شيئاً وهم الذين نصروه بـبدر و أحد.
وأعطى الغنائم صناديد قبائل العرب الذين أسلموا قريباً ولم يشاركوا في الغزوات كما شارك الأنصار.
فوجد الأنصار في أنفسهم كشأن البشر وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي الناس ويتركنا ونحن نصرناه وآويناه وحميناه.
فمضت المقالة وارتفعت إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فدعا سعد بن عبادة سيد الأنصار وقال: (كيف مقالة سمعتها عنكم؟
قال: هي كما قيل ولم يقلها إلا فتياننا.
قال صلى الله عليه وسلم: اجمع لي قومك.
فجمعهم في قبّة.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: يا أيها الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم؟
.
قالوا: هو كما سمعت يا رسول الله.
قال: يا معشر الأنصار، أما أتيتكم متفرقين فجمع الله شملكم بي؟
قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: أما أتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟
قالوا: المنة لله ولرسوله.
فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار، والذي نفسي بيده لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وفقيراً فواسيناك، وشريداً فنصرناك.
قالوا: المنة لله ولرسوله.
فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما تذهبون به خير مما يذهب به الناس، غفر الله للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، الناس شعار والأنصار دثار، لو سلك الناس شعباً أو وادياً لسلكت شعب الأنصار ووادي الأنصار) (1) .
فجاوبته دموع الأنصار حتى اخضلت لحاهم.
فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الدنيا يعطيها الله لمن يحب ومن لا يحب، أما الدين فلا يعطيه إلا من يحب.
ويقول صلى الله عليه وسلم في البخاري : (<A class=yiv1559638507h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7003342" rel=nofollow target=_blank>يا أيها الناس، إني أعطي بعض الناس بما جبل الله في قلوبهم من الجزع والهلع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب).
قال عمرو بن تغلب : [كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها] (1) .
يا شاباً مسلماً: أجزاء الشباب وصحة الأعضاء وسلامة البدن والأمن في الوطن أن تنقض عهدك بينك وبين الله، وأن تقطع حبل الصلة مع الله؟
يا فتاةً مسلمة كساها الله وحلاها وأنعم عليها وآواها ورعاها وحماها، ثم تخرج عن منهج الله لتفتن عباد الله.
أهذا جزاء النعم؟
أيها الإخوة: النعم كثيرة وهي على أقسام:
منها نعم ظاهرة كنعمة المال.
والمال نعمة أو نقمة، إن صرفته في مرضاة الله أسعدك الله به في الدنيا والآخرة.
فـعبد الرحمن بن عوف دخل الجنة بماله.
ولذلك يخطئ من يظن من الشباب وغيرهم أن الإسلام حارب المال والاقتصاد.
لا.. بل الإسلام ضد الإسراف والترف والترهل.
أما إذا كان المال مسخراً لخدمة هذا الدين ومصروفاً في الطاعات فهو خير للعبد دنيا وآخرة.
قام صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: (من يجهز جيش العسرة وله الجنة؟
) (1) ، هذا ضمان محمد صلى الله عليه وسلم.
فقام عثمان من وسط الناس وقال: (<A class=yiv1559638507h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7003343" rel=nofollow target=_blank>أنا أجهزه يا رسول الله بماله وأحلاسه وأقتابه وخيله.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: غفر الله لـعثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راضٍ، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) (1) .
وهناك نعمة المنصب:
والمنصب قد يكون نصرة للإسلام، وقد يكون خصماً ضد الإسلام وعقبة كؤوداً في طريق الدعوة والدعاة الصالحين.
عمر بن عبد العزيز تولى الخلافة؛ لكنه كان راشداً قاد الأمة إلى بر النجاة.
وأبو مسلم الخراساني تولى الإمرة فقتل من المسلمين ألف ألف، الحجاج قتل مائة ألف.
وأمرهم في كتاب عند ربي لا يضل ولا ينسى.
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أن ثلاثة من بني إسرائيل أقرع وأبرص وأعمى أراد الله أن يبتليهم سبحانه وتعالى، فأرسل إليهم ملكاً، فذهب إلى الأقرع فقال: ماذا تريد؟
قال: أريد شعراً على رأسي يجمل رأسي فقد قذرني الناس.
فسأل الله أن يعطيه شعراً، فجمل الله رأسه بالشعر في لحظة، ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)).
قال: ماذا تريد من العطايا؟
قال: أريد الإبل.
فدعا الله فأعطاه الله ناقةً فولدت حتى ملأت الوادي.
وذهب إلى الأبرص فقال: ماذا تريد؟
قال: أتمنى من الله أن يجمل جلدي ويذهب هذا القذر عن جسدي والعيب لأكون جميلاً.
فسأل الله فرد الله عليه جلده الجميل في لحظة.
قال: ماذا تريد من المال؟
قال: أريد البقر.
فأعطاه الله بقرة فولدت حتى ملأت الوادي.
وذهب إلى الأعمى فقال: ماذا تريد؟
قال: أمنيتي أن يرد الله بصري لأرى.
قال: اللهم رد عليه بصره، فعاد البصر في لحظة.
قال: ماذا تريد؟
قال: الغنم.
فأعطاه الله شاة فولدت فملأت الوادي.
ثم عاد الملك إليهم في صورة فقير، ولله الحكمة البالغة.
فذهب إلى الأقرع فقال: أنا فقير منقطع انقطعت بي السبل والحبال ولا مأوى إلا الله ثم ما عندك، أعطني.
قال: الحقوق كثيرة والمال ورثته كابراً عن كابر، مالك عندي شيء.
قال: كأنك كنت أقرع فقيراً قبل؟
قال: لا، المال ورثته كابراً عن كابر.
قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
فسلب الله نعمته فعاد إلى حاله الأولى.
وذهب إلى الأبرص فسأله وقال: أنا فقير قد انقطع بي الحال.
قال: ما عندي شيء الحقوق كثيرة.
قال: كأنك كنت قبل فقيراً أبرص؟
قال: لا.. ورثت المال كابراً عن كابر.
قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت.
فردّه الله إلى حاله.
وسار إلى الأعمى وكان الأعمى عاقلاً يؤمن بقوله تعالى: ((هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ))، رأى نعم الواحد الأحد فشكرها.
أتى رجل من الفقراء لينام فقال: يا ربي أفقرتني وأغنيت فلاناً، سلبتني وأعطيت فلاناً.
هذا الفقير مؤمن لكنه ينظر إلى الأموال والذهب والفضة حوله فيكاد قلبه يزيغ.
فرأى رجلاً صالحاً في المنام يقول له: يا فلان أتريد أن تبيعني بصرك بمائة ألف دينار؟
قال: لا.
قال: أتريد أن تبيعني سمعك بمائة ألف دينار؟
قال: لا.
قال: تبيعني يدك بمائة ألف دينار؟
قال: لا.
قال: تبيعني رجلك بمائة ألف دينار؟
قال: لا.
فأخذ يعدد له الأعضاء عضواً عضواً.
قال: سبحان الله! عندك مئات الألوف من الدنانير وما شكرت، وتتمنى أن يرزقك الله.
فهب من المنام يبكي ويقول: لك الحمد يا رب.
الشاهد أن الملك قال للأعمى: أنا رجل فقير منقطع الحال.
قال الأعمى: أما أنا فقد كنت أعمى فرد الله عليّ بصري، وقد كنت فقيراً فأغناني الله، فخذ ما شئت واترك ما شئت، والله لا أسألك اليوم شيئاً أخذته، ووالله لا أحمدك على شيء تركته.
قال: أنا ملك من السماء، أخبرك أن الله رضي عنك وسخط على صاحبيك (1) .
فهذا دليل على أن عقوبة من شكر النعم أن يرضى الله عنه.
وأن من تسخط نعمة الله واستخدمها في الفجور وأصبح متمرداً جاحداً لآيات الله فإن الله يغضب عليه.
فهذه النعم تحتاج إلى شكر، وإلا فالأصل عند أهل العلم أن العبادة لا تكافئ النعم..
أورد بعضهم أن رجلاً من بني إسرائيل عبد الله في جزيرة من الجزر، فكان طول يومه في العبادة والعزلة، فلما توفاه الله بعد خمسمائة عام من تلك العبادة قال له: أتدخل الجنة بعملك أو برحمتي؟
قال: بل بعملي؛ لأنه تكاثر الخمسمائة عام.
فقال الله عز وجل: يا ملائكتي أحصوا عمله ونعمتي عنده، فأحصوها فوجدوا أن صلاته وعبادته وشكره في خمسمائة عام لا تعادل إلا نعمة البصر.
قال: خذوه إلى النار.
فصاح وقال: يا رب أدخلني الجنة برحمتك! فرحمه الله فأدخله الجنة ليعلمه أن نعم الله لا تحصى لو عدها العادّ.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله إلا برحمة الله. قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟
قال: حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) (1) .
فكلنا فقراء ومخطئون، وكلنا مسيئون، وكلنا مقصرون.
فنسأل الله أن يرحمنا برحمته ويدخلنا جنته، فليس عندنا أعمال توصلنا الجنة إلا أن يرحمنا الله.
من شكر النعم أن يكون العبد صالحاً في نفسه وداعياً إلى الخير لغيره، لا أن يكون سلبياً في المجتمع، فإن المجتمعات الأخرى يقول المرء فيها: نفسي نفسي وليهلك الجميع!
ولكن الإسلام قد بين أن النجاة للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر دون غيرهم، أما الساكتين السلبيين فإنهم يهلكون كغيرهم من العصاة الجاحدين لنعم الله.
((أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ)).
وفوائد الشكر عديدة، منها:
1- أن يرضى الله عنك فيسعدك في الدارين الدنيا والآخرة.
2- كفاية سؤال التوبيخ في الآخرة عندما يسألك الله عن تلكم النعم، أما سؤال التقرير فلا بد منه للجميع، كما قال تعالى: ((ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)).
3- أن يدعو الناس لك بخير عندما يرون شكرك؛ لأنك ستكون من أسباب استقرار وأمن هذا المجتمع.
أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا من الشاكرين لنعمه سبحانه، وأن يجنبنا الكفران والجحود.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
تعليق