وفي مصرع الدكتور إبراهيم الفقي تذكرة وعبرة!
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد توفي يوم الجمعة (10/2/2012م) المثقَّف المصري الشهير الدكتور إبراهيم الفقي (62 عامًا) ـ خبير التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية ورئيس مجلس إدارة المعهد الكندي للبرمجة اللغوية ـ إثر حريق هائل نشب في منزله بشارع مكرم عبيد بحي مدينة نصر, أودى بحياته هو وشقيقته وخادمته. وتواردت أنباء حول تواصل أجهزة الدفاع المدني للسيطرة على الحريق الذي امتدَّ إلى طوابق أخرى من العقار الذي يقل منزل الفقي وأيضًا مركزه الخاص, كما تم انتشال الجثث الثلاث التي ذُكر أنها تفحمت تمامًا داخل المنزل. يُذكر أن د. الفقي كان من أبرز أساتذه التنمية البشرية، وواحدًا من الخبراء العالميين في التنمية البشرية، فهو مفكر وكاتب لأكثر من خمسين كتابًا، ومحاضر عالمي درَّب أكثر من مليون شخص على مدار ثلاثين عامًا في محاضراته ودوراته وأمسياته، في أكثر من (33) دولة باللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية، وهو معدٌّ ومقدِّمٌ لأكثر البرامج رواجًا في العالم منها: الحياة أمل، الطاقة البشرية، القوة الذاتية، طريق النجاح, وغيرها الكثير.
هذا ما نشرته (جريدة الوفد) وغيرها من الصحف والمواقع الإلكترونية الكثيرة، ولقي الخبر اهتمامًا بالغًا من القراء، نظرًا لشهرة الرجل، وتأثيره الكبير في العالم، وقد شهد له الناس بالخير، فقد كان من أهل الصلاة والسيرة الطيبة، فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغفر له، ويتجاوز عنه، ويرحمه، ويكرم نزله، ويوسِّع مدخله، ويبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، ويعيذه من عذاب القبر، وعذاب النار، ويدخله الجنة بمنِّه وإحسانه.
وإني لأرجو أن يكون ما أصابه حسن خاتمة، يرفعه إلى درجة الشهداء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وصاحب الحريق شهيد)[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1398)].
لقد كان الدكتور إبراهيم الفقي ـ كما يقال اليوم ـ: (شخصية عامَّة)، ولهذا فأرى من المناسب الحديث عن (جانب عامٍّ) في حادثة وفاته، دون أن يكون في ذلك مساس بالجانب الشخصي، فإن للموت هيبته، ولا يليق ذكر موتى المسلمين المشهود لهم بالخير إلا بما أسلفتُ من الدعاء والذكر الجميل.
أما (الجانب العام) ففيه تذكرةٌ وعبرةٌ بالغةٌ لكل من فُتن بما يسمَّى بالبرمجة العصيبة، فقد كان الدكتور الفقي من أعلامها ودعاتها، وكان يبالغ في ذلك مبالغة كبيرة، فإذا به يموت في حادثٍ يمكن وصفه بأنه حادث عادي لا يقع ـ في الغالب ـ إلا في البيوت الفقيرة، مع الجهل والغفلة، وضعف التدبير، وعدم الأخذ بأسباب السلامة والنجاة!
فأين كانت التنمية البشرية، وفنون الإدارة، والتحكم في القوة الذاتية، والطاقة البشرية الهائلة؛ من أستاذها ومعلِّمها وناشرها حين دبَّت النار في منزله ومركزه، فمات اختناقًا ولمَّا تصلُ النارُ إليه؛ وإنما هو قضاء الله وقدره، وحكمه النافذ، وأمره الذي لا مردَّ له:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].
لم أكن من المتابعين للدكتور الفقي، ولكن ربما استوقفتني بعض محاضراته وأنا أقلِّب القنوات الفضائية، فسمعته مرة يقول: (جاءني مرة صديق، وقال: أصبتُ بمرضٍ! فقلتُ له: لماذا قرَّرتَ أن تمرض!)
إن الجانب الأعظم مما كان ينشره الدكتور ـ وسيبقى بين الناس ما شاء الله ـ كان من نتاج الفكر والثقافة الغربية المادية التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، بل لا تؤمن بشيء إلا بالإنسان، الإنسانِ الغربي الذي يتمتع بالنجاح والقوة والصحة والرفاهية والتقدُّم لأنَّه قرَّر ذلك وأراده واختاره، أما غير الغربي فيعيش في بؤس وشقاء لأنه لا يعرف طريق التقدم والنجاح!
ذلك هو الفكر الغربي المادي: الغني أصبح غنيًّا لأنه أراد ذلك، والذكي أحسَنَ استخدامَ عقله، والناجح في الحياة عمل بأسباب وفنون النجاح!
إنه فكر نابع من محض الأنانية الذاتية المستحكمة، فهم يعتقدون أن ما هم فيه من التقدم والرفاهية استحقاقٌ ذاتيٌّ، أما بقية شعوب العالم الفقيرة والمتخلِّفة ماديًّا ومدنيًّا فعلى أنفسهم جنوا لَـمَّا لم ينهجوا في حياتهم نهج الغربيين في الأخذ بأسباب المدنية والتطور! وصدق ربُّنا سبحانه إذ قال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة : 212].
هذا الفكر هو الذي تأثر به الدكتور إبراهيم الفقي، وأمثاله من دعاة التنمية البشرية، ولم يدركوا أبعاده الخطيرة، ولم يتنبهوا إلى حقيقته الإلحادية، فصاروا ينشرونه بين المسلمين، ويغلِّفون ذلك ببعض الآيات والأحاديث، رغم جهلهم بشرع الله عزَّ وجلَّ ودينه، كل ذلك ـ فيما نحسب ـ بحسن نية وقصد، ولكن كم مريدٍ للخير لم يُصِبه!
إن العالم الغربي لا يتمتع بالتطور والرفاهية لأنه قرَّر أن يكون كذلك، بل لأنَّ الله تعالى أراد أن يبتليه بذلك ـ كما ابتلاه بالفقر والجهل والظلم في العصور الوسطى ـ فيسَّر له أسباب الاكتشافات والاختراعات والصناعات التي تتابعت في مدَّة وجيزةٍ من عمر البشرية لا تتجاوز القرنين، مع أنَّ أصول ومبادئ تلك العلوم بقيت عند المسلمين ألف سنةٍ لكن الله تعالى حجب عنهم التوصُّل إلى نتائجها، فلم يجعلها إلا على يد الغربيِّين!
والإيمان بالقضاء والقدر، وأنَّ الفقر والغنى، والضعف والقوة، والغباء والذكاء، والتخلف والتطور بيد الله تعالى وحده؛ من أصول الإيمان، وقواعد الدين، لا يصحُّ إسلام أحدٍ إلا بالإقرار به، والإذعان له:
قال ربنا سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الوخرف: 32].
قال البغوي رحمه الله في تفسيره: ({نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فجعلنا هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا ملكًا وهذا مملوكًا، فكما فضَّلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} بالغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} ليستخدم بعضهم بعضًا، فيُسَخِّرَ الأغنياءُ بأموالهم الأجراءَ الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قِوامُ أمر العالم).
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران: 26-27].
وقال جلَّ ذِكْره: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[سبأ : 36]، ومعنى: (ويقدر) أي: يضيِّقُ عليه في الرزق. وتكرَّر معنى هذه الآية في سورة سبأ (39)، والزمر (52)، والشورى (12) و(27)، والرعد (26)، والإسراء (30)، والقصص (82)، والعنكبوت (62)، والروم (37)، وغيرها.
وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس : 31].
وقال الله تعالى في التطور المدني والعمراني للأمم: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
ولا أظنُّ أن عاقلاً سيفهم من هذا المقال أنني أدعوا إلى ترك الأخذ بأسباب التطور والتقدُّم، وإلى عدم الاهتمام بفنون الإدارة وعلوم إتقان الصنائع والأعمال، فهذا شيء، والدعوة التي تنقض الإيمان بالقضاء والقدر، وتبالغ في قدرات الإنسان وطاقاته، وتربطه بالأنا والذات والمادة، وتبني فكر الناس وثقافتهم على منهج إلحادي يفسِّر حقائق الكون والحياة بما يخالف الاعتقاد الصحيح والدين الحقَّ؛ شيء آخرُ، يجب محاربته، وإنكاره، وفضح جذوره ومآلاته الخطيرة. وبالله تعالى التوفيق.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقد توفي يوم الجمعة (10/2/2012م) المثقَّف المصري الشهير الدكتور إبراهيم الفقي (62 عامًا) ـ خبير التنمية البشرية والبرمجة اللغوية العصبية ورئيس مجلس إدارة المعهد الكندي للبرمجة اللغوية ـ إثر حريق هائل نشب في منزله بشارع مكرم عبيد بحي مدينة نصر, أودى بحياته هو وشقيقته وخادمته. وتواردت أنباء حول تواصل أجهزة الدفاع المدني للسيطرة على الحريق الذي امتدَّ إلى طوابق أخرى من العقار الذي يقل منزل الفقي وأيضًا مركزه الخاص, كما تم انتشال الجثث الثلاث التي ذُكر أنها تفحمت تمامًا داخل المنزل. يُذكر أن د. الفقي كان من أبرز أساتذه التنمية البشرية، وواحدًا من الخبراء العالميين في التنمية البشرية، فهو مفكر وكاتب لأكثر من خمسين كتابًا، ومحاضر عالمي درَّب أكثر من مليون شخص على مدار ثلاثين عامًا في محاضراته ودوراته وأمسياته، في أكثر من (33) دولة باللغة الفرنسية والإنجليزية والعربية، وهو معدٌّ ومقدِّمٌ لأكثر البرامج رواجًا في العالم منها: الحياة أمل، الطاقة البشرية، القوة الذاتية، طريق النجاح, وغيرها الكثير.
هذا ما نشرته (جريدة الوفد) وغيرها من الصحف والمواقع الإلكترونية الكثيرة، ولقي الخبر اهتمامًا بالغًا من القراء، نظرًا لشهرة الرجل، وتأثيره الكبير في العالم، وقد شهد له الناس بالخير، فقد كان من أهل الصلاة والسيرة الطيبة، فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يغفر له، ويتجاوز عنه، ويرحمه، ويكرم نزله، ويوسِّع مدخله، ويبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، ويعيذه من عذاب القبر، وعذاب النار، ويدخله الجنة بمنِّه وإحسانه.
وإني لأرجو أن يكون ما أصابه حسن خاتمة، يرفعه إلى درجة الشهداء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وصاحب الحريق شهيد)[أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1398)].
لقد كان الدكتور إبراهيم الفقي ـ كما يقال اليوم ـ: (شخصية عامَّة)، ولهذا فأرى من المناسب الحديث عن (جانب عامٍّ) في حادثة وفاته، دون أن يكون في ذلك مساس بالجانب الشخصي، فإن للموت هيبته، ولا يليق ذكر موتى المسلمين المشهود لهم بالخير إلا بما أسلفتُ من الدعاء والذكر الجميل.
أما (الجانب العام) ففيه تذكرةٌ وعبرةٌ بالغةٌ لكل من فُتن بما يسمَّى بالبرمجة العصيبة، فقد كان الدكتور الفقي من أعلامها ودعاتها، وكان يبالغ في ذلك مبالغة كبيرة، فإذا به يموت في حادثٍ يمكن وصفه بأنه حادث عادي لا يقع ـ في الغالب ـ إلا في البيوت الفقيرة، مع الجهل والغفلة، وضعف التدبير، وعدم الأخذ بأسباب السلامة والنجاة!
فأين كانت التنمية البشرية، وفنون الإدارة، والتحكم في القوة الذاتية، والطاقة البشرية الهائلة؛ من أستاذها ومعلِّمها وناشرها حين دبَّت النار في منزله ومركزه، فمات اختناقًا ولمَّا تصلُ النارُ إليه؛ وإنما هو قضاء الله وقدره، وحكمه النافذ، وأمره الذي لا مردَّ له:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 22-23].
لم أكن من المتابعين للدكتور الفقي، ولكن ربما استوقفتني بعض محاضراته وأنا أقلِّب القنوات الفضائية، فسمعته مرة يقول: (جاءني مرة صديق، وقال: أصبتُ بمرضٍ! فقلتُ له: لماذا قرَّرتَ أن تمرض!)
إن الجانب الأعظم مما كان ينشره الدكتور ـ وسيبقى بين الناس ما شاء الله ـ كان من نتاج الفكر والثقافة الغربية المادية التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، بل لا تؤمن بشيء إلا بالإنسان، الإنسانِ الغربي الذي يتمتع بالنجاح والقوة والصحة والرفاهية والتقدُّم لأنَّه قرَّر ذلك وأراده واختاره، أما غير الغربي فيعيش في بؤس وشقاء لأنه لا يعرف طريق التقدم والنجاح!
ذلك هو الفكر الغربي المادي: الغني أصبح غنيًّا لأنه أراد ذلك، والذكي أحسَنَ استخدامَ عقله، والناجح في الحياة عمل بأسباب وفنون النجاح!
إنه فكر نابع من محض الأنانية الذاتية المستحكمة، فهم يعتقدون أن ما هم فيه من التقدم والرفاهية استحقاقٌ ذاتيٌّ، أما بقية شعوب العالم الفقيرة والمتخلِّفة ماديًّا ومدنيًّا فعلى أنفسهم جنوا لَـمَّا لم ينهجوا في حياتهم نهج الغربيين في الأخذ بأسباب المدنية والتطور! وصدق ربُّنا سبحانه إذ قال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[البقرة : 212].
هذا الفكر هو الذي تأثر به الدكتور إبراهيم الفقي، وأمثاله من دعاة التنمية البشرية، ولم يدركوا أبعاده الخطيرة، ولم يتنبهوا إلى حقيقته الإلحادية، فصاروا ينشرونه بين المسلمين، ويغلِّفون ذلك ببعض الآيات والأحاديث، رغم جهلهم بشرع الله عزَّ وجلَّ ودينه، كل ذلك ـ فيما نحسب ـ بحسن نية وقصد، ولكن كم مريدٍ للخير لم يُصِبه!
إن العالم الغربي لا يتمتع بالتطور والرفاهية لأنه قرَّر أن يكون كذلك، بل لأنَّ الله تعالى أراد أن يبتليه بذلك ـ كما ابتلاه بالفقر والجهل والظلم في العصور الوسطى ـ فيسَّر له أسباب الاكتشافات والاختراعات والصناعات التي تتابعت في مدَّة وجيزةٍ من عمر البشرية لا تتجاوز القرنين، مع أنَّ أصول ومبادئ تلك العلوم بقيت عند المسلمين ألف سنةٍ لكن الله تعالى حجب عنهم التوصُّل إلى نتائجها، فلم يجعلها إلا على يد الغربيِّين!
والإيمان بالقضاء والقدر، وأنَّ الفقر والغنى، والضعف والقوة، والغباء والذكاء، والتخلف والتطور بيد الله تعالى وحده؛ من أصول الإيمان، وقواعد الدين، لا يصحُّ إسلام أحدٍ إلا بالإقرار به، والإذعان له:
قال ربنا سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[الوخرف: 32].
قال البغوي رحمه الله في تفسيره: ({نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فجعلنا هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا ملكًا وهذا مملوكًا، فكما فضَّلنا بعضهم على بعض في الرزق كما شئنا، كذلك اصطفينا بالرسالة من شئنا. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} بالغنى والمال، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} ليستخدم بعضهم بعضًا، فيُسَخِّرَ الأغنياءُ بأموالهم الأجراءَ الفقراء بالعمل، فيكون بعضهم لبعض سبب المعاش، هذا بماله، وهذا بأعماله، فيلتئم قِوامُ أمر العالم).
وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران: 26-27].
وقال جلَّ ذِكْره: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[سبأ : 36]، ومعنى: (ويقدر) أي: يضيِّقُ عليه في الرزق. وتكرَّر معنى هذه الآية في سورة سبأ (39)، والزمر (52)، والشورى (12) و(27)، والرعد (26)، والإسراء (30)، والقصص (82)، والعنكبوت (62)، والروم (37)، وغيرها.
وقال عزَّ وجلَّ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} [يونس : 31].
وقال الله تعالى في التطور المدني والعمراني للأمم: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6].
ولا أظنُّ أن عاقلاً سيفهم من هذا المقال أنني أدعوا إلى ترك الأخذ بأسباب التطور والتقدُّم، وإلى عدم الاهتمام بفنون الإدارة وعلوم إتقان الصنائع والأعمال، فهذا شيء، والدعوة التي تنقض الإيمان بالقضاء والقدر، وتبالغ في قدرات الإنسان وطاقاته، وتربطه بالأنا والذات والمادة، وتبني فكر الناس وثقافتهم على منهج إلحادي يفسِّر حقائق الكون والحياة بما يخالف الاعتقاد الصحيح والدين الحقَّ؛ شيء آخرُ، يجب محاربته، وإنكاره، وفضح جذوره ومآلاته الخطيرة. وبالله تعالى التوفيق.
كتبه:
عبد الحق التركماني
بريطانيا: 19/3/1433هـ - 11/2/2012م
تعليق