الصبر عائض القرني
قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا))الصبر قلعة حصينة لا يقتحمهما جيش، ولا يدخلها عدو، والصبر جنة حصينة لا ينفذها سهم، ولا يلجها نبل.
الصبر مجاهدة الإحباط، ومراغمة الفشل، ومنازلة الخطوب.
الصبر قبض على الجمر، وستر للجرح، وكتمان للمصيبة، وتنسم للهواء، الصبر زاد لا ينفد، ومعين لا ينضب، وصاحب لا يمل.
لا يعالج خور الطبيعة إلا بالصبر، ولا يضمد جرح النفس إلا بالصبر، إن الصبر مسلاة للهموم، ومسرة للمغموم، وروح للمنهك، وعزاء للمصاب.
إذا كان معك الصبر فلا عليك من عدد العدو وعتاده، ولا من ناره وزناده، وتلق الخطوب الكوالح وأنت ضاحك، وصارع النكبات الدهم وأنت باسم:
تنكر لي خصمي ولم يدر أنني أعز وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخصم كيف عتوه وبت أريه الصبر كيف يكون
من أضجت قلبه الأزمات فدواؤه الصبر، ومن أدمت عينيه النكبات فضمادها الصبر. تأتي الكربات ظلمات بعضها فوق بعض عاصفة ناسفة قاصفة فيأتي الصبر فيكشحها. يتألف الحساد والشامتون على المصاب المنكوب فيطوف عليهم طائف من الصبر فإذا هو يلقف ما يأفكون.
يوم لا قريب يواسي، ولا صديق يعزي، ولا صاحب يتفجع، ينوب الصبر عن الجميع، ويتكلم بلسان الكل، ويؤدي واجب الصحبة والقرابة.
والصبر الجميل لا شكوى فيه فلا يخدش وجه محاسنه اعتراض ولا يلثم تاجه تسخط.
والصبر الجميل سكون للقضاء، واطمئنان للعاقبة، وانتظار للفرج، واحتساب للأجر.
وقد يقع الصبر ولكن لا يكون جميلاً، فلا يكتم صاحبه شكوى، ولا يسر حديثاً، ولا يدع معاتبة.
الصبر غير الجميل تحمل مع أنين، وتجلد مع تكلف، وتصبر بلا تجمل.
ولكن الصبر الجميل هو حمل المصيبة بصمت، وتلقي الفاجعة بسكون، وتقبل الصدمة برضا.
لا يجد الشامت دليلاً على المصاب يدان به، ولا يرى الحاسد أثراً للنكبة على المنكوب، فيرقص طرباً.
ومما يعين على الصبر الجميل: اعتقاد فساد الحيلة في دفع القدر، وصحة العاقبة لمن احتسب وصبر، والنظر فيما بقي من الخلف في النفس والولد والدين والمال، ومشاهدة خيام أهل البلاء، ومطالعة أدوية المصابين، ففي كل واد بنو سعد، وما خلت جيبة من مصيبة، ومع كل فرح ترح، وعند الحبرة عبرة: ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى)) ومن شاء أن يطالع دفتر الخليقة منذ النشأة ليرى النكبات تترى، والمصائب تتساقط، ما بين مقتول ومخذول، ومعزول ومبتول، وما بين صائح ونائح، وطائح وغريق، وحريق وسحيق، دول زالت، ملوك ذلت، قصور هوت، جيوش أبيدت، قرون سلفت، حدائق ذبلت، دور خلت، مهج ذهبت، ((هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)).
قال وزير شهير خطير كبير، عزل، ثم صودر، ثم حوسب، ثم سجن، ثم قتل، فلما خرجوا به إلى ساحة الإعدام، تبسم ثم أنشد:
فمن كان عني سائلاً بشماتة ومن كان عني شامتاً غير سائل
فقد أظهرت مني الخطوب ابن حرة صبوراً على أهوال تلك الزلازل
الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فمن لا رأس له لا جسد له، ومن لا صبر له لا إيمان له.
هذا شاعر يفجع بأبنائه السبعة يموتون مرة واحدة فيطعن سبع طعنات نجلاء ولكنه يراجع الصبر ويثوب إلى الرشد، ويترنم:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع
فهو الصمود والإصرار، والإباء والتحدي للشامتين، وإظهار التجمل والسرور بالمقدور، والرضا بالقضاء، والتسليم للعزيز الحكيم.
الطاعة لابد لها من صبر لتكون تماماً على الذي أحسن، فبالصبر يحسن أداؤها ويعظم إخلاصها، ويتجلى صدقها، وبعدم الصبر تكون جسماً بلا روح، وصورة بلا مضمون، وألفاظاً بلا معان.
المعصية لا تقاوم إلا بالصبر لئلا تضعف النفس، ويخور القلب، وتقع الواقعة.
فبالصبر لا تجد المعصية إلى القلب سبيلاً، ولا تقيم على خسة الطبع دليلاً، بل تعود المعصية من حيث أتت، فينهزم شيطانها المريد، ويخسأ إبليسها العنيد، وبعدم الصبر تقع النفس في وضر الخطيئة، وتتدنس الروح بأوحال الذنب؛ لأن النفس هزمت في مصاف المحاربة، وأسرت في فيلق المطالبة.
المصيبة لا تواجه إلا بصبر لتخف الوطأة، وتسهل الرزية، إذا عدم الصبر صارت المصيبة مصيبتين، والنكبة نكبتين، وإذا عدم الصبر زلزلت النفس زلزالها، وصاح نذير الهلع مالها؟
وإذا حصل الصبر حل الأجر، ونبل الذكر، وانشرح الصدر، ويوم يحضر الصبر مع المصيبة تصبح الخسائر أرباحاً، والمغارم مغانماً، والأتراح أفراحاً.
من أراد الحياة بلا صبر فقد أرادها على غير طبيعتها، ورآها على غير صورتها، فهو مستظل بالخيال صاحب أوابد وأمثال، فر من اليقظة إلى المنام، ومن الحقائق إلى الأحلام.
من عنده صبر فليدع الناس جانباً فقد حان نصره؛ لأن النصر مع الصبر، وقرب فرجه لأن الفرج مع الكرب، ودنا يسره لأن مع العسر يسراً.
ورد الصبر في القرآن على أضرب: أتى بصيغة الأمر والمدح له، ومدح الصابرين، وذكر أجرهم عند ربهم، والإشادة بحسن فعلهم، وذكر سلام الملائكة عليهم وصلوات الله ورحمته لهم، وعرض أوصافهم، فهم أهل حظ عظيم، ومهتدون، وفعلهم من عزم الأمور، فهنيئاً لهم.
الصابر يعيش بصبره في نعيم، والجازع يعيش بجزعه في جحيم، سجن الصابر جنة، وبليته عطية، ومحنته منحة، وفقره غنى، ومرضه عافية.
صبر آدم على مفارقة الوطن الأول من الجنة، وصبر نوح على فقد الولد، وصبر إبراهيم على مقام ذبح الابن، وصبر يعقوب على فراق يوسف ، وصبر موسى على أذى الطاغية، وصبر داود على مرارة الندم، وصبر سليمان على فتنة الدنيا، وصبر عيسى على ألم الفقر، وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فصبر عليها كلها، وعاشها كلها، وذاقها كلها، ففاز بالمقامات كلها، صبر على فراق الوطن، ومراتع الفتوة، وملاعب الصبا، وربوع الشباب، فترك الأهل والعشيرة والدار والمال، وصبر على فقد الولد، فسالت أرواح أبنائه بين يديه، وقعقعت أنفسهم أمام ناظريه.
وصبر على ألم الأذى فأوذي في المنهج والوطن، والسمعة والخلق، والرسالة والزوجة.
وصبر على شماتة العدو، وتنكر الصديق، وعقوق القريب، ونيل الحاسد، وتشفي الحاقد، وتألب الخصوم، وتكالـب الأحزاب، وتكاثر المناوئين، وصولة الباطل، وقلة الناصر، وصبر على شظاف العيش، وجفاف الفقر، ومضض الحاجة، وقلة ذات اليد، وجدب النفقة، وعوز المعيشة، وحرارة الجوع، ومرارة الفاقة.
وصبر على غلبة الخصم، وقلة القريب، وأسر الحبيب، وتشريد الأصحاب، والتنكيل بالأتباع، والجراح في البدن، وفزع التهديد والوعيد، وقعقعة الغارات، وأهوال الغزوات.
صبر على بطر الأغنياء، وزهو الكبراء، وشراسة الأدعياء، وجلافة الأعراب، وصلف الجهلة، وسوء أدب الجفاة.
صبر على خيانات اليهود ، ومراوغة المنافقين، ومجابهة المشركين، وبطء استجابة المدعوين.
ثم صبر على فرج الفتح، وسرور الانتصار، وجلبة إقبال الدنيا، وإذعان الملوك، واستسلام الجبابرة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً.
صبر وهو يرى الكنوز تفرغ في أوعية الناس فلم يأخذ منها درهماً واحداً.
وصبر وهو يشاهد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة يتقاسمها الناس ولم يحمل منها قطميراً.
صبر وهو يحوز قطعان الإبل والبقر والغنم كالآكام، ثم يوزعها على مسلمة الفتح، ولم يظفر بجمل أو بقرة أو شاة وصبر على سكنى بيت الطين، وعلى أكل الشعير، وعلى افتراش الحصير، وعلى ركوب الحمار، وعلى لباس الصوف.
الأب مات ولم يره، والأم توفيت ولم تتم رضاعه، والجد فارق الدنيا ولم يحطه برعاية، والعم ذهب وقت النضال، وخديجة ودعت يوم الحزن، والابن سالت روحه يوم تمام الحب، وعائشة ترمى ساعة كمال الأنس، وحمزة يقتل زمن المصاولة.
أنس بـالمدينة فنغص عليه المنافقون أنسه، استبشر بالنصر في بدر فأسرعته غصة الألم في أحد ، أزهر وجهه كالقمر ليلة البدر فشج بالسهام، وتلألأت أسنانه كالبرد فكسرت ثنيته في المعركة، سبقت ناقته الإبل فسبقها أعرابي على قعود، ليبقى أجره في الآخرة موفوراً، وسعيه عند ربه مشكوراً، وليلقى وليه ومعبوده مسروراً، ليجتمع له الثواب كله، أوله وآخره، قديمه وحديثه، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
واستحق ذلك لأنه صبر فله الزلفى، وتمام الرفعة والوسيلة والفضيلة والمنازل الجليلة؛ لأنه صبر.
وله المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، لأنه صبر.
وله الشفاعة، والخطاب، والقرب، والحظوة، لأنه صبر.
كذبوه، شتموه، سبوه، آذوه، فنزل: ((فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)).
حاربوه، نازلوه، شردوه، طاردوه، قاتلوه، فنزل: ((وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)).
هجروه، وأعرضوا عنه، وصدوا عن سبيله، ووقفوا في طريقه، فنزل: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا)).
طال عليه المدى، ترقب النصر، كثر العدو، تزاحمت النكبات، فنزل: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)).
رد عليه قومه أقذع رد، وأفظع جواب، وأبشع خطاب، وأقبح مواجهة، فنزل: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)).
فصبر صلى الله عليه وسلم صبراً جميلاً في كل مقامات العبودية، صبر في رضاه وغضبه، وسلمه وحربه، وغناه وفقره، فصار إمام الصابرين، وقدوة الشاكرين.
اللهم ثبتنا على سنته، ووفقنا لسيرته، وانصر بنا دعوته.والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
تعليق