سارة بنت محمد حسن
...
جلست طالبة العلم تفكر:
عندي وِرْد مراجعة..
ووِرد قراءة..
آه؛ ثلاثةُ أجزاء قليلةٌ، لكن ما باليد حيلة..
وِرْدُ مراجعةٍ.. سأكتفي بجزء مع الأسف..
وَوِرد حفظِ متونٍ.. متن "الشاطبيَّة".. متن "الموقظة" اليوم، وغدا متن "النونية"..
آه؛ لا تنسَيْ تحضير محاضرة الغد التي ستلقيها في المسجد.. ولديك كذلك موعد مع أخوات بعد غد للتسميع..!
اممممم.. نَسيتِ شيئًا؟!!
آه؛ نَعَم..
لديَّ خمس مواد في المعهد العلمي.. أف.. لا بد مِن تقسيمها على الوقت المتبقِّي..
لقدِ اقتربت الاختبارات..
آه؛ اكتبي.. لا تنسَي الأذكار..!!
- تررررن!! تررررن!!
ترد على الجوال:
زَوجِي العزيز.. السلام عليكم!!
خيرٌ؟!
ستحضر مع صلاة المغرب؟
اممممم.. حسنًا..
ماذَا؟! لا أنسي كيَّ القميص؟!
لا، يا عزيزي، لا وقت لدي اليوم..!
الأولاد؟
نائمون.. الحمد لله!
هه هه هه هه..
لا، منشغلة بسبب التحضير.. لا تنسَ أنني طالبةُ علمٍ!
الزوج يدخل بعد صلاة المغرب:
(الأخت جالسة مع الأولاد، وفي يدها كتيِّبٌ تردِّد متْنًا ما لم يتبيَّنْه)
- البيت؟! رائع!! ليس هناك شيء في مكانه!!!
نظر إليها:
- حبيبتي، لماذا يبدو البيت بِهذا الشكل المزري؟!!
نظرت إليه مستنكرة:
- كان لدي الكثير من العمل، وأنت ترى الأولاد وما يفعلون.. إنهم لا يتركون البيت نظيفًا أبدًا.. يكفيني أنَّني عَمِلْت الطعام.. هذه الأمور تستهلك الكثير من الوقت والجهد..!!
سكتَ الزوج على مَضَضٍ:
- حَسنًا، هل سنأكل؟!
ابتسمت في عجالة:
- لا، ستأكل وحدَكَ.. لقد أكلت سريعًا.. ليس لدي وقت كما ترى!!
(نام الأولاد، وتعشَّى الزوج، ثم دخل لينام، واندسَّت طالبة العلم النجيبة في فراشها.. دنا منها فلم تستجب.. ألح.. ففتَحَت عينها وهي تبتسم)
- ليس لدي وقت اليوم ألم نتَّفِق أن موعدنا في الجمعة؟! معظم الشيوخ ينتقدون الإكثار من هذه الأمور، كما أنَّك ستضيِّع على القيامَ..!!
(بهت الزوج من قولها، ونام مغضبًا)
كان هذا الحال هو الغالب على الأسرة منذ أن قرَّرت الأخت طلب العلم..
مرَّ الآن شهران، وطالبة العلم لا تَزداد إلا حماسةً في الطلب.. تقضي الأوقات أمام الكتب أو النت.. تؤخر الصلاة طبعًا لتنهي بَحثًا أو لتُنْهِيَ مُذاكرة مادَّة أو تحضر درسًا، وماذا في هذا.. أليس طلب العلم مقدَّمًا على كل شيء؟!
الأولاد.. إهمال بالطبع
اممممم مَن قال هذا؟!! أنا أؤكِّلُهم، وأشرِّبُهم أفضَلَ الأطعِمَة والأشربة!!
هناك شيخٌ يأتي لتحفيظهم القرآن..
ماذا يريدون أكثر من هذا؟!!
ماذا يفعل الأولاد باقي الوقت؟!
نعم، نعم، يقْضونه أمام التلفاز قناة المجد للأطفال.. قناة سبيس تون.. والجزيرة للأطفال..
ونِعْمَ التربيَة!!
الزوج.. يصبر طبعًا، ويترفَّق في النصيحة
- لعل الله أن يَهدِيَها!!
حينما تتعلم العلم الشرعي ستفهم..
لكن لا حياة لمن تنادي..
الأخت منطلقة كالسهم في مسيرتها العلمية..
شهر كامل والأسرة على هذا الحال من الإهمال..
قليلاً ما تؤنِّبُها نفسها على إهمالها لأولادها..
وزوجها يؤنِّبُها..
لكن..
- أنا أحتسِب ذلك عند الله.. الله سيصلح أحوال أولادي بطلبي للعلم وتعليمي الناس!!
حتى كان ذلك اليوم..
فماذا حدث في ذلك اليوم؟
في هذا اليوم..
أصرَّ الزَّوج على اصطحابِها معه لزيارة تعارُف مع زميل له في العمل..
زميل ملتزم، وله زوجة ملتزمة..
كانت ترتجف من الغضب..
لقد أجبرها على الذهاب..
وكانت تُريد أن تقرأ كتابًا جديدًا..
العلم عندها ليس مجرد عمل تعمله..
إنه شهوة..!
لا تستطيع التوقف..
ذهبت..
- عجبًا؛ كيف يعيش الإنسان وهو يضيع أوقاته بهذه الطريقة.. دعوات، وزيارات؟!!!
وخرجتْ من الزيارة، وقد علمت فداحة ما تفعله..
- ما أحمقَ ما كنت فيه!! ليتني أستطيع التغيير!!
ماذا حدث في تلك الزيارة؟
دخلت الأخت طالبة العلم، وسلَّمت بتحية الإسلام..
جلست وهي تتصنَّع الابتسامة..
أخذتْ تُمعن النظر في مضيفَتِها..
اممممم.. إنَّها هي.. تلك الداعية بمسجد.. كانت تدَرِّس هناك من زمن بعيد..
وجاءت بنات المضيفة..
ست بنات في أعمار مختلفة..
أكبرهن في مثل عمرها..
سألَتْها في فضول..
ألسْتِ أنتِ فلانة التي كنتِ تدرِّسِين بمسجد..؟!!
ابتسمت الأختُ المضيفة..
- نَعَم..
- ولماذا تركتِه؟! هل لك أنشطة أخرى الآن؟!
ابتسمت الأخت المضيفة:
- طيب.. نقوم بواجب الضيافة أولاً..
ثم همسَت في أذن ابنتِها، فقامت..
- تركته منذ زمن؛ لأنه كان من الصعب التوفيق بين البيت والأولاد، وكثرة الخروج والمسؤولية عن مسجد..
قاطعتها طالبة العلم:
- وماذا في هذا؟! معظم الأخوات يذهبن إلى المساجد، ويتركن أولادهن في دور الحضانة، ولا يصح أبدًا أن نترك الدعوة وطلب العلم من أجل الأولاد، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، ولا ينبغي أبدًا أن يطغى حبُّ الأولاد على حب الله تعالى..!
اتسعت ابتسامة الداعية:
- وهل تنحصر محبة الله في الدعوة في المساجد؟!!
- بالطبع لا، لكنه باب فتح لك وأنت أغلَقْتِهِ..
- أختي، كثيرات ممكن أن يحلُّوا مَحَلِّي في المسجد.. كثير من الدعاة يظهرون بالتلفاز.. الكتب والأشرطة في كل مكان.. لكنْ: هل هناك أحد يمكن أن يحل محلي في بيتي وأبنائي وزوجي؟!!
سكتت طالبة العلم برهةً ثم انبَرَت:
- أنَتْرُك طلب العلم إذًا، ونَجلس في البيت نطبخ ونصرخ في الأولاد؟! ليس لنا همٌّ إلا انتظار الأزواج.. نعيش عيشة الأنعام؟!!
افتَرَّ ثغر الدعية عن ابتسامة لطيفة:
- أختي، مَن قال: إن هذا هو المطلوب؟!
اليومَ حين أنظر لبناتي، وهن خاتماتٌ لكتاب الله تعالى..
وقد علَّمتُهن "أنا": كيف يتلونَ القرآن؟
وحفظتهن البخاري ومسلم..
ورسخْنَ في السيرة والقصص..
أما عن المتون، فحدِّثي ولا حَرَجَ ما شاء الله، يحفظن كل ما سمعتِ اسْمَه من المتون..
ولو سألتِ إحداهن عن مسألة فقهية أو عقدية لأجادت الشرح والتأصيل..
وصغرى بناتي تتعلم اليوم القراءات، وكبراهن إن سألتِها عن حديث أخرجَت لك طُرُقه، ووصفَت لك درجتَه..
وأما ثقافتهن وعلومهن الدنيوية، فمنهنَّ الطبيبة ومنهن المعلِّمة..
وأسأل الله العظيم كما أعانني على هذا العمل الطيب أن يرزقني أجرَ ذلك!!
تخيلي، أختي..!
أنا تركت المسجد في هذا الزمن لأجعل من بيتي مسجدًا لبناتي..
كنت أرضع ابنتي وفي يدي المصحف أقرأ.. وهي ترضع!!
كانت تقلق نومي ليلاً؛ فأقوم بين كل نومة لها، وأخرى فأصلي ركعتين خفيفتين، وأستغفر ربي على تقصيري في العبادة الراتبَة؛ فهو سبحانه مَن أمَرَني بعبادته بتربية أولادي..
كانت ابنتي تبكي، فأحملها بين يدي، وأنا أصلي؛ كي لا أضيع السنن، وأكثر من الاستغفار والدعاء والتسبيح، ولما بدأت ابنتي النطق علمتها كلمة التوحيد وسورة الإخلاص، وظهَرَت النبتة الطيبة.. أسقيها بماء القرآن..
فصارت {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار}..
وقد تركت مسجدًا واحدًا يومئذ، والآن يمكنني أن أفتح 6 مساجدَ..
تخيلي..!
هذه هي الصدقة الجارية..
هذا هو العلم الذي ينتفع به..
فلكل مسلم في كل وقت عبادة..
وأنا عبادتي كانت تربية بناتي، وحسن تبعُّلِي لزوجي..
وربي سيحاسبني عليها..
تخاذلت طالبة العلم:
- وطلبُ العلم؟!تمت
ُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه، ومَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ((ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة))، فمن شاء الجنة فليبدأ بالفروض، وليغتنم الأوقات، أما ترجيح طلب العلم وتعليمه على الفروض، فهذا من باب عبادة الهوى، وهي مدخل الشيطان..
سكتت طالبة العلم قليلاً، وبعدها:
- لكني الآن أشعر بالانهيار.. أنت أوقعتِني في حيرة.. كنت أطلب العلم، وأحتسب عند الله ما يحدث في بيتي من إهمال..!!
أشرق وجه الداعية:
- أتعلَمِين، أختي، لو لم يرد الله بك خيرًا ما أسْمَعَك الحقَّ؛ فأنا لا أقول: لا تطلبي العلم نهائيًّا، بل اطلبيه مع أولادك..!
نظرت لها الطالبة بدهشة:
- كيف؟!!
- تذاكرين عقيدة، ذاكري معهم.. تقرئين السيرة، اقرئي معهم.. تريدين أن تحفظي متنًا من المتون مثلاً، اجلسي مع أبنائك، وقولي لهم: تعالَوا نَحفَظْ هذا المتن، وردِّديه معهم واجعليهم يردِّدون معكِ..!
استنكرت طالب العلم:
- لكنَّهم صغار!!
- وهذا سبب فساد الأمة.. إننا نظن أن أولادنا صغار، وسيظلون صغارًا.. دورك، أختي، أن تجعليهم كبارًا.. سيحفظون معك، وستجدي نتائج مبهرة لم تكوني تتوقعينَها.. إنهم يفهمونك، وسيشعرون باهتمامك وتقديرك لهم، وعندهم حافظة قوية، لكنَّ عليك أيضًا أن تجعلي لهم من وقتك وقتًا خاصًّا باللَّعِب، وانتقي اللُّعَب المفيدة.. كل لُعبة من ورائها هدف ورسالة، واجعلي همَّك أن يختم أبناؤك القرآن قبل أي شيء.. اجعلي لهم من وقتك وقتًا تفكرين فيهم.. تضعين لهم المناهج.. تنتقين لهم ما يصلح لهم، وتفكرين في طرق توصيل المعلومات لهم والألعاب والقصص التي تجذبهم حولك.. باختصار: اجعليهم أول همومك، وأهمَّها.. ستقرئين معهم السيرة والعقيدة، بل ستتعلمين معهم: كيف تطبقين ما تعلَّمتِ؟ لأنهم سيسألونك عن أشياء لم تفكري يومًا فيها، ولم تشغلي بالك بها.. أشياء في العمل والاعتقاد.. مسائل تعلَّمتِها نظريًّا.. سيسألونك ببراءة عنها حسيًّا وعمليًّا، وستعلمين وقتها معنى العمل..!!
- لا أستطيع تخيُّل ما تقولين..!
ابتسمت الداعية:
- ونصيحتي.. لا تتخيليها.. طبقيها.. انظري: إذا أردت أن تعلِّمِي ابنتك الصلاة سترغبين في العودة إلى مراجِعِك.. ستتذكرين الدليل والأذكار التي نسيتِها.. ستسألك عن معنى بعض الكلمات التي لا تعرفينَها.. ستبحثين، ويبدأ التدبُّر، وستقولين لها: الخشوعَ في الصلاة؛ فتقول لك: ما معني (خشوع)؟ ستجهدين ذهنك في التعبير عن معنى الخشوعِ الذي تركته منذ زمن في صلاتك.. إنَّ هذا ما حدث معي! وعندما تعبرين لها عن الخشوع ستجدين قلبك يرِق لله تعالى.. حينما تسألك عن صفات الله، ولا تستطيعين أن تشرحي لها الكلام النظري الذي درسته، فستبسِّطِينَه لها حتى تَفهَمِيه أنت، بل حتى يشربه قلبك.. تتحدثين عن عظمة الله.. عن قوة الله.. عن قدرة الله.. عن محبة الله، وبهذا تكونين على ثغر من ثغور الطلب لا يدركه إلا العلماء.. تطلبين من العلم ما تعملين به لا ما تتعالَمِين به..!
كانت تتحدث ودموع طالبة العلم تسيل على خدها!!
- يا الله، كم أنا بعيدة، "لو تخيلت قرب الأحبة، لأقمت المآتم على بعدك"!! (ابن القيم)
ثم استدركت الداعية:
- وأهم من ذلك أن تربيتك لأولادك فرض عين عليك، فلا ينبغي أن توكلي فروضك لغيرك من مربية وخادمة ومعلمة، بل وتلفاز، وإلا كنت من المقصرين إذا أردت أن يشاهد أولادك شيئًا أو يقرؤوا شيئًا أو يسمعوا شيئًا.. فيجب أن تسبقيهم وتشاركيهم ذلك رقابةً منك على سمعهم وأبصارهم، واستخدمي علمك وفِطرَتك للحُكْم على ذلك، وليتعلَّموا أنَّ أمَّهم معهم تُشاركهم وتستمتِع معهم وتناقشهم، والأهم من ذلك تعلمهم، فما فسدت البيوت إلا لما احتقر الأولاد الأم؛ لأنها ليست هي المعلمة والموجهة، بل صارت واهنة وضعيفة؛ لأنها قدمت ملذاتها على بيتها، ولم تحكم فيها شرع الله.. لا تتركيهم يعملون الحرام لأنهم صغار.. فهِّمِيهم معنى الدين، وهناك أمر آخر..!!
- وما هو؟!!
ابتسمت الداعية:
- زوجك.. لا بد أن يكون بيتك بيت أسرة دافئة.. تربين أولادك، وتكونين لزوجك نِعْمَ الزوجة الحنون التي تقيه الفتن؛ تقفين عند أوامره.. تكونين له نعم الأنيس والجليس، ولماذا لا يكون الأزواج المسلمين عشاقًا؟!!
قرعَت الكلمة أذن طالبة العلم كمطرقة:
- عُشَّاقًا؟!!
ضحكت الداعية:
- نعم، عشاقًا.. ترسلين له باقة من الزهور الحمراء و(كارت) معطرًا، وتقولين له: أحبُّك في الله، يا زوجي الحبيبُ.. ترسُمين له قلوبًا حمراء، وتعلقينها فوق فراشِكُما.. تحادثينَه في الهاتف لتسألِي عنه (بدون طلبات).. هل نترك هذه المباحات التي تثري البيت المسلم، وتَجعل الأبناء يشبُّون في حضن دافئ محب؟!! هل نتركها لأهل الحرام يستمتعون بها في الحرام؟!!
- لا، ما أحسَنَ ما تقولين!!
- العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، ولا تيأسي، ولا تقولي: زوجي جاف المشاعر (فضحِكَت).. إن كان هو جاف، فأنت بإمكانك - بعون الله - أن تسقيه حتى يصير تربة خصبة تزرعين فيها ما شئتِ، ولا تنسَي الدعاء ثم الدعاء والتذلل لله تعالى؛ فكل هذا في موازين حسناتك يوم القيامة إن شاء الله تعالى..!
- الله المستعانُ..!
انصرفت من عند الداعية:
- اللهمَّ، أصلح حالي كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين!!
وقد لاحظ زوجها الفرق..
فهل يشعر أزواجنا بالفرق حقًّا؟!!
منقوووول
اسألكم الدعاء
...
جلست طالبة العلم تفكر:
عندي وِرْد مراجعة..
ووِرد قراءة..
آه؛ ثلاثةُ أجزاء قليلةٌ، لكن ما باليد حيلة..
وِرْدُ مراجعةٍ.. سأكتفي بجزء مع الأسف..
وَوِرد حفظِ متونٍ.. متن "الشاطبيَّة".. متن "الموقظة" اليوم، وغدا متن "النونية"..
آه؛ لا تنسَيْ تحضير محاضرة الغد التي ستلقيها في المسجد.. ولديك كذلك موعد مع أخوات بعد غد للتسميع..!
اممممم.. نَسيتِ شيئًا؟!!
آه؛ نَعَم..
لديَّ خمس مواد في المعهد العلمي.. أف.. لا بد مِن تقسيمها على الوقت المتبقِّي..
لقدِ اقتربت الاختبارات..
آه؛ اكتبي.. لا تنسَي الأذكار..!!
- تررررن!! تررررن!!
ترد على الجوال:
زَوجِي العزيز.. السلام عليكم!!
خيرٌ؟!
ستحضر مع صلاة المغرب؟
اممممم.. حسنًا..
ماذَا؟! لا أنسي كيَّ القميص؟!
لا، يا عزيزي، لا وقت لدي اليوم..!
الأولاد؟
نائمون.. الحمد لله!
هه هه هه هه..
لا، منشغلة بسبب التحضير.. لا تنسَ أنني طالبةُ علمٍ!
الزوج يدخل بعد صلاة المغرب:
(الأخت جالسة مع الأولاد، وفي يدها كتيِّبٌ تردِّد متْنًا ما لم يتبيَّنْه)
- البيت؟! رائع!! ليس هناك شيء في مكانه!!!
نظر إليها:
- حبيبتي، لماذا يبدو البيت بِهذا الشكل المزري؟!!
نظرت إليه مستنكرة:
- كان لدي الكثير من العمل، وأنت ترى الأولاد وما يفعلون.. إنهم لا يتركون البيت نظيفًا أبدًا.. يكفيني أنَّني عَمِلْت الطعام.. هذه الأمور تستهلك الكثير من الوقت والجهد..!!
سكتَ الزوج على مَضَضٍ:
- حَسنًا، هل سنأكل؟!
ابتسمت في عجالة:
- لا، ستأكل وحدَكَ.. لقد أكلت سريعًا.. ليس لدي وقت كما ترى!!
(نام الأولاد، وتعشَّى الزوج، ثم دخل لينام، واندسَّت طالبة العلم النجيبة في فراشها.. دنا منها فلم تستجب.. ألح.. ففتَحَت عينها وهي تبتسم)
- ليس لدي وقت اليوم ألم نتَّفِق أن موعدنا في الجمعة؟! معظم الشيوخ ينتقدون الإكثار من هذه الأمور، كما أنَّك ستضيِّع على القيامَ..!!
(بهت الزوج من قولها، ونام مغضبًا)
كان هذا الحال هو الغالب على الأسرة منذ أن قرَّرت الأخت طلب العلم..
مرَّ الآن شهران، وطالبة العلم لا تَزداد إلا حماسةً في الطلب.. تقضي الأوقات أمام الكتب أو النت.. تؤخر الصلاة طبعًا لتنهي بَحثًا أو لتُنْهِيَ مُذاكرة مادَّة أو تحضر درسًا، وماذا في هذا.. أليس طلب العلم مقدَّمًا على كل شيء؟!
الأولاد.. إهمال بالطبع
اممممم مَن قال هذا؟!! أنا أؤكِّلُهم، وأشرِّبُهم أفضَلَ الأطعِمَة والأشربة!!
هناك شيخٌ يأتي لتحفيظهم القرآن..
ماذا يريدون أكثر من هذا؟!!
ماذا يفعل الأولاد باقي الوقت؟!
نعم، نعم، يقْضونه أمام التلفاز قناة المجد للأطفال.. قناة سبيس تون.. والجزيرة للأطفال..
ونِعْمَ التربيَة!!
الزوج.. يصبر طبعًا، ويترفَّق في النصيحة
- لعل الله أن يَهدِيَها!!
حينما تتعلم العلم الشرعي ستفهم..
لكن لا حياة لمن تنادي..
الأخت منطلقة كالسهم في مسيرتها العلمية..
شهر كامل والأسرة على هذا الحال من الإهمال..
قليلاً ما تؤنِّبُها نفسها على إهمالها لأولادها..
وزوجها يؤنِّبُها..
لكن..
- أنا أحتسِب ذلك عند الله.. الله سيصلح أحوال أولادي بطلبي للعلم وتعليمي الناس!!
حتى كان ذلك اليوم..
فماذا حدث في ذلك اليوم؟
في هذا اليوم..
أصرَّ الزَّوج على اصطحابِها معه لزيارة تعارُف مع زميل له في العمل..
زميل ملتزم، وله زوجة ملتزمة..
كانت ترتجف من الغضب..
لقد أجبرها على الذهاب..
وكانت تُريد أن تقرأ كتابًا جديدًا..
العلم عندها ليس مجرد عمل تعمله..
إنه شهوة..!
لا تستطيع التوقف..
ذهبت..
- عجبًا؛ كيف يعيش الإنسان وهو يضيع أوقاته بهذه الطريقة.. دعوات، وزيارات؟!!!
وخرجتْ من الزيارة، وقد علمت فداحة ما تفعله..
- ما أحمقَ ما كنت فيه!! ليتني أستطيع التغيير!!
ماذا حدث في تلك الزيارة؟
دخلت الأخت طالبة العلم، وسلَّمت بتحية الإسلام..
جلست وهي تتصنَّع الابتسامة..
أخذتْ تُمعن النظر في مضيفَتِها..
اممممم.. إنَّها هي.. تلك الداعية بمسجد.. كانت تدَرِّس هناك من زمن بعيد..
وجاءت بنات المضيفة..
ست بنات في أعمار مختلفة..
أكبرهن في مثل عمرها..
سألَتْها في فضول..
ألسْتِ أنتِ فلانة التي كنتِ تدرِّسِين بمسجد..؟!!
ابتسمت الأختُ المضيفة..
- نَعَم..
- ولماذا تركتِه؟! هل لك أنشطة أخرى الآن؟!
ابتسمت الأخت المضيفة:
- طيب.. نقوم بواجب الضيافة أولاً..
ثم همسَت في أذن ابنتِها، فقامت..
- تركته منذ زمن؛ لأنه كان من الصعب التوفيق بين البيت والأولاد، وكثرة الخروج والمسؤولية عن مسجد..
قاطعتها طالبة العلم:
- وماذا في هذا؟! معظم الأخوات يذهبن إلى المساجد، ويتركن أولادهن في دور الحضانة، ولا يصح أبدًا أن نترك الدعوة وطلب العلم من أجل الأولاد، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ}، ولا ينبغي أبدًا أن يطغى حبُّ الأولاد على حب الله تعالى..!
اتسعت ابتسامة الداعية:
- وهل تنحصر محبة الله في الدعوة في المساجد؟!!
- بالطبع لا، لكنه باب فتح لك وأنت أغلَقْتِهِ..
- أختي، كثيرات ممكن أن يحلُّوا مَحَلِّي في المسجد.. كثير من الدعاة يظهرون بالتلفاز.. الكتب والأشرطة في كل مكان.. لكنْ: هل هناك أحد يمكن أن يحل محلي في بيتي وأبنائي وزوجي؟!!
سكتت طالبة العلم برهةً ثم انبَرَت:
- أنَتْرُك طلب العلم إذًا، ونَجلس في البيت نطبخ ونصرخ في الأولاد؟! ليس لنا همٌّ إلا انتظار الأزواج.. نعيش عيشة الأنعام؟!!
افتَرَّ ثغر الدعية عن ابتسامة لطيفة:
- أختي، مَن قال: إن هذا هو المطلوب؟!
اليومَ حين أنظر لبناتي، وهن خاتماتٌ لكتاب الله تعالى..
وقد علَّمتُهن "أنا": كيف يتلونَ القرآن؟
وحفظتهن البخاري ومسلم..
ورسخْنَ في السيرة والقصص..
أما عن المتون، فحدِّثي ولا حَرَجَ ما شاء الله، يحفظن كل ما سمعتِ اسْمَه من المتون..
ولو سألتِ إحداهن عن مسألة فقهية أو عقدية لأجادت الشرح والتأصيل..
وصغرى بناتي تتعلم اليوم القراءات، وكبراهن إن سألتِها عن حديث أخرجَت لك طُرُقه، ووصفَت لك درجتَه..
وأما ثقافتهن وعلومهن الدنيوية، فمنهنَّ الطبيبة ومنهن المعلِّمة..
وأسأل الله العظيم كما أعانني على هذا العمل الطيب أن يرزقني أجرَ ذلك!!
تخيلي، أختي..!
أنا تركت المسجد في هذا الزمن لأجعل من بيتي مسجدًا لبناتي..
كنت أرضع ابنتي وفي يدي المصحف أقرأ.. وهي ترضع!!
كانت تقلق نومي ليلاً؛ فأقوم بين كل نومة لها، وأخرى فأصلي ركعتين خفيفتين، وأستغفر ربي على تقصيري في العبادة الراتبَة؛ فهو سبحانه مَن أمَرَني بعبادته بتربية أولادي..
كانت ابنتي تبكي، فأحملها بين يدي، وأنا أصلي؛ كي لا أضيع السنن، وأكثر من الاستغفار والدعاء والتسبيح، ولما بدأت ابنتي النطق علمتها كلمة التوحيد وسورة الإخلاص، وظهَرَت النبتة الطيبة.. أسقيها بماء القرآن..
فصارت {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّار}..
وقد تركت مسجدًا واحدًا يومئذ، والآن يمكنني أن أفتح 6 مساجدَ..
تخيلي..!
هذه هي الصدقة الجارية..
هذا هو العلم الذي ينتفع به..
فلكل مسلم في كل وقت عبادة..
وأنا عبادتي كانت تربية بناتي، وحسن تبعُّلِي لزوجي..
وربي سيحاسبني عليها..
تخاذلت طالبة العلم:
- وطلبُ العلم؟!تمت
ُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه، ومَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ((ألا إن سلعة الله غالية.. ألا إن سلعة الله الجنة))، فمن شاء الجنة فليبدأ بالفروض، وليغتنم الأوقات، أما ترجيح طلب العلم وتعليمه على الفروض، فهذا من باب عبادة الهوى، وهي مدخل الشيطان..
سكتت طالبة العلم قليلاً، وبعدها:
- لكني الآن أشعر بالانهيار.. أنت أوقعتِني في حيرة.. كنت أطلب العلم، وأحتسب عند الله ما يحدث في بيتي من إهمال..!!
أشرق وجه الداعية:
- أتعلَمِين، أختي، لو لم يرد الله بك خيرًا ما أسْمَعَك الحقَّ؛ فأنا لا أقول: لا تطلبي العلم نهائيًّا، بل اطلبيه مع أولادك..!
نظرت لها الطالبة بدهشة:
- كيف؟!!
- تذاكرين عقيدة، ذاكري معهم.. تقرئين السيرة، اقرئي معهم.. تريدين أن تحفظي متنًا من المتون مثلاً، اجلسي مع أبنائك، وقولي لهم: تعالَوا نَحفَظْ هذا المتن، وردِّديه معهم واجعليهم يردِّدون معكِ..!
استنكرت طالب العلم:
- لكنَّهم صغار!!
- وهذا سبب فساد الأمة.. إننا نظن أن أولادنا صغار، وسيظلون صغارًا.. دورك، أختي، أن تجعليهم كبارًا.. سيحفظون معك، وستجدي نتائج مبهرة لم تكوني تتوقعينَها.. إنهم يفهمونك، وسيشعرون باهتمامك وتقديرك لهم، وعندهم حافظة قوية، لكنَّ عليك أيضًا أن تجعلي لهم من وقتك وقتًا خاصًّا باللَّعِب، وانتقي اللُّعَب المفيدة.. كل لُعبة من ورائها هدف ورسالة، واجعلي همَّك أن يختم أبناؤك القرآن قبل أي شيء.. اجعلي لهم من وقتك وقتًا تفكرين فيهم.. تضعين لهم المناهج.. تنتقين لهم ما يصلح لهم، وتفكرين في طرق توصيل المعلومات لهم والألعاب والقصص التي تجذبهم حولك.. باختصار: اجعليهم أول همومك، وأهمَّها.. ستقرئين معهم السيرة والعقيدة، بل ستتعلمين معهم: كيف تطبقين ما تعلَّمتِ؟ لأنهم سيسألونك عن أشياء لم تفكري يومًا فيها، ولم تشغلي بالك بها.. أشياء في العمل والاعتقاد.. مسائل تعلَّمتِها نظريًّا.. سيسألونك ببراءة عنها حسيًّا وعمليًّا، وستعلمين وقتها معنى العمل..!!
- لا أستطيع تخيُّل ما تقولين..!
ابتسمت الداعية:
- ونصيحتي.. لا تتخيليها.. طبقيها.. انظري: إذا أردت أن تعلِّمِي ابنتك الصلاة سترغبين في العودة إلى مراجِعِك.. ستتذكرين الدليل والأذكار التي نسيتِها.. ستسألك عن معنى بعض الكلمات التي لا تعرفينَها.. ستبحثين، ويبدأ التدبُّر، وستقولين لها: الخشوعَ في الصلاة؛ فتقول لك: ما معني (خشوع)؟ ستجهدين ذهنك في التعبير عن معنى الخشوعِ الذي تركته منذ زمن في صلاتك.. إنَّ هذا ما حدث معي! وعندما تعبرين لها عن الخشوع ستجدين قلبك يرِق لله تعالى.. حينما تسألك عن صفات الله، ولا تستطيعين أن تشرحي لها الكلام النظري الذي درسته، فستبسِّطِينَه لها حتى تَفهَمِيه أنت، بل حتى يشربه قلبك.. تتحدثين عن عظمة الله.. عن قوة الله.. عن قدرة الله.. عن محبة الله، وبهذا تكونين على ثغر من ثغور الطلب لا يدركه إلا العلماء.. تطلبين من العلم ما تعملين به لا ما تتعالَمِين به..!
كانت تتحدث ودموع طالبة العلم تسيل على خدها!!
- يا الله، كم أنا بعيدة، "لو تخيلت قرب الأحبة، لأقمت المآتم على بعدك"!! (ابن القيم)
ثم استدركت الداعية:
- وأهم من ذلك أن تربيتك لأولادك فرض عين عليك، فلا ينبغي أن توكلي فروضك لغيرك من مربية وخادمة ومعلمة، بل وتلفاز، وإلا كنت من المقصرين إذا أردت أن يشاهد أولادك شيئًا أو يقرؤوا شيئًا أو يسمعوا شيئًا.. فيجب أن تسبقيهم وتشاركيهم ذلك رقابةً منك على سمعهم وأبصارهم، واستخدمي علمك وفِطرَتك للحُكْم على ذلك، وليتعلَّموا أنَّ أمَّهم معهم تُشاركهم وتستمتِع معهم وتناقشهم، والأهم من ذلك تعلمهم، فما فسدت البيوت إلا لما احتقر الأولاد الأم؛ لأنها ليست هي المعلمة والموجهة، بل صارت واهنة وضعيفة؛ لأنها قدمت ملذاتها على بيتها، ولم تحكم فيها شرع الله.. لا تتركيهم يعملون الحرام لأنهم صغار.. فهِّمِيهم معنى الدين، وهناك أمر آخر..!!
- وما هو؟!!
ابتسمت الداعية:
- زوجك.. لا بد أن يكون بيتك بيت أسرة دافئة.. تربين أولادك، وتكونين لزوجك نِعْمَ الزوجة الحنون التي تقيه الفتن؛ تقفين عند أوامره.. تكونين له نعم الأنيس والجليس، ولماذا لا يكون الأزواج المسلمين عشاقًا؟!!
قرعَت الكلمة أذن طالبة العلم كمطرقة:
- عُشَّاقًا؟!!
ضحكت الداعية:
- نعم، عشاقًا.. ترسلين له باقة من الزهور الحمراء و(كارت) معطرًا، وتقولين له: أحبُّك في الله، يا زوجي الحبيبُ.. ترسُمين له قلوبًا حمراء، وتعلقينها فوق فراشِكُما.. تحادثينَه في الهاتف لتسألِي عنه (بدون طلبات).. هل نترك هذه المباحات التي تثري البيت المسلم، وتَجعل الأبناء يشبُّون في حضن دافئ محب؟!! هل نتركها لأهل الحرام يستمتعون بها في الحرام؟!!
- لا، ما أحسَنَ ما تقولين!!
- العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، ولا تيأسي، ولا تقولي: زوجي جاف المشاعر (فضحِكَت).. إن كان هو جاف، فأنت بإمكانك - بعون الله - أن تسقيه حتى يصير تربة خصبة تزرعين فيها ما شئتِ، ولا تنسَي الدعاء ثم الدعاء والتذلل لله تعالى؛ فكل هذا في موازين حسناتك يوم القيامة إن شاء الله تعالى..!
- الله المستعانُ..!
انصرفت من عند الداعية:
- اللهمَّ، أصلح حالي كلَّه، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين!!
وقد لاحظ زوجها الفرق..
فهل يشعر أزواجنا بالفرق حقًّا؟!!
منقوووول
اسألكم الدعاء
تعليق