باب في العمل مع القدر
(27)- عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: قلت: (يا رسول الله، العمل على ما فرغَ منه أو على أمر مؤتنف؟ قال: بل على أمر قد فرغ منه، قال: قلت: ففيم العمل، يا رسول الله؟
قال: كل ميسر لما خُلق له)، عبد الله بن أحمد في السنة: (2/ 411): في سنده مجهول. إلا أن الحديث صحيح لوروده من طريق أخرى متصلة، قال الذهبي في ميزان الاعتدال: (3/ 466): هذا إسناد صالح متصل، ويعني: الطريق الأخرى. * سند الحديث:
ثنا علي بن عياش ، قال: ثنا العطاف بن خالد ، قال: حدثني رجل من أهل البصرة ، عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي يكر الصديق ، عن أبيه، سمعت أبي يذكر، أن أنجاه سمع أبا بكر ، وهو يقول: (قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله..).
* شرح الحديث:
(قلت: يا رسول الله، العمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟
.. ) يعني: عملنا انتهينا منه أم على أمر نستأنفه نحن؟
قال: بل على أمر قد فرغ منه، قال: فقلت: ففيم العمل...؟
انظر إلى هؤلاء الجهابذة، حيث يُركب السؤال على السؤال، فلو أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أمر مؤتنف لما جاء أبو بكر بالسؤال الثاني، قال: كل ميسر لما خلق له.
وهذا من أحسن الأجوبة وأسدها، ومن زوال الخير لم يخيب الله سعيه قال تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))، ومن فعل السوء كانت نتيجته سيئة.
قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) هذه سنن الله عزّ وجلّ في خلقه.
(28)- وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل من جهينة أو مزينة فقال: (يا رسول الله، فيم نعمل في شيء قد خلا أو مضى أو في شيء يُستأنف الآن؟
قال: في شيء قد خلا أو مضى، فقال رجل أو بعض القوم: يا رسول الله، فيم نعمل؟
قال: أهل الجنة يُيسّرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار يُيسّرون لعمل أهل النار) (1) .
(29)- وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله، فيم العمل؟
أفي شيء قد فُرغ منه أو في شيء نستأنفه؟
فقال: بل في شيء قد فُرغ منه، قال: ففيم العمل إذاً؟
قال: اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له) (1) .
* سند الحديث:
ثنا هشيم ، أنا علي بن زيد ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر .
سراقة بن مالك : هو؛ سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن تيم بن مدلج بن مرة بن عبد مناة بن كنانة الكناني المدلي ، وقد ينسب إلى جده، يكنى أبا سفيان ، كان ينزل قديداً.
روى البخاري قصته في إدراكه النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ساخت رجلا فرسه، ثم إنه طلب منه الخلاص، وألا يدل عليه، ففعل وكتب له أماناً، وأسلم يوم الفتح، ورواها أيضاً من طريق البراء بن عازب ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي قصة سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول سراقة مخاطباً أبا جهل :
أبا الحكم والله لو كنت شاهداً لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
وقال ابن عيينة ، عن إسرائيل أبي موسى ، عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـسراقة بن مالك : كيف بك إذا لبست سواري كسرى ؟
قال: فلما أتي عمر بسواري كسرى ، ومنطقته، وتاجه، دعا سراقة فألبسه، وكان رجلاً أزبَّ كثير شعر الساعدين.
فقال له: ارفع يديك، وقل: الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز ، وألبسهما سراقة الأعرابي.
ومات سراقة في خلافة عثمان سنة أربع وعشرين، وقيل: بعد عثمان(1) .
(30)- وعن أبي الزبير عن جابر -يعني: ابن عبد الله رضي الله عنهما، أنه قال: (يا رسول الله، أنعمل لأمر قد فرغ منه أم لأمر نأتنفه؟
قال: الأمر قد فرغ منه، فقال سراقة: ففيم العمل إذاً؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل عامل ميسر لعمله) (1) .
* سند الحديث:
ثنا هارون بن معروف ، ثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو ، عن أبي الزبير .
* شرح الحديث:
(قال: لأمر قد فرغ منه، فقال سراقة ..) هناك اختلاف بين هذا الحديث، والحديث السابق من حيث السؤال، ففي الحديث السابق سراقة بن مالك ، هو الذي سأل السؤالين معاً: يا رسول الله، فيم العمل؟
أفي شيء قد فرغ منه أو في شيء نستأنفه؟
أما في هذا الحديث فإن جابر بن عبد الله هو الذي سأل السؤال الأول، و سراقة هو الذي سأل السؤال الثاني، والأمر فيه سعة، والمؤدى واحد.
(31)- وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به قال: فرفع رأسه فقال: ( ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قال: فقال: يا رسول الله، فلم نعمل؟
قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)))، وعنه في أخرى أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه، قال: كنا مع. ')" عن علي رضي الله عنه، قال: كنا مع جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وجلسنا حوله ومعه محصرة ينكث بها ثم رفع بصره فقال: ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب مقعدها من الجنة والنار إلا قد كتبت شقية أو سعيدة فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقوة فسيصير إلى الشقوة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر، أما من كان من أهل الشقوة فإنه ييسر لعمل الشقوة، وأما من كان من أهل السعادة فإنه يُيسر لعمل السعادة، ثم قرأ: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى)) إلى قوله: ((فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى))) (1) .
* سند الحديث:
ثنا أبو معاوية ثنا الأعمش ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي .
أبو عبد الرحمن السلمي : من الزهاد الكبار في الإسلام، وكان يعتني بأخبار الصالحين.
علي : هو علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو مشهور، ولكن في حياته أمور عند أهل السنة .
أولاً: في المنزلة والخلافة هو الرابع، واختلف أهل السنة في الفضل أيهما أفضل هو أم عثمان ؟
ولكن القول الأخير عند أهل السنة هو أن عثمان أفضل، وكان سفيان الثوري يرى أن علياً أفضل ثم عاد، قال الإمام أحمد : [من لم يثلث بـعثمان فهو أضل من حمار أهله].
ثانياً: أن علياً رضي الله عنه، أخذ الخلافة بإجماع من أهل الحل والعقد، أعني: من لهم الكلمة والصولة، وهو أولى بها من معاوية .
ثالثاً: أن موقف أهل السنة وسط بين الرافضة و الناصبة ، فـالناصبة نصبوا له العداء ومقتوه رضي الله عنه و الرافضة غالوا في حبه، وقدّسوه حتى أوصله بعضهم الإِلوهية -والعياذ بالله- و أهل السنة توسطوا وأنزلوه المنزلة اللائقة به.
رابعاً: الحق معه في حروبه، ففي صفين الحق معه، وفي الجمل الحق معه، و معاوية ومن معه بغاة على علي ، وهم مأجورون أجراً واحداً لاجتهادهم وخطئهم، وهو له أجران رضي الله عنه.
خامساً: أنه قتل شهيداً، فهو من الشهداء عند الله.
سادساً: كان من أزهد العباد عند الله عزّ وجل، وتميز بالشجاعة والصدق والخطابة والزهد.
عفاء على دنيا رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرّج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصنُ من حيث يخرج
وقال أحمد : لم ينقل في سير أحد من الصحابة ما نقل في سير علي ، وخصص له النسائي كتاباً مستقلاً، و ابن جرير كتب عنه، وهو من عظماء التاريخ، قال ابن عبد البر : اختلف الأئمة في علي على قسمين: قسم دخل النار بحبه، وقسم دخل النار ببغضه، وهذا لعظمته وكمال عقله.
* شرح الحديث:
(ينكت) النكت بالعود، هو: التأثير به في الأرض، أي: ضرب الأرض بطرف العود.
ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار.
فيه: دليل عند أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان اليوم، وأنهما موجودتان، وخالف في ذلك بعض المعتزلة .
وقالوا: لم تخلقا، وإنما تخلقان يوم القيامة، وقد كذبوا لعنهم الله، ومعتقد أهل السنة : أن النار والجنة حق وهم موجودتان لا فناء لهما، والصحيح أن الجنة والنار لا تفنيان، وأن من سكنهما فهو خالد مخلد، إلا أهل التوحيد فإنهم يخرجون من النار.
ولـأهل السنة أقوال في مكان وجود الجنة والنار، قالوا: الجنة في السماوات وسقفها عرش الرحمن، والنار في سجين، والله أعلم، قال تعالى: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)).
(فقال: يا رسول الله، لِمَ نعمل؟
) يعني: إذا كنا مكتوبين من أهل الجنة أو من أهل النار فلماذا نعمل؟
والسؤال ليس وارداً؛ لأنه لا بد للدخول في الجنة من عمل، ولا يدخل الإِنسان النار إلا بعمل سيئ.
((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)) لا بد أن يتقي المعطي في عطائه، فما كل من أعطى اتقى، فكلمة (واتقى) احتراز، ولولاه لدخل في ذلك من أعطى رياءً وسمعة وتبذيراً وإسرافاً.
((وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)) الحسنى: قيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقيل: الحسنى: ثواب الله الذي يعطيه للمؤمنين.
وقيل: الحسنى: الجنة في الآخرة.
وقيل: الحسنى: هي ما وعد الله عباده، وعلى كل حال لا بأس أن تشمل الجميع.
فالحسنى، هي: ما وعد بها الله، وتدخل فيها الجنة، والكلمة الطيبة. ((فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)) اليسرى، هي؛ السعادة في الدنيا والآخرة والتوفيق وتيسير الأمور، وهي التي يوفق الله لها عباده الصالحين.
((وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى)) قالوا: بخل بإسداء المعروف أيّاً كان.
ومعنى: ((وَاسْتَغْنَى)) أي: استغنى بما عنده عن العمل الصالح، فإن بعض الفجرة إذا أصبح عندهم مال استغنوا به عن طاعة الله عزّ وجلّ.
((وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى)) قيل: كذب بلا إله إلا الله، أو بما وعد الله، أو بالجزاء أو الآخرة أو الجنة.
((فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)) التعسير هو: الصعوبة في الأمور -والعياذ بالله- وهذا هو الخذلان.
كنا مع جنازة في بقيع الغرقد: البقيع من الأرض: المكان المتسع، ولا يسمى بقيعاً إلا إذا كان فيه شجر، أو إذا كان فيه غصون الشجر، والبقعة من الأرض، هي: القطعة التي تختلف بلونها عن غيرها، وبقيع الغرقد: موضع بظاهر المدينة ، فيه قبور أهلها، كان به شجر الغرقد، فذهب، وبقي اسمه.
والغرقد، نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس .
وروى مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) (1) .
(ومعه مخصرة): قطعة عصا أو خشبة أو قضيب، وهو ما يختصره الإنسان بيده، فيعتمد ويتكئ عليه، وكان عليه الصلاة والسلام يحب العراجين، ودائماً يأخذ العصا بيده عليه الصلاة والسلام وأخذها عند كثير من العلماء سنة.
وهي تكسب الرجل هيبة ولها مصالح.
وذكر الجاحظ في كتابه البيان والتبيين أكثر من ثلاثين فائدة للعصا، وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود -عندما سألوه عن الروح- وهو متكئ على عسيب، وأنزل الله: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)).
وفي الحديث: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، فقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس ، وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، قال: (لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن أتعدى أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله..) (1) ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يحمل معه دائماً درة قيل: فيها خيط، وكان إذا اهتم حرك الخيط فتتحرك معه العصا.
(ما منكم من نفس منفوسة)، منفوسة: أي: مولودة.
(الشقوة): الخذلان والعسر والصعوبة والعياذ بالله، قال سبحانه وتعالى: ((قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)).
أي: الخذلان الذي أدركنا والانحراف، وهذا بسبب أعمالهم، قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)).
وبعض الناس يسعى للشقوة بنفسه حتى يقع، الناس يذهبون للمسجد وهو يذهب للخمارة، الناس يسمعون القرآن وهو يسمع الغناء، الناس يفلحون في حياتهم وهو يتردى، الناس يحبون مجالس الذكر وهو يحب مجالس اللغو، وهذا علامة الشقوة.
(32)- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال عمر : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه، أفي أمر قد فُرغ منه أو مبتدأ أو مبتدع؟
قال: فيما قد فرغ منه، فاعمل يا ابن الخطاب فإن كلاً ميسر، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء) (1) .
* سند الحديث:
ثنا عبد الرحمن ، ثنا شعبة ، عن عاصم بن عبيد الله ، قال: سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر : قال: قال عمر .
* شرح الحديث:
(يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ منه) أي: هل انتهى وكتب علينا.
أو مبتدأ: أي: نبتدؤه نحن.
أو مبتدع: البدعة في اللغة: الإنشاء، يقال: ابتدعت العين: يعني: الركية، أي: أنشأتها، ابتدعت الشيء: أخترعته.
وقد صحّ عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يُصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر : والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل فجمعهم على ابن كعب قال: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال عمر : [نعمت البدعة هذه...] (1) ، بمعنى البدعة اللغوية لا الشرعية، فإنه لم يتبدع ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى بالناس ليلتين أو ثلاثاً وجمعهم في بيته عليه الصلاة والسلام، فـعمر فعل فعلاً فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويروى أن عمر مرّ في ليلة و أبي بن كعب يقرأ في صلاة التراويح في الصافات والبكاء يغلبه وهو يقول: ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ))، فألقى عمر العصا من يده واضطجع وأتى الناس إليه وحملوه للبيت وبقي مريضاً شهراً كاملاً من خشية الله تعالى.
(33)- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: (أتدرون ما هذان الكتابان؟
قال: قلنا: لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله، قال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً، ثم قال للذي في يساره: هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم لا يُزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً!
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلأي شيء إذاً نعمل إن كان هذا أمراً قد فُرغ منه؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل الجنة وإن عمل أي عمل، وإنّ صاحب النار ليختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال بيده فقبضها، ثم قال: فرغ ربكم عزّ وجلّ من العباد، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال: فريق في الجنة ونبذ باليسرى فقال: فريق في السعير) (1) .
* سند الحديث:
ثنا هاشم بن القاسم ، ثنا ليث ، حدثني أبو قبيل المعافري ، عن شفي بالفاء مصغراً، الأصبحي عن عبد الله بن عمرو .
* شرح الحديث:
وفي يده كتابان: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكتب، قال تعالى: ((وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ))، وقال سبحانه: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ))، واحتدم الخلاف بين أبي الوليد الباجي و ابن حزم الظاهري في كون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتب أم لا.
والصحيح عند أهل العلم أنه ما كتب أبداً.
وأما احتجاج البعض بأنه طلب عليه الصلاة والسلام من علي في الحديبية أن يمحو اسمه في المكاتبة، والمصالحة بينه وبين سهيل بن عمرو ولما رفض رضي الله عنه، وأرضاه أن يمحو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الرسول بيده فمحاً اسمه.
فقد قال أهل العلم: العامي الأمي قد يعرف اسمه بالكتابة، فمحاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فهو لا يكتب ولا يقرأ عليه الصلاة والسلام، والسر في عدم كتابته عليه الصلاة والسلام أنه لو كتب لارتاب المبطلون، وقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً.
قال تعالى: ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)).
وقد قال كفار قريش: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يكتب القرآن عند الخباب بن الأرت ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب عند الخباب، ويسن السيوف على الكير فيدعوه للإِسلام، فقالوا: علمه خباب القرآن، فرد الله عزَّ وجلّ عليهم بوجهين:
الوجه الأول: قوله تعالى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)).
والوجه الثاني: قوله تعالى: ((وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ))، ثم قال سبحانه وتعالى: ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا)).
(هذا كتاب من رب العالمين تبارك وتعالى بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم..): ينادى الشخص يوم القيامة باسمه، واسم أبيه منسوباً إلى أجداده وإلى قبيلته، وهذا يوم يسعد فيه العبد أو يفضح فيه، والعياذ بالله، وهو يوم الأشهاد، يوم ينادى على رءوس الأشهاد، فمن ناج فيفرح بمصيره، ومن خائب خاسر وشقي، يتمنى لو انشقت الأرض ودخل فيها، ولذلك طلب منا الرسول صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه- أن نحسن أسماءنا وأسماء أبنائنا؛ لأننا ندعى بها يوم القيامة.
(سددوا): أي: اقصدوا السداد، وهو: القصد في الأمر، واتركوا الغلو في الأمور؛ لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتذروا العمل.
والسداد، هو: الوسط بين الشيئين، بين الغلو والمجافاة، ودين الله عزَّ وجلّ وسط و أهل السنة وسط، قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا))، والعابد الوسط دائماً هو الذي ينجح ويصل إلى مراده، فإن من كسل وخمد عن أداء الفرائض والتزود بما تيسر من النوافل ضاع في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ومن غلا وشدد على نفسه، فهو المنبت الذي لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، وهو الذي يفتر ويترك العمل، فينبغي أن نكون وسطاً.
(وقاربوا..): أي: اطلبوا أقرب الأمور فيما تعبدتم به، فإذا لم تصيبوا الهدف فحوله، وإذا لم تأتوا بالعمل على أكمل وجه فحاولوا ذلك.
(ثم قال بيده فقبضها): أي: أخذ يده، فالقول هنا بمعنى الفعل.
وذلك شائع في لغة العرب.
قال المتنبي مخاطباً سيف الدولة :
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
والحاسد هنا لم يقل شيئاً، وإنما أبو فراس الحمداني رمى المتنبي بالدواة، وهو يلقي قصيدته الرائعة البديعة؛ التي يقول في أولها:
واحرّ قلباه ممن قلبه شَبِم ومن بحالي وجسمي عنده سقم
إلى أن يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
فرماه الأمير أبو فراس ابن عم سيف الدولة بالدواة، فوقعت في رأسه فسال الدم، فضحك سيف الدولة ، فقال المتنبي :
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
وأعظم مسألة في هذا الحديث أن الكتابين معجزة، ولعله أتى بهما جبريل من الله عزّ وجلّ، وأين مصير الكتابين؟
الله أعلم، إنما بلغ عليه الصلاة والسلام وأدى وصدق ونصح، وما كتم شيئاً.
وهل قرأ أحد الكتابين؟
لم يخبرنا الحديث، إنما الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرجهما للناس، وقد أتانا بأعظم من ذلك، وهو القرآن الكريم؛ الذي نتلوه صباح مساء كلام رب العالمين، وأتانا بالعجائب، ورأى النار عليه الصلاة والسلام، في عرض الحائط، ورأى الجنة وأخبر بأخبار الغيب وصعد إلى سدرة المنتهى، فمعجزاته أعظم من ذلك، وهذه من المعجزات على كل حال، ولم يكتبها أحد من الصحابة، وإنما كتبها الله عزّ وجلّ.
(34)- وعن عبد الرحمن بن قتادة السلمي رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله عزّ وجلّ خلق آدم ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي، قال: فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟
قال: على مواقع القدر) (1) .
* سند الحديث:
ثنا الحسن بن سوار ، ثنا ليث ، يعني: ابن سعد ، عن معاوية بن راشد بن سعد ، عن عبد الرحمن بن قتادة .
* شرح الحديث:
على مواقع القدر: أي: على ما كتب الله، وهذا فيه رد -كما سبق- على القدرية الذين قالوا: لا قدر، وما كتب الله شيئاً، وإنما نحن نستأنف العمل، وقد كذبوا، وقد سبق أن ذكر أن الله أخرج ذرية آدم على هيئة الذر، ثم جعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير.
(35)- وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سُئل، أو قيل له: (أيعرف أهل النار من أهل الجنة؟
فقال: نعم، قال: فلم يعمل العاملون؟
قال: يعمل كل لما خُلق له أو لما يُسّر له) (1) .
* سند الحديث:
ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة و حجاج قال: أنا شعبة ، عن يزيد الرشك ، قال: سمعت مطرفاً يحدث، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل.
( عمران بن حصين ): هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبدنُهم الخزاعي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، وكان إسلامه عام خيبر ، وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وقال الطبراني : أسلم قديماً هو وأبوه وأخته، وكان ينزل بلاد قومه، ثم تحول إلى البصرة إلى أن مات بها، كان من فضلاء الصحابة وفقهائهم، يقول عنه أهل البصرة : إنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حتى اكتوى، مات سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة ثلاث وخمسين (1) .
(36)- وعن أبي الأسود الدؤلي ، قال: غدوت على عمران بن حصين رضي الله عنه يوماً من الأيام فقال: يا أبا الأسود ، فذكر الحديث أن رجلاً من جهينة أو مزينة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، شيء قُضي عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم واتخذت عليهم به الحجة؟
قال: بل شيء قُضي عليهم ومضى عليهم، قال: فلم يعملون إذاً يا رسول الله؟
قال: من كان الله عز وجلّ خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها، وتصديق ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ: ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا))) (1) .
* سند الحديث:
ثنا صفوان بن عيسى ، أنا عزرة بن ثابت ، عن يحيى بن عقيل ، عن ابن يعمر ، عن أبي الأسود الدؤلي .
* شرح الحديث:
(يكدحون): يبذلون، والكدح، هو: السعي والعمل والحرص، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ))، يعني باذلاً بذلاً وتتعب وتشقى فإما خيراً وإما شرّاً.
((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) أي: ألهم سبحانه وتعالى النفس فجورها فتصبح فاجرة، فلا تبغي إلا الفجور، وتتردى إلى النار، وألهمها تقواها، فهي تقية، وهذا مثل منزلة من كان من أهل السعادة ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاء ييسر لعمل أهل الشقاء.
(37)- وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قالوا: (يا رسول الله، أرأيت ما نعمل أمر قد فُرغ منه أم أمر نستأنفه؟
قال: بل أمر قد فُرغ منه، فقالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله؟
قال: كل امرئ مهيأ لما خلق له) (1) .
* سند الحديث:
ثنا هشيم وسمعته أنا من هشيم قال: أنا أبو الربيع ، عن يونس ، عن أبي إدريس ، عن أبي الدرداء .
* شرح الحديث:
كل امرئ مهيأ لما خلق له: المقادير متقدمة، أما قوله سبحانه وتعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))، فكما قال ابن القيم : يعافي مريضاً ويهدي ضالًّا، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، وينزع الملك ممن يشاء، ويعطي الملك لمن يشاء، ويذل هذا، ويعز هذا، ويقدم هذا، ويؤخر هذا، وإلاّ فالمقادير متقدمة.والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني
تعليق