إذا وضعت في الحفرة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله... بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أول ليلة في القبر بكى منها العلماء وشكا منها الحكماء، ورثى إليها الشعراء أنفسهم، وصنفت فيها المصنفات.
فهي ليلة موحشة مخوفة. قد أعد لها الصالحون قديماً وحديثاً العدة وشحنوا أنفسهم لملاقاتها... فتنوعت عواطفهم تجاهها وتباينت مشاعرهم حولها. وسنستمع إلى شيء من أخبارهم في ذلك... لعل الله أن ينفعنا بتلك الأخبار ويهون علينا هذه الليلة. ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)).
1- أحد الصالحين لدغته حية، في سفر نسي قبله أن يودع أمه وأباه وأطفاله وإخوته... فقال قصيدة يلفظها مع أنفاسه هي أم المراثي العربية في الشعر العربي. يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول: كيف أفارق أطفالي في لحظة؟
ولماذا لم أستأذن أبوي في هذا الرحيل؟
أهكذا تختلس الحياة؟
أهكذا أذهب؟
أهكذا أفقد ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
ويقول: يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد أي لا أبعدك الله، وأين مكان البعد إلا هذا المكان، وأين الوحشة إلا في هذا المنقلب، وأين المكان المظلم إلا هذا المكان.
فهل تصور متصور ذلك الوضع الغريب عليه وقد قيل له ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).
كلا! لقد رفض طلبك وخاب ظنك. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تنتهي عن المعاصي؟
فأين كنت قبل هذه الليلة. اللهم ارحمنا!
2- قال الذهبي مؤرخ الإسلام: مات الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم وكان في ريعان الشباب.
فذهبوا به إلى المقبرة فوجدت عليه امرأته، وحزنت عليه حزناً لا يعلمه إلا الله. فأخذت أطفالها وضربت خيمة حول القبر، وأقسمت بالله لتبكينه هي وأطفالها سنة كاملة، وظلت في هلع عظيم، وحزن بائس، وبقيت تبكي.
قلت: وهذا عمل خاطئ مخالف للمشروع، وهو عمل مردود غير مقبول.
فلما وفت سنة أخذت أطناب الخيمة وحملتها وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول لصاحبه في الليل: هل وجدوا ما فقدوا؟
فرد عليه الهاتف الآخر فقال: لا... بل يئسوا فانقلبوا.
فلم يكلمهم ميتهم من القبر، ولم يخرج إليهم ولو ليلة واحدة، ولم يُقبّل أطفاله، ولم ير زوجته وعشيرته.
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا
فإن كان المرء من المحسنين قيل له: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)).
3- نحن في أبها فقدنا شابين اثنين من أسرتين من أسر أبها وقع لهما حادث انقلاب أثناء سيرهما في طاعة الله. فكانت اللوعة والحزن الشديد عليهم، ولكن عزاؤنا في الله أنهما كانا شابين صالحين مستقيمين على أمر الله.
أما أحدهما: فكان مصاحباً للقرآن، والقرآن رفيقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً) (1) .
هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، بل قالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل.
فلذلك خفت المصيبة لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة إن شاء الله.
وأما زميله الآخر فمستقيم على أمر الله، لا يعرف إلا المسجد والمصحف والرفقة الصالحة: ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) فنسأل الله أن يجعل ليلتهما في القبر ليلة أنيسة منورة... جزاء بما عملوا من تلكم الصالحات.
4- أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين غرته قصوره وجنوده وملكه وجاهه فلم يتذكر أول ليلة ينزل فيها القبر:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجرى عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
أي عش ألف سنة... عش مليون سنة سالماً... معافىً... مشافىً، يجرى عليك بما أردت مع الغدو مع البكور، فكل ما تريد من طعام وشراب ولذة هو عندك... ولكن:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!
فبكى السلطان حتى أغمي عليه لما تذكر هول أول ليلة في القبر. فما أثقلها من ليلة!
5- خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وفي ليلة من الليالي نام هو وأصحابه وكانوا في غزوة في سبيل الله، قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: قمت في الليل فنظرت إلى فراش الرسول صلى الله عليه وسلم فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي في فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده على فراشه. فالتفت إلى فراش عمر فما وجدته، وذلك وسط الليل.
قال: وإذا بنور في آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور فإذا قبر محفور والرسول صلى الله عليه وسلم قد نزل في القبر وإذا بجنازة معروضة للدفن لميت قد سجي في الأكفان، وأبو بكر و عمر حول الجنازة والرسول صلى الله عليه وسلم في القبر.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم... ثم التفت إلى القبلة ورفع يديه وقال: (اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه) .
قلت: من هذا؟
قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين ، مات في أول الليل.
قال ابن مسعود : فوددت والله أن أكون أنا الميت (1) .
لأنه إذا رضي الله عن العبد أسعده في الدنيا والآخرة... وآنسه في ليلته الأولى في القبر.
6- كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية يغير الثوب في اليوم أكثر من مرة.
وعنده المال والخدم والقصور، والمطاعم والمشارب وكل ما اشتهى وكل ما طلب وكل ما تمنى.
فلما تولى الخلافة وتقلد ملك الأمة الإسلامية انسلخ من ذلك كله لأنه تذكر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة وحوله الأمراء والوزراء والشعراء والعلماء وقواد الجيش فقال: خذوا بيعتكم. قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها. فما مر عليه أسبوع أو أقل إلا وقد هزل، وضعف وتغير لونه... ولم يكن عنده إلا ثوب واحد.
فأراد المسلمون أن يعرفوا سبب ضعفه الذي بدا ظاهراً عليه فجأة فقالوا لزوجته: ما لـعمر قد تغير؟
قالت: والله ما ينام الليل، ووالله إنه ليأوي إلى فراشه فيتقلب كأنه نائم على الجمر، ويقول: آه لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسوف يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين والطفل والأرملة].
يقول له أحد العلماء: يا أمير المؤمنين! لقد رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمة وفي صحة وفي عافية، فما لك قد تغيرت؟
فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف ثم قال للعالم وهو ابن زياد : كيف يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد من الثياب، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب؟
كيف لو رأيتني بعد ثلاث؟
والله لرأيت منظراً يسوؤك... فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعماً فيها بكل لذيذة متلذذاً فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلة في قبره
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) (1) .
7- كان عثمان بن عفان الخليفة رضي الله عنه وأرضاه إذا شيع جنازة بكى حتى يغمى عليه فيحملونه كالجنازة إلى بيته فيقولون: ما لك؟
فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسيلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة) (1) ، فإذا فاز العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر والعياذ بالله فإنه يخسر آخرته كلها.
والقبر إما روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران. يقول الشاعر:
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فيما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
ويقول شاعر آخر:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
فهل رأيت قبراً مميزاً عن قبر؟
وهل أنزل العظيم في قبر من ذهب أو فضة؟
والله... لقد ترك ملكه وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولبس قطعة من القماش كما نلبس وأنزل في التراب.8- خرج رجل من الصالحين (أعرفه) من مدينة
ولدتك أمك يابن ادم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
8- خرج رجل من الصالحين (أعرفه) من مدينة الرياض متوجهاً إلى مكة مع زوجته وكانت صائمة، قائمة، ولية من أولياء الله الصالحين.
خرج يريد العمرة، ولكن قبل السفر ودعت الزوجة أطفالها... وكتبت وصيتها وهي تبكي كأنه ألقي في خلدها أنها ستموت ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) فتعجب الزوج من حال زوجته.
ثم ذهب واعتمر هو وإياها ثم أراد العودة إلى الرياض .
وفي الطريق جاء الأجل المحتوم إلى زوجته: ((وَعْدَ الله حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)).
لقد انفجر إطار السيارة... فانقلبت بهم ووقعت المرأة على رأسها وتوفيت في الحال... لكنها إن شاء الله شهيدة: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)).
فخرج زوجها من الباب الآخر للسيارة، ووقف عندها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله... الله... الله ... الله !
وتقول لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة... بلغ أهلي السلام.
ثم لفظت أنفاسها: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)).
أسأل الله أن يجعل أول ليلة لهذه المرأة في القبر سروراً وحبوراً، وأن يجمع تلك الأسرة في الجنة وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة، إنه هو الحليم الرحيم.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
فيا أخي في الله... هل استعددت لأول ليلة في القبر؟
ويا شاباً صحيحاً متنعماً غره الشباب والمال والفراغ هل أعددت لأول ليلة في القبر؟
إنها أول الليالي في عالم الآخرة، وإنها إما أول ليلة من ليالي الجنة... أو أول ليلة من ليالي النار...
أسأل الله لي ولك أخي المسلم ولكل المسلمين الرضوان والسعادة في الدنيا والآخرة، ونرجوه سبحانه أن يمن علينا برحمته ويدخلنا فسيح جناته، إنه على كل شيء قديروصلى الله على سيدنامحمد وعلى اله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله... بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
أول ليلة في القبر بكى منها العلماء وشكا منها الحكماء، ورثى إليها الشعراء أنفسهم، وصنفت فيها المصنفات.
فهي ليلة موحشة مخوفة. قد أعد لها الصالحون قديماً وحديثاً العدة وشحنوا أنفسهم لملاقاتها... فتنوعت عواطفهم تجاهها وتباينت مشاعرهم حولها. وسنستمع إلى شيء من أخبارهم في ذلك... لعل الله أن ينفعنا بتلك الأخبار ويهون علينا هذه الليلة. ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ)).
1- أحد الصالحين لدغته حية، في سفر نسي قبله أن يودع أمه وأباه وأطفاله وإخوته... فقال قصيدة يلفظها مع أنفاسه هي أم المراثي العربية في الشعر العربي. يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول: كيف أفارق أطفالي في لحظة؟
ولماذا لم أستأذن أبوي في هذا الرحيل؟
أهكذا تختلس الحياة؟
أهكذا أذهب؟
أهكذا أفقد ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
ويقول: يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد أي لا أبعدك الله، وأين مكان البعد إلا هذا المكان، وأين الوحشة إلا في هذا المنقلب، وأين المكان المظلم إلا هذا المكان.
فهل تصور متصور ذلك الوضع الغريب عليه وقد قيل له ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).
كلا! لقد رفض طلبك وخاب ظنك. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تنتهي عن المعاصي؟
فأين كنت قبل هذه الليلة. اللهم ارحمنا!
2- قال الذهبي مؤرخ الإسلام: مات الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم وكان في ريعان الشباب.
فذهبوا به إلى المقبرة فوجدت عليه امرأته، وحزنت عليه حزناً لا يعلمه إلا الله. فأخذت أطفالها وضربت خيمة حول القبر، وأقسمت بالله لتبكينه هي وأطفالها سنة كاملة، وظلت في هلع عظيم، وحزن بائس، وبقيت تبكي.
قلت: وهذا عمل خاطئ مخالف للمشروع، وهو عمل مردود غير مقبول.
فلما وفت سنة أخذت أطناب الخيمة وحملتها وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول لصاحبه في الليل: هل وجدوا ما فقدوا؟
فرد عليه الهاتف الآخر فقال: لا... بل يئسوا فانقلبوا.
فلم يكلمهم ميتهم من القبر، ولم يخرج إليهم ولو ليلة واحدة، ولم يُقبّل أطفاله، ولم ير زوجته وعشيرته.
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا
فإن كان المرء من المحسنين قيل له: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)).
3- نحن في أبها فقدنا شابين اثنين من أسرتين من أسر أبها وقع لهما حادث انقلاب أثناء سيرهما في طاعة الله. فكانت اللوعة والحزن الشديد عليهم، ولكن عزاؤنا في الله أنهما كانا شابين صالحين مستقيمين على أمر الله.
أما أحدهما: فكان مصاحباً للقرآن، والقرآن رفيقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً) (1) .
هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، بل قالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل.
فلذلك خفت المصيبة لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة إن شاء الله.
وأما زميله الآخر فمستقيم على أمر الله، لا يعرف إلا المسجد والمصحف والرفقة الصالحة: ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) فنسأل الله أن يجعل ليلتهما في القبر ليلة أنيسة منورة... جزاء بما عملوا من تلكم الصالحات.
4- أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين غرته قصوره وجنوده وملكه وجاهه فلم يتذكر أول ليلة ينزل فيها القبر:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجرى عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
أي عش ألف سنة... عش مليون سنة سالماً... معافىً... مشافىً، يجرى عليك بما أردت مع الغدو مع البكور، فكل ما تريد من طعام وشراب ولذة هو عندك... ولكن:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور!
فبكى السلطان حتى أغمي عليه لما تذكر هول أول ليلة في القبر. فما أثقلها من ليلة!
5- خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وفي ليلة من الليالي نام هو وأصحابه وكانوا في غزوة في سبيل الله، قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: قمت في الليل فنظرت إلى فراش الرسول صلى الله عليه وسلم فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي في فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده على فراشه. فالتفت إلى فراش عمر فما وجدته، وذلك وسط الليل.
قال: وإذا بنور في آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور فإذا قبر محفور والرسول صلى الله عليه وسلم قد نزل في القبر وإذا بجنازة معروضة للدفن لميت قد سجي في الأكفان، وأبو بكر و عمر حول الجنازة والرسول صلى الله عليه وسلم في القبر.
فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم... ثم التفت إلى القبلة ورفع يديه وقال: (اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه) .
قلت: من هذا؟
قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين ، مات في أول الليل.
قال ابن مسعود : فوددت والله أن أكون أنا الميت (1) .
لأنه إذا رضي الله عن العبد أسعده في الدنيا والآخرة... وآنسه في ليلته الأولى في القبر.
6- كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية يغير الثوب في اليوم أكثر من مرة.
وعنده المال والخدم والقصور، والمطاعم والمشارب وكل ما اشتهى وكل ما طلب وكل ما تمنى.
فلما تولى الخلافة وتقلد ملك الأمة الإسلامية انسلخ من ذلك كله لأنه تذكر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة وحوله الأمراء والوزراء والشعراء والعلماء وقواد الجيش فقال: خذوا بيعتكم. قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها. فما مر عليه أسبوع أو أقل إلا وقد هزل، وضعف وتغير لونه... ولم يكن عنده إلا ثوب واحد.
فأراد المسلمون أن يعرفوا سبب ضعفه الذي بدا ظاهراً عليه فجأة فقالوا لزوجته: ما لـعمر قد تغير؟
قالت: والله ما ينام الليل، ووالله إنه ليأوي إلى فراشه فيتقلب كأنه نائم على الجمر، ويقول: آه لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسوف يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين والطفل والأرملة].
يقول له أحد العلماء: يا أمير المؤمنين! لقد رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمة وفي صحة وفي عافية، فما لك قد تغيرت؟
فبكى حتى كادت أضلاعه أن تختلف ثم قال للعالم وهو ابن زياد : كيف يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد من الثياب، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب؟
كيف لو رأيتني بعد ثلاث؟
والله لرأيت منظراً يسوؤك... فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعماً فيها بكل لذيذة متلذذاً فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلة في قبره
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) (1) .
7- كان عثمان بن عفان الخليفة رضي الله عنه وأرضاه إذا شيع جنازة بكى حتى يغمى عليه فيحملونه كالجنازة إلى بيته فيقولون: ما لك؟
فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسيلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة) (1) ، فإذا فاز العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر والعياذ بالله فإنه يخسر آخرته كلها.
والقبر إما روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران. يقول الشاعر:
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فيما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
ويقول شاعر آخر:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
فهل رأيت قبراً مميزاً عن قبر؟
وهل أنزل العظيم في قبر من ذهب أو فضة؟
والله... لقد ترك ملكه وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولبس قطعة من القماش كما نلبس وأنزل في التراب.8- خرج رجل من الصالحين (أعرفه) من مدينة
ولدتك أمك يابن ادم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
8- خرج رجل من الصالحين (أعرفه) من مدينة الرياض متوجهاً إلى مكة مع زوجته وكانت صائمة، قائمة، ولية من أولياء الله الصالحين.
خرج يريد العمرة، ولكن قبل السفر ودعت الزوجة أطفالها... وكتبت وصيتها وهي تبكي كأنه ألقي في خلدها أنها ستموت ((ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) فتعجب الزوج من حال زوجته.
ثم ذهب واعتمر هو وإياها ثم أراد العودة إلى الرياض .
وفي الطريق جاء الأجل المحتوم إلى زوجته: ((وَعْدَ الله حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)).
لقد انفجر إطار السيارة... فانقلبت بهم ووقعت المرأة على رأسها وتوفيت في الحال... لكنها إن شاء الله شهيدة: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)).
فخرج زوجها من الباب الآخر للسيارة، ووقف عندها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله... الله... الله ... الله !
وتقول لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة... بلغ أهلي السلام.
ثم لفظت أنفاسها: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)).
أسأل الله أن يجعل أول ليلة لهذه المرأة في القبر سروراً وحبوراً، وأن يجمع تلك الأسرة في الجنة وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة، إنه هو الحليم الرحيم.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
فيا أخي في الله... هل استعددت لأول ليلة في القبر؟
ويا شاباً صحيحاً متنعماً غره الشباب والمال والفراغ هل أعددت لأول ليلة في القبر؟
إنها أول الليالي في عالم الآخرة، وإنها إما أول ليلة من ليالي الجنة... أو أول ليلة من ليالي النار...
أسأل الله لي ولك أخي المسلم ولكل المسلمين الرضوان والسعادة في الدنيا والآخرة، ونرجوه سبحانه أن يمن علينا برحمته ويدخلنا فسيح جناته، إنه على كل شيء قديروصلى الله على سيدنامحمد وعلى اله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني.
تعليق