لإخلاص لله والصدق معه
الإخلاص لله والصدق معه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسَلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.أما بعد:
فإن الإخلاص هو: الباب الكبير الذي يدخل به العبد على الواحد الأحد الديَّان، والإخلاص: هو الذي يُبقي العمل سليماً من العيوب والنواقض، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
يوم تتساقط الدعاوى، والألقاب الأرضية، والأوسمة الترابية، وتبقى لا إله إلا الله قوية سليمة منجية لصاحبها.
ولذلك فإن من مقتضيات لا إله إلا الله: أن تُخلص العبادة لله تعالى.
وأن تكون إذا سجدت، أو ركعت، أو سبحت، أو دعوت، أو تكلمت عبداً لله عز وجل ظاهرك وباطنك يحمل العبودية للواحد الديان.
ومَن الذي لا يتشرَّف بعبودية الله الواحد الأحد؟
مَن الذي لا يتشرف بالإخلاص لله والصدق معه؟
يقول سبحانه: ((أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ))، أي: ألا لله الدين الصافي النقي الذي يريده سبحانه وتعالى.
ويقول: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))، فما أُمروا ليكونوا منافقين أو مشركين.
ويقول سبحانه: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)).
وقف موسى ، عليه السلام، قائد التوحيد، في وجه رأس الطغيان: فرعون .
موسى العقيدة.. موسى لا إله إلا الله.. موسى الذي حمل عصا التوحيد ليكسر بها رأس الضلالة والعمالة.
فنادى ربه، وكلّمه كفاحاً، فقال: يا رب، علمني كلمة أدعوك بها وأناديك.
فقال الله لـموسى : يا موسى قل لا إله إلا الله.
فقال موسى متعجباً: كل عبادك يا رب يقولون ذلك، (لأنها كلمة مبذولة ومطلوبة ومشهورة).
فقال الله: (يا موسى لو أن السموات السبع والأراضين في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله) (1) ، رواه الحاكم و ابن حبان .
فمعنى لا إله إلا الله عظيم، ودلائلها جسيمة، لأنها دليل الإخلاص، والتجرد لله سبحانه وتعالى، والتخلص من كل عبودية إلا عبوديته، فتجعل حياتك نوراً كلها: لحمك، ودمك، وعصبك، وطريقك، ومنهجك.
وفي البخاري عن ابن عباس ، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى صلاة الفجر: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن أمامي نوراً، ومن خلفي نوراً، واجعلني نوراً) وزاد البخاري في رواية: (واجعل في عظمي نوراً، وفي دمي نوراً، وفي مخي نوراً، واجعلني نوراً) (1) .
فالنور هو نور لا إله إلا الله.
والنور هو قبس وضياء لا إله إلا الله.
يقول شفي الأصبحي رحمه الله: دخلت المدينة فوجدت أبا هريرة ، رضي الله عنه، وقد أجمع عليه الناس حلقات بعضها دون بعض، فتقدمت إليه، وقلت: يا أبا هريرة ، أسألك بالله أن تحدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تسمعه من غيره.
فبكى، ثم رفع رأسه، وقال: واللّه لأحدثنكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعته من غيره، ثم بكى، حتى نشج من البكاء، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول الناس يُقضى عليه يوم القيامة رجلٌ استُشهد، فأتى به فعرَّفه نعمته فعرفها. فقال: ما عملت فيها؟
قال: قاتلت فيك حتى استُشهدت.
قال: كذبت؛ ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمرَ به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار.
ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها.
قال: فما عملت فيها؟
قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن.
قال: كذبت؟
ولكنك تعلَّمت العلم ليقال: إنك عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار.
ورجل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرفها.
قال: فما عملتَ فيها؟
قال: ما تركتُ من سبيل تُحب أن يُنفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك.
قال: كذبت، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جوادٌ؛ فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه ثم أُلقي في النار) (1) .
فيا ويل من عمل لغير الله، يوم يبعثر ما في القبر، ويحصّل ما في الصدور ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)).
فكل شيء عند الله مكشوف، الجسد: مكشوف، والقلب: مكشوف، والتاريخ: مكشوف، والسجل من الحسنات والسيئات: مكشوف.
وعن عمر ، رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1) .
إذا عُلِم هذا فلنقف أمام نماذج من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أخلصوا لله عز وجلَّ، فرفعهم الله عز وجلَّ بالإخلاص، ورفعهم الله عزَّ وجلَّ بالصدق.
1- يقف الخليفة الزاهد عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه، لابساً بردة فيها أربعة عشر رقعة، وهو يملك ذهب الأمة، وفضة الأمة، وكنوز الأمة، ويبقى جائعاً، ليطلب الثواب من الله تعالى.
عمر رضي الله عنه، الذي يقول: ليتني كنت شجرة فأُعْضد، يا ليت أمي لم تلدني.
وقد أرضاه الله عز وجل، وأجاب دعوته، عندما سأل الله تعالى الشهادة في آخر حجة حجَّها.
فإنه لما حج، رفع يديه عند الجمرات، وقال دعاء حاراً صادقاً فقال: اللهم إنها قد كثرت رعيتي، ورقّ عظمي، ودنا أجلي، فاقبضني إليك غير مفرط، ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك.
فقال الصحابة: يا أمير المؤمنين، من يطلب الشهادة يذهب إلى الثغور والقتال.
قال: هكذا سألت، وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت.
فعلم الله صدقه، وعاد إلى المدينة مخلصاً.
فرأى في منامه ديكاً ينقره ثلاث مرات.
فسأل في الصباح أسماء بنت عميس ، عن تأويلها؛ لأنها عالمة بذلك.
فقالت: يا أمير المؤمنين، أستودع الله في نفسك الذي لا تضيع ودائعه، إنني أرى أنك تُقتل بيد رجل من العجم.
فأتى عمر ، في آخر جمعة يخطبها على الناس، فما كان منه إلا البكاء على المنبر، يستودع الناس نفسه، ويطلب منهم المسامحة، ويطلب منهم أن يتجاوزوا عما أخطأ فيه عليهم.
وفي يوم السبت يأتي الصدق لأهل الصدق، والإخلاص لأهل الإخلاص؛ لأنه سأل الشهادة مخلصاً صادقاً مع الله، فصلّى الفجر وقرأ سورة يوسف.
وما أبلغ سورة يوسف، يا شباب المسلمين! وما أروعها! يوم تربي في نفس الشبيبة التقوى.
ويوم تجعل لهم يوسف عليه السلام، علماً، ومعلماً من معالم الذين ثبتوا على لا إله إلا الله، وأخلصوا لا إله إلا الله.
فحفظهم الله بعين رعايته، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
ويركع أمير المؤمنين فتمتد يد آثمة، ما سجد صاحبها لله سجدة واحدة.
وتمتد يد بغيضة ما ركع صاحبها للّه ركعة واحدة، لتمزق ذاك الأديم الطاهر المجاهد الزاهد.
فيهوي، رضي الله عنه، في المحراب.
وما أحسن الشهادة، وما أحسن البقعة، وما أحسن الصلاة!
فرفعه الناس على أكتافهم، ودماؤه تسيل على أكتاف الرجال، ويُذْهب به إلى بيته، فيوضع تحت رأسه وسادة.
فيقول للناس: أزيحوها عن رأسي، وخلوا رأسي على التراب، لعل الله أن يرحمني.
رحمك الله يا فاروق الإسلام!
رحمك الله يا صادق يا مخلص!
فوضعوه على التراب، فدخل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فقال: [يا أمير المؤمنين، هنيئاً لك، ما أكثر ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر و عمر ، ودخلت أنا وأبو بكر و عمر ، وخرجت أنا وأبو بكر و عمر ! فاسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك] (1) .
فدمعت عين عمر ، رضي الله عنه، وقال: ليتني نجوت كفافاً، لا لي ولا علي.
يقول هذا، رضي الله عنه، وهو من المجاهدين العابدين الصادقين، فقل لي بربك: ماذا فعلنا نحن للإسلام؟
وقل لي: ماذا فعلنا للا إله إلا الله؟
وقل لي: ماذا ادخرنا عند الله عزَّ وجلَّ؟
هل هناك جهاد؟
هل سكبنا دماءنا لرفع لا إله إلا الله؟
هل قُطعت رؤوسنا من أجل نصرة لا إله إلا الله؟
هل سهرنا لنناجي من أنزل لا إله إلا الله؟
نحن مذنبون، وأصحاب خطايا، وعيوب، ونقص، لكن نسأل الله تعالى كما سترنا في الدنيا أن لا يفضحنا يوم نأتيه مذنبين نادمين.
2- قبل معركة أحد ، قال سعد بن أبي وقاص لـعبد الله بن جحش : تعال نبايع الله هذا اليوم.
فانزويا وراء أكمة، فرفع سعد يده، وقال: اللهم انصرنا في هذا اليوم، اللهم أعلِ كلمتك.
فلما انتهى من الدعاء، تقدّم عبد الله بن جحش ، أول أمير في الإسلام، الصابر على الجوع والعطش، كما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو شاب في السادسة والعشرين.
تقدّم فرفع يديه وقال: اللهم إني أسألك صادقاً مخلصاً هذا اليوم، أن تواجه بيني وبين عدو لك من الكفار، شديد حرده، قوي بأسه، فيقتلني فيك، فيبقر بطني، ويفقأ عيني، ويجدع أنفي، ويقطع أذني، فألقاك على هذه الصورة فتقول: يا عبد الله ، لمَ فُعل فيك هذا؟
فأقول: فيك يا رب.
فقال سعد : والله الذي نفسي بيده، لقد رأيته في آخر المعركة، وهو بين القتلى، مبقور بطنه، مجدوع أنفه، مفقوءة عينيه، مقطوعة أذنه (1) .
هذا هو الصدق.. فيوم صدقوا مع الله أعطاهم الله ما سألوا.
3- يأتي أعرابي من الصحراء لا يفهم إلا حرارة لا إله إلا الله، وعمق لا إله إلا الله، فيقول: يا رسول الله، أبايعك على لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فبايعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتت إليه صلى الله عليه وسلم غنائم، فأعطى هذا الأعرابي منها.
فقال: يا رسول الله، ما على هذا بايعتك.
قال: على ماذا بايعتني؟
قال: بايعتك على أن يأتيني سهم من عدو كافر فيدخل من هنا -وأشار إلى صدره- ويخرج من هنا -وأشار إلى ظهره-.
فدمعت عين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إن تصدق الله يصدقك).
فلا تنتهي المعركة إلا ويأته سهم طائش فيقع في لب هذا الأعرابي ويخرج من قفاه.
فيراه صلى الله عليه وسلم مقتولاً فيمسح التراب من على وجهه ويقول: (صدق الله فصدقه) (1) .
4- أما عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، فقد أنزل الله فيه، وفي إخوانه قوله:
((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ)).
أتى عبد الله هذا فصلى صلاة الليل قبل معركة أحد بليلة، ورفع يديه، يوم كان السلف الصالح يتهجدون، ويوم كانوا يناجون الله في الثلث الأخير، وفي الساعات القريبة الحبيبة للحي القيوم، يوم يتجلى الله عز وجل وينزل نزولاً يليق بجلاله إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داع فأجيبه، هل من مستغفرٍ فأغفر له؟
(1) .
فقام هذا الصحابي ودعا الله سبحانه وتعالى أن يوفقه للشهادة.
فعلم الله صدقه وإخلاصه، فقام في الصباح، وقال لابنه جابر : يا بني، إني رأيت في المنام أني أول مقتول في أحد، فعليك بأخواتك، وأستودعكم الله، الذي لا تضيع ودائعه، وذهب إلى المعركة بعد أن اغتسل، وتحنَّط، وتكفن.
فوقف في الصف، صادقاً منيباً لله عز وجل.
وفي آخر المعركة جاء ابنه جابر، فإذا أبوه قد قُتل، فجعلت عمته فاطمة تبكي فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) (1) . وفي رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم لـجابر : (ما لي أراك منكسراً؟
قال: يا رسول الله استشهد أبي، وترك عيالاً وديناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟
قال: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم اللِّه أحداً قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً فقال: يا عبدي تمن عليّ أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب عز وجل إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا)) الآية كلها) (1) .
فجعل الله روحه وأرواح إخوانه الشهداء كما جاء في الحديث: (في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل..) (1) .
فلما صدق هؤلاء مع الله، وفقهم سبحانه إلى ما أرادوا.
وينافي الإخلاص والصدق: الرياءُ -نعوذ باللّه من الرياء-.
روى أهل السنن من حديث معاذ ، رضي الله عنه، أنه وقف عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى، فمرَّ به عمر ، رضي الله عنه، فقال: ما لك يا معاذ ؟
قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكاني.
قال: وما هو؟
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن يسير الرياء شرك، وإن من عادى لله ولياً فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يُدعوا ولم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة) (1) .
فكانوا يهربون من الشهرة التي يُقصد منها الرياء والسمعة؛ لأنها تنافي الإخلاص، لأن من يريد ما عند الله عز وجل، لا يهمه أعرفه الناس أم لم يعرفوه.
ومن حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله هباءً منثوراً! قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) (1) .
فهم أمام الناس عُبّاد وزُهّاد ونساك، ولكنهم في الظلام ذئاب.
إن الذي رفع علماءنا، وسلفنا الصالح، هو: إخلاصهم، وصدقهم مع الله تعالى.
وكل شيء ينتهي إلا الصدق، فهو مؤنس لصاحبه في قبره.
وقد ذكر أهل التراجم أن عبد الغني المقدسي ، رحمه الله، المحدث، الخطير، الشهير، كان مسجوناً في بيت المقدس، فقام من الليل صادقاً مع الله تعالى مخلصاً لله تعالى يناجيه سبحانه.
وكان معه في السجن قوم من اليهود و النصارى محبوسين.
فأخذ يبكي حتى الصباح.
فلما أصبح الصباح، وقد رأى هؤلاء الكفار، هذا الصالح العابد ذهبوا إلى السجَّان، وقالوا: أطلقنا، فقد أسلمنا، ودخلنا في دين ذاك الرجل.
قال: كيف ذلك؟
قالوا: قد بتنا معه ليلة ذكّرنا فيها بيوم القيامة، فهو، رحمه الله، قد دعاهم بعمله، وإخلاصه، وصدقه مع ربه، ولم يدعهم بلسانه، فكان أبلغ في التأثير في نفوسهم، فأسلموا.
وقال أهل العلم في ترجمة أيوب السختياني : أنه كان إذا خرج إلى السوق، ورأى الناس وجهه قالوا: لا إله إلا الله.
لأنهم يذكرون برؤيته الحي القيوم، فما كان يتحدث، وما كان يدعو، لكن إذا رآه الناس ذكروا الله تعالى.
والإمام أحمد ، رحمه الله، لم ينقذه في محنته التي أصابته بعد الله عز وجل، إلا الصدق والإخلاص.
فقد سجنوه، وآذوه لعله أن يعود لرأيهم المبتدع، لكنه لم يستسلم، ولم يهن، وإنما ظل صابراً، وإلى أن أعلى الله كلمته، وخذل من تسبب في أذيته من رؤوس البدعة: كـأحمد بن أبي دؤاد ، الذي دعا عليه الإمام أحمد بأن يُحبس في جسده، فأصابه فالج، فأصبح نصف جسده مشلول ويابس.
فكان يقول: أما جسمي هذا، فوالله لو قطع بالمناشير لما أحسست، وأما نصفي الآخر لو وقع عليه ذباب لآلمني.
وأما عدوه الآخر: ابن الزيات، فقد نكل الله به، فقُطعت يداه، وحبس.
وهذا جزاء الصدق مع الله، والإخلاص له: أن يحفظك الله تعالى في مواقف الشدة والكرب، وينصرك على أعدائك.
روى أهل التاريخ أن: صلة بن أشيم حضر معركة في الشمال مع جيش الإسلام، فلما أظلم عليه الليل قام يتهجد لله تعالى.
قال أحد تلاميذه يروي الخبر: لقد تواريت خلف شجرة حيث أراه ولا يراني، وإذا بـالليث ، وهو يُقبل من الغابة إلى صلة، فيقف بجانبه وصلة يصلي للواحد الأحد.. وصلة يجعل بينه وبين الله صلة.
فلما انتهى من صلاته، نظر إلى الأسد، وقال: يا حيدرة، إن كنت أمرتَ بقتلي، أو بأكلي، فتقدم، وكُلني، وإن كنتَ لم تؤمر بذلك، فاذهب لأرض الله تعالى واتركني أناجي الله تعالى.
قال: فزأر الأسد زئيراً، كاد يخلع قلبي، ثم انطلق.
واستمر صلة في صلاته.
فلما أصبحنا رأيت في نفسي شيئاً من الفتور والكسل، ورأيت وجه صلة كفلقة القمر ليلة أربعة عشر.
قيل للحسن البصري: ما للصادقين المخلصين وجوههم مضيئة نيرة؟
قالوا: خلوا بنور الله تعالى في الظلام، فأكسبهم نوراً من نوره.
وفي المقابل: الذين لا يصدقون مع الله، ولا يريدون وجهه، تتساقط أعمالهم أحوج ما كانوا إليها، وتذهب سدى ((وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)).
قال شفي الأصبحي: دخلت على معاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنه وأرضاه، فقال: حدثني يا شفي حديثاً سمعته من أبي هريرة.
قال: فحدثته بحديث النفر الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار (العالم والجواد والشجاع (1) ، قال: فلما انتهيت من حديثي بكى بكاءً شديداً، ثم مرغ وجهه في التراب، وقال: صدق الله ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)). فنسأل الله أن لا يحبط أعمالنا، ولا أعمالكم، وأن يحفظها عنده.
ولذلك يتذكر المخلص إخلاصه، يوم تأتيه الوفاة، ويُراجع حسابه.
وكثير من الناس نائم، وغافل حتى تأتيه سكرات الموت، فيستفيق، فيراجع حسابه، ويندم ساعة الموت، التي يُذعن فيها الجبار، ويلين فيها المتكبر، ويُسلم فيها الكافر.
قيل لـعمرو بن العاص رضي الله عنه، في سكرات الموت: صف لنا الموت، فقال: [والله، لكأن جبال الدنيا على صدري، ولكأني أتنفس من ثقب إبرة].
والصدق والإخلاص يرفع درجات العبد، ويزكي أعماله، وإن لم تكن كثيرة؛ لأنها تكون غير مشوبة بأي شائبة من رياء، أو شرك، أو غير ذلك مما يُفسد العبادات.
ولذلك نعلم لماذا فاق أبو بكر ، رضي الله عنه، الصحابة كلهم وجاء في المرتبة الأولى قبلهم.
أهو بكثرة صلاته؟
أم صيامه؟
أم حجه؟
أم تنفله؟
لا.. ليس بهذا، بل قد يكون مثلهم في كل هذا، لكنه فاقهم بصدقه، ولذلك لزمه لقب ( الصديق )؛ لأنه صادق في أقواله وأعماله.
ولذلك يقول أحد التابعين: والله ما فاقهم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه.
فيا أحبابي في الله! عليكم بالصدق، والإخلاص لله، فإنه من خير الأعمال، وهو المرجّح لأعمالكم، والمزكي لها، ولو كانت قليلة.
فرب عمل قليل كثره الصدق والإخلاص.
وربّ عمل كثير قلله الرياء والكذب.
والإخلاص شرط من شروط قبول العمل، فإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، ومتابعاً فيه طريقة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال هذا الفضيل بن عياض وغيره.
قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)).
أي أن يكون العمل (خالصاً صواباً).
أسأل الله أن يوفقني وإياكم للصدق والإخلاص في القول والعمل.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
د.عائض القرني
تعليق