الوصايا الثمينة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن) (1) .
هذا الحديث روي عن أبي ذر ، وروي عن معاذ وهو أصل من أصول الدين، وقاعدة كبرى من قواعد الملة.
وفيه ثلاث ركائز:
1- تقوى الله.
2- إتباع الحسنة السيئة.
3- مخالفة الناس بخلق حسن.
لقد أوصى صلى الله عليه وسلم الصحابة بوصايا متنوعة، فأوصى واحداً منهم كما في البخاري بقوله: (لا تغضب) (1) . لأن الغضب داؤه، فأوصاه صلى الله عليه وسلم بما يناسب شخصه.
قال بعض أهل العلم من المحدثين: إنما اختلفت وصاياه صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس وأحوالهم.
وأوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً كما في حديث عبد الله بن بسر عند الترمذي وقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) (1) . لأنه رجل كبير يناسبه الذكر.
وأوصى صلى الله عليه وسلم أبا أمامة كما عند أحمد فقال: (عليك بالصيام فإنه لا عدل له) (1) .
وأوصى معاذاً كما في سنن الترمذي فقال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) (1) . لما سأله عن شيء يقربه من الجنة ويباعده عن النار. ووصاياه صلى الله عليه وسلم كثيرة تأتي مرةً في المعتقد كقوله لـأبي الدرداء في وصية طويلة أولها: (لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت) (1) .
ومرة تكون في العبادة كقوله لـمعاذ كما في أبي داود : (قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (1) .
ومرة في الدعاء كما قال في البخاري و مسلم لـأبي بكر : (<A class=yiv1037760311h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7005037" rel=nofollow target=_blank>يا أبا بكر قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (1) .
ومرة في الخلق كما مر معنا في حديث نهيه صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل عن الغضب.
ومرة في التفكير في آيات الله عز وجل يوم قال لـأبي جريّ الهجيمي : (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك.) (1) .
أما التقوى: فقد قال سبحانه: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله)). وقال سبحانه: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)). وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله)).
قال بعض الفطناء: إذا رأيت الرجل يأنف من قول الناس له: اتق الله، فاعلم أنه قد باع نصيبه من الله.
وقال رجل لـعمر : اتق الله يا أمير المؤمنين.
قال: [لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فيّ إذا لم أسمعها].
وتقوى الله عز وجل نص عليها في الكتاب والسنة بأحاديث وبآيات كما سبق.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)).
قالوا: من يكابر على النصيحة فهو من جنس من تأخذه العزة بالإثم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وقد اختلف العلماء في تعريف التقوى على أقوال كثيرة:
فمنهم من نظر إلى أصلها في الكتاب والسنة.
ومنهم من نظر إلى مردودها.
ومنهم من عرفها بمنطق أهل السلوك وأهل أعمال القلوب.
قال ابن تيمية عن التقوى: هي فعل المأمور واجتناب المحذور.
وهو كلام شرعي سني.
وقيل: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
وقال ابن مسعود : تقوى الله أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر.
وقال علي فيما نسب إليه: التقوى هي العمل بالتنزيل (وهو الوحي من الكتاب والسنة)، والرضا بالقليل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وهذه تحتاج إلى محاضرة مستقلة.
وقال معاذ : التقوى هي أن تتجنب الشرك، وأن تطيع الله، وأن تخلص العبادة.
وقال الحسن البصري في التقوى: هي أن تؤدي ما لله عليك، وما للناس عليك من حقوق، وأن تجتنب ما نهى الله عنه أو كما قال.
وذكرها عمر بن عبد العزيز فقال: أما إنها ليست بقيام آخر الليل وبصيام الهواجر والتخليط بين ذلك -يعني بالسيئات-، ولكنها الانكفاف عن المعاصي.
وقال طلق بن حبيب: هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقد ذكر أبو الدرداء لها تعريفاً آخر وهي: أن تكون مراعياً ما لله عليك من حقوق.
وكل هذه التعريفات تتداخل.
وسئل أبي بن كعب عن التقوى فقال للسائل: [أمررت بوادٍ فيه شوك؟
قال: نعم.
قال: ماذا فعلت؟
قال: تحفزت وشفرت.
قال: فهذه التقوى].
ورأيت في ترجمة رجل من بني إسرائيل أنه اختفى في غابة فأراد أن يفعل معصية فقال: لا يراني أحد ولا يعلم بي أحد.
فسمع هاتفاً يقول: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)).
وأوصى بعض الصالحين ابنه فقال: اتق ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)).
فهو لا تخفى عليه خافية.
أحد العباد اسمه حبيب بن محمد ، كان يبيع ويشتري، فكان يبيع الدرهم بالدرهمين.
فمر بالصبيان فقالوا: أنت حبيب المرابي.
فقال: سبحانك يا رب فضحتنا أمام الناس.
فتاب إلى الله من الربا ثم تصدق بأمواله.
فمر على الصبيان فقالوا: مرحباً بك يا أبا محمد.
قال: سبحانك أنت الذي تمدح وأنت الذي تذم.
وهذا كلام جيد، ويوصف به سبحانه وتعالى، فإن مدحه زين وذمه شيْن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، معنى ذلك أنك إذا قدحت في مسمى التقوى الذي أوصى به رسوله صلى الله عليه وسلم فإن عليك أن تبادر بالعلاج.
قال علي كما ذكر ذلك الغزالي في الإحياء : [عجباً لكم، عندكم الداء والدواء.
قالوا: ما هو الدواء والداء؟
قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار].
ونحن عندنا دواء من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم ولكننا لم نستخدمه.
قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، دل على ذلك القرآن.
قال المولى سبحانه: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)).
يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (كيف تكون الجنة عرضها السموات والأرض؟
فأين النار؟
فقال: أين الليل إذا أتى النهار؟
) (1) . وهذا قياس صحيح.
ثم قال تعالى: ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا)).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي.
فغفر الله له.
ثم أذنب ذنباً فقال: يا ربي اغفر لي ذنوبي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فغفر له.
فأذنب ذنباً فقال: يا رب اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فقال الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا فليفعل عبدي ما شاء) (1) .
والمعنى عند أهل العلم حتى لا يفهم فهماً خاطئاً أنه إذا أذنب ثم استغفر فإنه سينجو، وليس معناه أنه أباح له تعالى المعصية.
وفي الترمذي والسنن حديث ليس بالقوي: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، ومعناه صحيح لكن سنده ليس بالقوي (1) .
فإن العبد لو ارتكب ذنباً في يوم ثم استغفر وتاب على أن لا يعود غفر الله له.
ثم عاد ثم استغفر وتاب غفر الله له.
ثم عاد ثم استغفر وتاب غفر الله له.
وهكذا.
وقال حبيب بن الحارث : (يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: إلى متى يا رسول الله؟
قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور) (1) .
أما حديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (1) . فقد رواه ابن ماجه وحسنه حافظ الدنيا ابن حجر بشواهده.
ومعناه صحيح، فإن تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له لأنه سيغفر له سبحانه.
ولذلك من الجهل أن يعير الإنسان الناس بذنوبهم إن كانت في الجاهلية، كرجل كان يشرب الخمر وكان مشهوراً ثم تاب وأناب وأصبح عبداً صالحاً.
فإذا أمر أو نهى قال: اسكت أنت كنت تشرب الخمر.
سبحان الله!
عمر بن الخطاب كان يعبد الصنم وهو أفضل من مسلمي الكرة الأرضية في هذا الوقت، ومع ذلك أصبح ثاني الخلفاء الراشدين لما تاب وأناب.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن واه راقع، فالسعيد من هلك على رقعه) (1) . رواه الطبراني في الصغير وفيه ضعف.
ومعنى الحديث أن دينه مثل القربة يخرقها بين الحين والآخر.
ولذلك قال ابن الجوزي : لا يخلو المؤمن من جروح، لكن الله الله أن لا تكون الجروح في الوجه!
وهذا تشبيه بذنوب العبد التي لا بد أن تصيبه.
فهو لا بد أنه يعالجها ويبدأ بالأهم منها.
وقوله: (فالسعيد من هلك على رقعه)، يعني أن من مات وهو راقع فهو السعيد.
أما من مات على وهيه وعلى خرقه فهذا المسكين.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (1) . الحديث فيه مقال وسنده يقارب الحسن.
أما قوله -وهذا الشاهد-: (واغفروا يغفر لكم)، أي سامحوا الناس يسامح الله لكم، والجزاء من جنس العمل.
أما أقماع القول فهم الذين يستمعون القول فيكونون كالأقماع لا يستفيدون من الكلام.
وقال ابن عباس ولا يصح مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار) (1) .
والمعنى أن صاحب الكبيرة كلما استغفر وأناب وتاب غفر الله له.
وأن صاحب الصغيرة إذا أصر عليها وداوم عليها واستمر أصبحت كبيرة.
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (وصف صاحب الصغائر بقوم ذهبوا للخلاء فجمعوا حطباً صغيراً، فجمع هذا عوداً وهذا عوداً ثم أجّجوا ناراً عظيمة) (1) .
فالصغائر تجتمع على العبد حتى تهلكه والعياذ بالله.
وهاهنا مسائل في التوبة:
أولاً: شروط التوبة ثلاثة:
الأول: العزم على أن لا يعود إلى الذنب.
الثاني: الندم على ما كان من الذنب.
الثالث: رد حقوق الناس كالأموال والأراضي والممتلكات.
لأنه لا تصح التوبة بدون التخلص من حقوق الناس.
لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبنية على المسامحة.
فأنت إذا أذنبت مع الله ملء الأرض وتبت إليه غفر لك.
وإذا أذنبت مع العبد فسوف يطلب حقه ولن يسامحك إلا القليل منهم.
قال الشعبي :
ثانياً: فضل التائبين:
قال ابن تيمية : أعظم المنازل منزلة التائبين.
وقد ختم الله حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا)). هل قال له: استبشر بالمنزلة العالية؟
هل قال له: ادخل الجنة؟
هل قال له: قصرك في الجنة كالربابة؟
لا. بل قال: ((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)).
إن جهدك كبير ولكن استغفر وتب، فالتوبة أعلى منزلة عند الله.
قال ابن تيمية : وختم رسول الله الصلاة بالاستغفار.
أي أنه يقول بعدها كما هو معلوم: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
وختم الله الحج بالاستغفار: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
أما فرح الله بالتائب فيكفي حديث: (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة فضاعت عليه ناقته وعليها طعامه وشرابه في الصحراء، فلما قام وجدها عند رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (1) .
فمن ظن أن الله يريد أن يعذب العبد فقد أساء الظن بربه.
بل الله رحيم يفرح بتوبة العبد.
ولذلك يخطئ كثير من الشباب الذين أسرفوا على أنفسهم عندما يظنون أن الله لا يغفر ذنوبهم وجرائمهم السابقة لهولها في أعينهم.
ونسوا أن الله تاب على القاتل الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل برغم عظم جرمه، ليبين لهم الله أنه الغفور الرحيم الذي لا يتعاظمه ذنب.
فواجبهم أن يتركوا تلك الوساوس التي صرفتهم عن الهداية والتوبة ويقدموا مسرعين لئلا يفوتهم قطار السعادة، وقطار التوبة الماضي في طريقه دون ملل أو كلل.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ وبصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له)، ثم تلا: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)). (1) .
وتسمى هاتان الركعتان بركعتي التوبة، وهي ثابتة وصحيحة.
وأرشد إليها إخواني ممن فعل سيئة أو خطيئة، كبرت أو صغرت، أن يذهب إلى الماء فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله.
وفي الصحيحين : (أن رجلاً قال: يا رسول الله أصبت حدّاً فأقمه علي.
فسكت عنه صلى الله عليه وسلم.
فلما صلى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: أين فلان؟
.
قال: ها أنا يا رسول الله.
قال: أصليت معنا؟
.
قال: نعم.
قال: اذهب فقد غفر الله لك ذنبك بصلاتك) (1) .
ومعنى الحديث: أن هذا الرجل عمل ذنباً ليس عليه فيه حد، وهو يظن أن عليه حداً كالزنا والقتل مثلاً.
فأخبره صلى الله عليه وسلم أن هذا الذنب تكفره الصلاة والتوبة.
وقيل: بل كان هذا الذنب قبل أن تنزل الحدود فجعل صلى الله عليه وسلم كفارته الصلاة، والله أعلم.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟
.
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الذنوب والخطايا) (1) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال بعض السلف: تحترقون تحترقون ثم تصلون فيكشف الله ما بكم.
وعند مسلم في الصحيح (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره) (1) . نسأل الله من فضله.
وهذا في الصغائر، أما أهل الكبائر فلا بد لهم من التوبة.
وعند مسلم في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) (1) .
وفي مسلم : (أن رجلاً من الأنصار كان بعيد الدار عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أصحابه: لو اشتريت حماراً تركبه إلى المسجد في ذهابك وإيابك في الظلماء وفي الرمضاء.
قال: لا. إنني أسأل الله أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي.
فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: قد جمع الله لك ذلك كله) (1) .
وفي السنن: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) (1) .
وكان ابن عمر يقارب خطاه إذا ذهب إلى المسجد حتى كأنه نملة.
أما انتظار الصلاة بعد الصلاة، أي أنك إذا صليت انتظرت الصلاة التالية في المسجد.
والظاهر والله أعلم انتظارها بالقلب ومراعاة الوقت.
ذكر الإمام أحمد عن عدي بن حاتم في كتاب الزهد أنه قال: [ما دخلت علي الصلاة إلا وكنت لها بالأشواق].
فالصالحون دائماً مشغولون بوقت الصلاة: متى يؤذن؟
. هل أذن؟
وأحد السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظلّه: (رجل قلبه معلق بالمساجد) (1) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم مبيناً الركن الثالث من هذه الوصية: (وخالق الناس بخلقٍ حسن).
لما انتهى من حقوق الله عز وجل على عبده ذكر حقوق الناس عليه فقال: (وخالق الناس بخلق حسن).
والله ذكر الخلق الحسن وأصوله في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه وتعالى في رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)). ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)).
((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)). ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)). ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)). ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)). ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)).
وعند الترمذي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟
أحاسنكم أخلاقاً) (1) . وفي رواية أخرى: (أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطؤون كنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وليس منا من لا يألف ولا يؤلف) (1) .
والأكناف هي أطراف الشيء والأجنحة، أي يوطئونها للناس ويألفهم الناس.
وروى أحمد و أبو داود و ابن حبان : (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (1) . وهذا حديث حسن وهو صحيح المعنى. وروى أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن حبان : (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق) ثم ذكر: (وإن صاحب حسن الخلق يدرك درجة الصائم القائم) (1) .
وعند أبي داود بسند صحيح و الطبراني في الكبير قال المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
(أنا زعيم) والزعيم الوكيل، (أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) (1) .
وحسن الخلق عرفه الأئمة بأنه بسط الوجه، بأن لا تغضب، وأن تبتسم، وأن لا تكفهرّ.
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر ما معناه: رأيت أناساً يتزمتون ويظهر عليهم العبوس، ويظهرون التعبد للناس، وإن القلوب لتنفر منهم.
ورأيت أناساً يتبسمون ويمزحون، وإن القلوب تطوف بهم، لأن الحب من الواحد الأحد وليس من الناس.
وحسن الخلق بذل الندى، وكف الأذى، وبسطة الوجه.
وعلى المسلم كذلك ألا يحوج الناس لسوء الخلق، فإن بعض الناس يحوجك إلى أن يسوء خلقك، إما بالإلحاح بالطلب، وإما بعدم معرفة الوقت المناسب، وإما أن يكثر عليك بالمسألة، وإما أن يدخل عليك بجلافة وبكلام فظ.
وقد غضب صلى الله عليه وسلم وهو معصوم لما اضْطرّ لذلك.
أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا من المتقين التائبين الذين يتعاملون مع الناس بحسن الخلق.
والله أعلم، وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني
الوصايا الثمينة</STRONG>
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن) (1) .
هذا الحديث روي عن أبي ذر ، وروي عن معاذ وهو أصل من أصول الدين، وقاعدة كبرى من قواعد الملة.
وفيه ثلاث ركائز:
1- تقوى الله.
2- إتباع الحسنة السيئة.
3- مخالفة الناس بخلق حسن.
لقد أوصى صلى الله عليه وسلم الصحابة بوصايا متنوعة، فأوصى واحداً منهم كما في البخاري بقوله: (لا تغضب) (1) . لأن الغضب داؤه، فأوصاه صلى الله عليه وسلم بما يناسب شخصه.
قال بعض أهل العلم من المحدثين: إنما اختلفت وصاياه صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس وأحوالهم.
وأوصى صلى الله عليه وسلم رجلاً كما في حديث عبد الله بن بسر عند الترمذي وقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) (1) . لأنه رجل كبير يناسبه الذكر.
وأوصى صلى الله عليه وسلم أبا أمامة كما عند أحمد فقال: (عليك بالصيام فإنه لا عدل له) (1) .
وأوصى معاذاً كما في سنن الترمذي فقال: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً) (1) . لما سأله عن شيء يقربه من الجنة ويباعده عن النار. ووصاياه صلى الله عليه وسلم كثيرة تأتي مرةً في المعتقد كقوله لـأبي الدرداء في وصية طويلة أولها: (لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت) (1) .
ومرة تكون في العبادة كقوله لـمعاذ كما في أبي داود : (قل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (1) .
ومرة في الدعاء كما قال في البخاري و مسلم لـأبي بكر : (<A class=yiv1037760311h_link href="http://us.mg4.mail.yahoo.com/neo/comments.aspx?id=7005037" rel=nofollow target=_blank>يا أبا بكر قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (1) .
ومرة في الخلق كما مر معنا في حديث نهيه صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل عن الغضب.
ومرة في التفكير في آيات الله عز وجل يوم قال لـأبي جريّ الهجيمي : (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك.) (1) .
أما التقوى: فقد قال سبحانه: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله)). وقال سبحانه: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)). وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ الله)).
قال بعض الفطناء: إذا رأيت الرجل يأنف من قول الناس له: اتق الله، فاعلم أنه قد باع نصيبه من الله.
وقال رجل لـعمر : اتق الله يا أمير المؤمنين.
قال: [لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فيّ إذا لم أسمعها].
وتقوى الله عز وجل نص عليها في الكتاب والسنة بأحاديث وبآيات كما سبق.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ)).
قالوا: من يكابر على النصيحة فهو من جنس من تأخذه العزة بالإثم، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
وقد اختلف العلماء في تعريف التقوى على أقوال كثيرة:
فمنهم من نظر إلى أصلها في الكتاب والسنة.
ومنهم من نظر إلى مردودها.
ومنهم من عرفها بمنطق أهل السلوك وأهل أعمال القلوب.
قال ابن تيمية عن التقوى: هي فعل المأمور واجتناب المحذور.
وهو كلام شرعي سني.
وقيل: هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
وقال ابن مسعود : تقوى الله أن يذكر فلا ينسى، وأن يطاع فلا يعصى، وأن يشكر فلا يكفر.
وقال علي فيما نسب إليه: التقوى هي العمل بالتنزيل (وهو الوحي من الكتاب والسنة)، والرضا بالقليل، والخوف من الجليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
وهذه تحتاج إلى محاضرة مستقلة.
وقال معاذ : التقوى هي أن تتجنب الشرك، وأن تطيع الله، وأن تخلص العبادة.
وقال الحسن البصري في التقوى: هي أن تؤدي ما لله عليك، وما للناس عليك من حقوق، وأن تجتنب ما نهى الله عنه أو كما قال.
وذكرها عمر بن عبد العزيز فقال: أما إنها ليست بقيام آخر الليل وبصيام الهواجر والتخليط بين ذلك -يعني بالسيئات-، ولكنها الانكفاف عن المعاصي.
وقال طلق بن حبيب: هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقد ذكر أبو الدرداء لها تعريفاً آخر وهي: أن تكون مراعياً ما لله عليك من حقوق.
وكل هذه التعريفات تتداخل.
وسئل أبي بن كعب عن التقوى فقال للسائل: [أمررت بوادٍ فيه شوك؟
قال: نعم.
قال: ماذا فعلت؟
قال: تحفزت وشفرت.
قال: فهذه التقوى].
ورأيت في ترجمة رجل من بني إسرائيل أنه اختفى في غابة فأراد أن يفعل معصية فقال: لا يراني أحد ولا يعلم بي أحد.
فسمع هاتفاً يقول: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)).
وأوصى بعض الصالحين ابنه فقال: اتق ((الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)).
فهو لا تخفى عليه خافية.
أحد العباد اسمه حبيب بن محمد ، كان يبيع ويشتري، فكان يبيع الدرهم بالدرهمين.
فمر بالصبيان فقالوا: أنت حبيب المرابي.
فقال: سبحانك يا رب فضحتنا أمام الناس.
فتاب إلى الله من الربا ثم تصدق بأمواله.
فمر على الصبيان فقالوا: مرحباً بك يا أبا محمد.
قال: سبحانك أنت الذي تمدح وأنت الذي تذم.
وهذا كلام جيد، ويوصف به سبحانه وتعالى، فإن مدحه زين وذمه شيْن.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، معنى ذلك أنك إذا قدحت في مسمى التقوى الذي أوصى به رسوله صلى الله عليه وسلم فإن عليك أن تبادر بالعلاج.
قال علي كما ذكر ذلك الغزالي في الإحياء : [عجباً لكم، عندكم الداء والدواء.
قالوا: ما هو الدواء والداء؟
قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار].
ونحن عندنا دواء من صيدلية محمد صلى الله عليه وسلم ولكننا لم نستخدمه.
قال: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)، دل على ذلك القرآن.
قال المولى سبحانه: ((وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)).
يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل: (كيف تكون الجنة عرضها السموات والأرض؟
فأين النار؟
فقال: أين الليل إذا أتى النهار؟
) (1) . وهذا قياس صحيح.
ثم قال تعالى: ((إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا * مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ الله ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ الله سَمِيعًا بَصِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَالله أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالله وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا)).
وعن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: (أذنب عبد ذنباً فقال: يا رب أذنبت ذنباً فاغفر لي.
فغفر الله له.
ثم أذنب ذنباً فقال: يا ربي اغفر لي ذنوبي فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فغفر له.
فأذنب ذنباً فقال: يا رب اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
فقال الله: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا فليفعل عبدي ما شاء) (1) .
والمعنى عند أهل العلم حتى لا يفهم فهماً خاطئاً أنه إذا أذنب ثم استغفر فإنه سينجو، وليس معناه أنه أباح له تعالى المعصية.
وفي الترمذي والسنن حديث ليس بالقوي: (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة)، ومعناه صحيح لكن سنده ليس بالقوي (1) .
فإن العبد لو ارتكب ذنباً في يوم ثم استغفر وتاب على أن لا يعود غفر الله له.
ثم عاد ثم استغفر وتاب غفر الله له.
ثم عاد ثم استغفر وتاب غفر الله له.
وهكذا.
وقال حبيب بن الحارث : (يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: فأعود.
قال: تب إلى الله.
قال: إلى متى يا رسول الله؟
قال: حتى يكون الشيطان هو المدحور) (1) .
أما حديث: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) (1) . فقد رواه ابن ماجه وحسنه حافظ الدنيا ابن حجر بشواهده.
ومعناه صحيح، فإن تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له لأنه سيغفر له سبحانه.
ولذلك من الجهل أن يعير الإنسان الناس بذنوبهم إن كانت في الجاهلية، كرجل كان يشرب الخمر وكان مشهوراً ثم تاب وأناب وأصبح عبداً صالحاً.
فإذا أمر أو نهى قال: اسكت أنت كنت تشرب الخمر.
سبحان الله!
عمر بن الخطاب كان يعبد الصنم وهو أفضل من مسلمي الكرة الأرضية في هذا الوقت، ومع ذلك أصبح ثاني الخلفاء الراشدين لما تاب وأناب.
ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن واه راقع، فالسعيد من هلك على رقعه) (1) . رواه الطبراني في الصغير وفيه ضعف.
ومعنى الحديث أن دينه مثل القربة يخرقها بين الحين والآخر.
ولذلك قال ابن الجوزي : لا يخلو المؤمن من جروح، لكن الله الله أن لا تكون الجروح في الوجه!
وهذا تشبيه بذنوب العبد التي لا بد أن تصيبه.
فهو لا بد أنه يعالجها ويبدأ بالأهم منها.
وقوله: (فالسعيد من هلك على رقعه)، يعني أن من مات وهو راقع فهو السعيد.
أما من مات على وهيه وعلى خرقه فهذا المسكين.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) (1) . الحديث فيه مقال وسنده يقارب الحسن.
أما قوله -وهذا الشاهد-: (واغفروا يغفر لكم)، أي سامحوا الناس يسامح الله لكم، والجزاء من جنس العمل.
أما أقماع القول فهم الذين يستمعون القول فيكونون كالأقماع لا يستفيدون من الكلام.
وقال ابن عباس ولا يصح مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار) (1) .
والمعنى أن صاحب الكبيرة كلما استغفر وأناب وتاب غفر الله له.
وأن صاحب الصغيرة إذا أصر عليها وداوم عليها واستمر أصبحت كبيرة.
وورد في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (وصف صاحب الصغائر بقوم ذهبوا للخلاء فجمعوا حطباً صغيراً، فجمع هذا عوداً وهذا عوداً ثم أجّجوا ناراً عظيمة) (1) .
فالصغائر تجتمع على العبد حتى تهلكه والعياذ بالله.
وهاهنا مسائل في التوبة:
أولاً: شروط التوبة ثلاثة:
الأول: العزم على أن لا يعود إلى الذنب.
الثاني: الندم على ما كان من الذنب.
الثالث: رد حقوق الناس كالأموال والأراضي والممتلكات.
لأنه لا تصح التوبة بدون التخلص من حقوق الناس.
لأن حقوق الناس مبنية على المشاحة، وحقوق الله مبنية على المسامحة.
فأنت إذا أذنبت مع الله ملء الأرض وتبت إليه غفر لك.
وإذا أذنبت مع العبد فسوف يطلب حقه ولن يسامحك إلا القليل منهم.
قال الشعبي :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا ربي لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ثانياً: فضل التائبين:
قال ابن تيمية : أعظم المنازل منزلة التائبين.
وقد ختم الله حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا)). هل قال له: استبشر بالمنزلة العالية؟
هل قال له: ادخل الجنة؟
هل قال له: قصرك في الجنة كالربابة؟
لا. بل قال: ((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)).
إن جهدك كبير ولكن استغفر وتب، فالتوبة أعلى منزلة عند الله.
قال ابن تيمية : وختم رسول الله الصلاة بالاستغفار.
أي أنه يقول بعدها كما هو معلوم: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله.
وختم الله الحج بالاستغفار: ((ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ)).
أما فرح الله بالتائب فيكفي حديث: (لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم كان في فلاة فضاعت عليه ناقته وعليها طعامه وشرابه في الصحراء، فلما قام وجدها عند رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (1) .
فمن ظن أن الله يريد أن يعذب العبد فقد أساء الظن بربه.
بل الله رحيم يفرح بتوبة العبد.
ولذلك يخطئ كثير من الشباب الذين أسرفوا على أنفسهم عندما يظنون أن الله لا يغفر ذنوبهم وجرائمهم السابقة لهولها في أعينهم.
ونسوا أن الله تاب على القاتل الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل برغم عظم جرمه، ليبين لهم الله أنه الغفور الرحيم الذي لا يتعاظمه ذنب.
فواجبهم أن يتركوا تلك الوساوس التي صرفتهم عن الهداية والتوبة ويقدموا مسرعين لئلا يفوتهم قطار السعادة، وقطار التوبة الماضي في طريقه دون ملل أو كلل.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ وبصلي ركعتين ثم يستغفر الله من ذاك الذنب إلا غفر الله له)، ثم تلا: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)). (1) .
وتسمى هاتان الركعتان بركعتي التوبة، وهي ثابتة وصحيحة.
وأرشد إليها إخواني ممن فعل سيئة أو خطيئة، كبرت أو صغرت، أن يذهب إلى الماء فيتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله.
وفي الصحيحين : (أن رجلاً قال: يا رسول الله أصبت حدّاً فأقمه علي.
فسكت عنه صلى الله عليه وسلم.
فلما صلى صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: أين فلان؟
.
قال: ها أنا يا رسول الله.
قال: أصليت معنا؟
.
قال: نعم.
قال: اذهب فقد غفر الله لك ذنبك بصلاتك) (1) .
ومعنى الحديث: أن هذا الرجل عمل ذنباً ليس عليه فيه حد، وهو يظن أن عليه حداً كالزنا والقتل مثلاً.
فأخبره صلى الله عليه وسلم أن هذا الذنب تكفره الصلاة والتوبة.
وقيل: بل كان هذا الذنب قبل أن تنزل الحدود فجعل صلى الله عليه وسلم كفارته الصلاة، والله أعلم.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟
.
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الذنوب والخطايا) (1) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال بعض السلف: تحترقون تحترقون ثم تصلون فيكشف الله ما بكم.
وعند مسلم في الصحيح (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره) (1) . نسأل الله من فضله.
وهذا في الصغائر، أما أهل الكبائر فلا بد لهم من التوبة.
وعند مسلم في الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط) (1) .
وفي مسلم : (أن رجلاً من الأنصار كان بعيد الدار عن مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له أصحابه: لو اشتريت حماراً تركبه إلى المسجد في ذهابك وإيابك في الظلماء وفي الرمضاء.
قال: لا. إنني أسأل الله أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إلى أهلي.
فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: قد جمع الله لك ذلك كله) (1) .
وفي السنن: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) (1) .
وكان ابن عمر يقارب خطاه إذا ذهب إلى المسجد حتى كأنه نملة.
أما انتظار الصلاة بعد الصلاة، أي أنك إذا صليت انتظرت الصلاة التالية في المسجد.
والظاهر والله أعلم انتظارها بالقلب ومراعاة الوقت.
ذكر الإمام أحمد عن عدي بن حاتم في كتاب الزهد أنه قال: [ما دخلت علي الصلاة إلا وكنت لها بالأشواق].
فالصالحون دائماً مشغولون بوقت الصلاة: متى يؤذن؟
. هل أذن؟
وأحد السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظلّه: (رجل قلبه معلق بالمساجد) (1) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم مبيناً الركن الثالث من هذه الوصية: (وخالق الناس بخلقٍ حسن).
لما انتهى من حقوق الله عز وجل على عبده ذكر حقوق الناس عليه فقال: (وخالق الناس بخلق حسن).
والله ذكر الخلق الحسن وأصوله في القرآن كثيراً، كقوله سبحانه وتعالى في رسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)). ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)).
((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَالله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)). ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)). ((وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)). ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)). ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)).
وعند الترمذي وغيره قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟
أحاسنكم أخلاقاً) (1) . وفي رواية أخرى: (أكمل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطؤون كنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وليس منا من لا يألف ولا يؤلف) (1) .
والأكناف هي أطراف الشيء والأجنحة، أي يوطئونها للناس ويألفهم الناس.
وروى أحمد و أبو داود و ابن حبان : (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم) (1) . وهذا حديث حسن وهو صحيح المعنى. وروى أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن حبان : (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق) ثم ذكر: (وإن صاحب حسن الخلق يدرك درجة الصائم القائم) (1) .
وعند أبي داود بسند صحيح و الطبراني في الكبير قال المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
(أنا زعيم) والزعيم الوكيل، (أنا زعيم بيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) (1) .
وحسن الخلق عرفه الأئمة بأنه بسط الوجه، بأن لا تغضب، وأن تبتسم، وأن لا تكفهرّ.
يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر ما معناه: رأيت أناساً يتزمتون ويظهر عليهم العبوس، ويظهرون التعبد للناس، وإن القلوب لتنفر منهم.
ورأيت أناساً يتبسمون ويمزحون، وإن القلوب تطوف بهم، لأن الحب من الواحد الأحد وليس من الناس.
وحسن الخلق بذل الندى، وكف الأذى، وبسطة الوجه.
وعلى المسلم كذلك ألا يحوج الناس لسوء الخلق، فإن بعض الناس يحوجك إلى أن يسوء خلقك، إما بالإلحاح بالطلب، وإما بعدم معرفة الوقت المناسب، وإما أن يكثر عليك بالمسألة، وإما أن يدخل عليك بجلافة وبكلام فظ.
وقد غضب صلى الله عليه وسلم وهو معصوم لما اضْطرّ لذلك.
أسأل الله لي ولكم أن يجعلنا من المتقين التائبين الذين يتعاملون مع الناس بحسن الخلق.
والله أعلم، وصلّى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني
تعليق