مفهوم الحياة الطيبة
يقول أحد أذكياء الإنكليز: بإمكانك وأنت في السجن من وراء القضبان الحديدية أن تنظر إلى الأفق، وأن تخرج زهرة من جيبك فتشمها وتبتسم، وأنت مكانك، وبإمكانك وأنت في القصر على الديباج والحرير، أن تحتد وأن تغضب وأن تثور ساخطاً من بيتك وأسرتك وأموالك.
إذن السعادة ليست في الزمان ولا في المكان، ولكنها في الإيمان، وفي طاعة الديان، وفي القلب.
والقلب محل نظر الرب، فإذا استقر اليقين فيه، انبعثت السعادة، فأضفت على الروح وعلى النفس انشراحاً وارتياحاً، ثم فاضت على الآخرين، فصارت على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر.
أحمد بن حنبل عاش سعيداً، وكان ثوبه أبيض مرقعاً، يخيطه بيده، وعنده ثلاث غرف من طين يسكنها، ولا يجد إلا كسر الخبز مع الزيت، وبقي حذاؤه -كما قال المترجمون عنه- سبع عشرة سنة يرقعها ويخيطها، ويأكل اللحم في شهر مرة ويصوم غالب الأيام، يذرع الدنيا ذهاباً وإياباً في طلب الحديث ومع ذلك وجد الراحة والهدوء والسكينة والاطمئنان؛ لأنه ثابت القدم، مرفوع الهامة، عارف بمصيره، طالب لثواب، ساع لأجر، عامل لآخرة، راغب في جنة.
وكان الخلفاء في عهده -الذين حكموا الدنيا- المأمون، والواثق، والمعتصم، والمتوكل، عندهم القصور والدور والذهب والفضة والبنود والجنود، والأعلام والأوسمة والشارات والعقارات، ومعهم ما يشتهون، ومع ذلك عاشوا في كدر وقضوا حياتهم في هم وغم، وفي قلاقل وحروب وثورات وشغب وضجيج، وبعضهم كان يتأوه في سكرات الموت نادماً على ما فرط، وعلى ما فعل في جنب الله.
ابن تيمية شيخ الإسلام لا أهل ولا دار ولا أسرة ولا مال ولا منصب، عنده غرفة بجانب جامع بني أمية يسكنها، وله رغيف في اليوم، وله ثوبان يغير هذا بهذا، وينام أحياناً في المسجد، ولكن كما وصف نفسه: جنته في صدره، وقتله شهادة، وسجنه خلوة، وإخراجه من بلده سياحة؛ لأن شجرة الإيمان في قلبه استقامت على سوقها، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يمدها زيت العناية الربانية، ((يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ))، ((كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ))، ((وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ))، ((تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)).
خرج أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إلى الربذة ، فنصب خيمته هناك، وأتى بامرأته وبناته، فكان يصوم كثيراً من الأيام، يذكر مولاه، ويسبح خالقه، ويتعبد ويقرأ ويتلو ويتأمل، لا يملك من الدنيا إلا شملة أو خيمة، وقطعة من الغنم، مع صحفة وقصعة وعصا، زاره أصحابه ذات يوم، فقالوا: [أين الدنيا؟
قال: في بيتي ما أحتاجه من الدنيا، وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم أن أمامنا عقبة كؤوداً لا يجيزها إلا المخف].
كان منشرح الصدر، ومنثلج الخاطر، فعنده ما يحتاجه من الدنيا، أما ما زاد على حاجته، فأشغال وتبعات وهموم وغموم.
قلت في قصيدة بعنوان: أبو ذر في القرن الخامس عشر، متحدثاً عن غربة أبي ذر وعن سعادته، وعن وحدته وعزلته، وعن هجرته بروحه ومبادئه، وكأنه يتحدث عن نفسه:
إذن فما هي السعادة؟
(كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فطوبى للغرباء).
ليست السعادة قصر عبد الملك بن مروان ، ولا جيوش هارون الرشيد ، ولا دور ابن الجصاص ، و لا كنوز قارون ، ولا في كتاب الشفاء لـابن سينا ، ولا في ديوان المتنبي ، ولا في حدائق قرطبة ، أو بساتين الزهراء .
السعادة عند الصحابة مع قلة ذات اليد، وشظف المعيشة، وزهادة الموارد، وشح النفقة.
السعادة عند ابن المسيب في تألهه، وعند البخاري في صحيحه، وعند الحسن البصري في صدقه، ومع الشافعي في استنباطاته، و مالك في مراقبته، و أحمد في ورعه، و ثابت البناني في عبادته
((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)).
ليست السعادة شيكاً يصرف، ولا دابة تشترى، ولا وردة تشم، ولا براً يكال ولا بزاً ينشر.
السعادة سلوة خاطر بحق يحمله، وانشراح صدر لمبدأ يعيشه، وراحة قلب لخيريكتنفه.
كنا نظن أننا إذا أكثرنا من التوسع في الدور، وكثرة الأشياء، وجمع المسهلات والمرغبات والمشتهيات، أننا نسعد ونفرح ونمرح ونسر، فإذا هي سبب الهم والكدر والتنغيص؛ لأن كل شيء بهمه وغمه وضريبة كده وكدحه ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)).
إن أكبر مصلح في العالم رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، عاش فقيراً، يتلوى من الجوع، لا يجد دقل التمر يسد جوعه، ومع ذلك عاش في نعيم لا يعلمه إلا الله، وفي انشراح وارتياح وانبساط واغتباط، وفي هدوء وسكينة ((وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ))، ((وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا))، ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)).
في الحديث الصحيح: (البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
إن البر راحة للضمير، وسكون للنفس، حتى قال بعضهم:
وفي الحديث: (البر طمأنينة والإثم ريبة).
إن المحسن صراحة يبقى في هدوء وسكينة، وإن المريب يتوجس من الأحداث والخطرات ومن الحركات والسكنات ((يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ)).
والسبب أنه أساء فحسب، فإن المسيء لا بد أن يقلق وأن يرتبك وأن يضطرب، وأن يتوجس خيفة:
والحل لمن أراد السعادة، أن يحسن دائماً، وأن يتجنب الإساءة ليكون في أمن ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)).
أقبل راكب يحث السير، يثور الغبار من على رأسه، يريد سعد بن أبي وقاص وقد ضرب سعد خيمته في كبد الصحراء، بعيداً عن الضجيج، بعيداً عن اهتمامات الدهماء، منفرداً بنفسه وأهله في خيمته، معه قطيع من الغنم، فاقترب الراكب فإذا هو ابنه عمر فقال ابنه له: يا أبتاه، الناس يتنازعون الملك وأنت ترعى غنمك. قال: أعوذ بالله من شرك، إني أولى بالخلافة مني بهذا الرداء الذي علي، ولكن سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي).
إن سلامة المسلم بدينه أعظم من ملك كسرى و قيصر ؛ لأن الدين هو الذي يبقى معك حتى تستقر في جنات النعيم، وأما الملك والمنصب فإنه زائل لا محالة ((إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ)). والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني
تعليق