المكفِّرات العشر د.عائض القرني
المكفِّر الأول: يقول شيخ الإسلام : هو الاستغفار، ونص على ذلك في فتاويه ، وقال في وصيته إلى أبي القاسم المغربي : إن الاستغفار قد يكون مكفراً بلا توبة، وهذا خلاف ما ذهب إليه بعض أهل العلم؛ لأنهم يقولون أن الاستغفار بلا توبة لا طائل تحته.بل تحته كل طائل، وتحته كل فائدة، وتحته كل نفع، فإن الله ذكر التوبة، والاستغفار في القرآن على ثلاثة صور: فمرة يذكر الاستغفار والتوبة، ومرة يذكر التوبة مجردة، وثالثة يذكر الاستغفار مجرداً.
من هذا يرى ابن تيمية رحمه الله، أن الاستغفار ينفع، ولو بدون توبة لمن أذنب، وهو يستغفر دائماً؛ لأنه قد ينفع بلا توبة من باب الاستجابة.
وسنستعرض في هذا الفصل أنبياء الله الذين أكثروا من الاستغفار في مواطن متنوعة.
وأولهم: نوح عليه السلام الذي يقول: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا)).
فجزاه الله خيراً عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه استغفر لنا، ولذلك أمر الله الأنبياء بعد الملائكة أن يستغفروا للمؤمنين: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا))، فهذا من بركة الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، أن سخّر لهم من الملائكة من يستغفر لهم.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)).
قال عبد الله بن سرجس رضي الله عنه: يا رسول الله، غفرَ الله لك.
فتبسَّم صلى الله عليه وسلم.
والصحابي لا يريد قصداً أن يستغفر للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكنه يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذو كرم وذو قرب من الله فسوف يرد عليه الكلمة بمثلها.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ولك).
فقال الصحابة: هنيئاً لك يا ابن سرجس، استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: والله لقد استغفر لي ولكم.
قالوا: أين ذاك؟
قال: أما يقول الله سبحانه وتعالى: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) (1) .
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لنا في السجود، فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء، ما أبرَّه وما أرحمه!!
ويقول الله تبارك وتعالى عن إبراهيم عليه السلام: ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)).
ويقول موسى عليه السلام: ((رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
قال بعدها موسى عليه السلام: ((رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ))، فأخذ العلماء من هذه الآية أن الواجب على المسلم إذا أنعم الله عليه أن يكون دائماً ظهيراً للمحسنين، وعدواً للمجرمين، ولا يكون ظهيراً للمجرمين.
وثبت أن عمر رضي الله عنه وأرضاه، كان يمر في صلاة الفجر فيطرق على أبواب أبنائه عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فيقول: ((رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ))، ما دام أنعمت عليّ، وهديتني، فأعاهدك أن لا أكون في صف المجرمين، ولو كانوا أبنائي هؤلاء الذين هم في نومهم.
وأما يونس فيقول: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، وإذا كثرت عليك الذنوب فقل: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، وإذا أيست وخفت واستوحشت فقل: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)).
وإذا رأيت في نفسك بُعْداً وفي قلبك قسوة وفي روحك تَفلتاً فقل: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)).
فهي من أجلّ الكلمات، فواجب على المسلم أن يردِّدها دائماً قائماً وقاعداً وعلى جنبه؛ لأنها حوت العقيدة وحوت تنزيه الله تبارك وتعالى، وحوت الاعتراف، وحوت الاستغفار.
يونس عليه السلام، فعل ذنباً سهلاً في عالمنا نحن، ولكنه كبير عند الأنبياء عليهم السلام، أرسله الله إلى مائة ألف من الناس ليدعوهم إلى الله، فلما أعرضوا خرج بدون طلب إذن من الله، وفرّ منهم، ولكن يد الله تلاحقه، وعين الله تنظره، ورعاية الله تحوطه، ومحاسبة الله من ورائه، فركب البحر.
ولكن الخطيئة تكدِّر السفر، وتكدِّر الحِلَّ والترحال، وتكدِّر الوقت، فأرسل الله الرياح تموج بالسفينة؛ لأن صاحب خطيئةٍ، ولو كان نبياً مطهَّراً موجود في السفينة، فلعبت الرياح بالسفينة فقال صاحب السفينة: إن فيكم مذنباً فنريد أن نقترع، فمن وقعت عليه القرعة، فليخرج من السفينة؛ لننجو بأنفسنا، فقد لاحقنا الموت، وأتانا الموت من كل مكان.
فاقترعوا ثلاث مرات، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، فوقعت القرعة على يونس عليه السلام، وهو أطهر من ركب السفينة، وأبر وأخلص، لكنه تأديب من الله سبحانه وتعالى.
وفي المرة الثالثة؛ استسلم لأمر الله، فأخذوه بيديه، ورجليه، فرموه في البحر، وكان هذا في مكان منقطع، لا معين إلا الله، ولا مؤنس إلا الله، وبقدرة الله أن تلقَّفه حوت كبير، فأوى إلى بطنه في الظلمة، فأصبح في ظلمات ثلاث ((ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ)).
حينها أصبح في موقف يأس، وفي وقت رُعب، وفي وحشة لا يعلمها إلا الله، من يتذكر في هذا المكان؛ يتذكر أباه، أو أمه، أو زوجته، أو أخاه، أو ولده.
لا.. بل الله سبحانه وتعالى.
فقال: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، فجاء الرد سريعاً من المولى جلَّت قدرته: ((فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)).
وشاهدُنا هنا هي هذه الكلمة: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))، التي ينبغي أن نحفظها، وأن نتذكرها في ركوبنا، وجلوسنا، وفي لقائنا، وفي سفرنا، نتذكر هذه الكلمة العظيمة.
ويأتي محمد صلى الله عليه وسلم فيأتي بالاستغفار، أو بألذ كلمات الاستغفار، وبأعذبها، وبأصدقها صلى الله عليه وسلم.
يقوم لصلاة الليل فيقول كلمات تكاد تنخلع لها القلوب، يتوضأ، ثم يتسوَّك صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: (اللهم لك الحمد، أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيّون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق).
ثم يقول بعدها: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخَّرت، وما أسرَرت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير) (1) .
ويقول في حديث أبي موسى في دعاء الليل: (اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي..) (1) .
وكان يقول في سجوده: (اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره) (1) .
فهل سمعتم باستغفار أشمل وأعم من هذا الاستغفار؟
فكونه أعلم الخلق بالله، فهو أخشى الخلق لله تبارك وتعالى، ولذلك يقول في حديث عائشة رضي الله عنها: (إنَّ أتقاكم وأعلمكم بالله أنا) (1) وصدق صلى الله عليه وسلم.
هذا هو موقف الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، من الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه.
فالواجب أن نقتدي بهم؛ لأنهم أشرف الخلق، وهم قدوتنا، فنكون ممن قال تعالى فيهم: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا الله فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا الله وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)).
واسمع لبلاغة القرآن، لم يقل بعدها وهم ارتكبوا جريمة وفاحشة وظلماً إنما قال: ((أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ))، ولم يقل: أن نغفر لأن (مغفرةٌ) اسم ثابت دائم، ونغفر فعل لا يدوم.
أما فوائد الاستغفار فإنها في القرآن وفي السنة تشتمل على أمور وقد تجتمع في ست فوائد ومنافع:
منها: المتاع الحسن.
ومنها: صرف المصائب.
ومنها: الرزق الحلال.
ومنها: تكفير الخطايا.
ومنها: تفريج الكرب.
أما في المتاع الحسن: فيقول سبحانه وتعالى على لسان هود: ((وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا)).
قال ابن تيمية : هو المتاع الحسن في الجسم، وفي البدن، ولذلك يدرأ الله سبحانه وتعالى الأوصاب، والقلق، والاضطراب عن المستغفرين، فلا تجد القلق، ولا الشرود، ولا الذهول، ولا عدم الارتياح ولا الشقاوة إلا في الذين أعرضوا عن الاستغفار، وعن اللجوء إلى الله.
ويدخل المتاع الحسن في الأهل، وفي الذرية، وفي الحياة.
وأما صرف المصائب: فإن المستغفرين أقل الناس مصائباً.
يقول محمد بن جعفر : لو نزلت صاعقة من السماء لأصابت كل الناس إلا المستغفرين؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ))، فدرأ الله عنهم المصيبة، فما أنزل عليهم صاعقة من السماء، وما أرسل عليهم الريح كما فعل ببعض الأمم، وما اجتاحهم بعاصفة، وما أغرقهم بالماء كما فعل بقوم نوح ؛ لأنهم -أي كفار قريش- يستغفرون بقول: (لبيك اللهم لبيك) (1) .
فما بالك بالمسلم الذي يؤدي الصلوات الخمس، ويخاف الله، ولكن يعصي الله بعض الأوقات؟
فهو أولى من أولئك الكفرة.
أما النتيجة الثالثة للاستغفار، فهو: الرزق الحلال، والذرية الصالحة، يقول بعض أهل العلم بأحوال القلوب: إذا أردت ذرية صالحة، فعليك بكثرة ذكر الله عزّ وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يجعل للصالح أثراً في أبنائه إلى يوم الدين.
ولذلك ورد في حديث قدسي أن الله تبارك وتعالى يقول: (إني إذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإذا غضبت لعنت وإن لعنتي لتبلغ السابع في الولد) (1) .
بسبب ماذا؟
بسبب هذا المجرم الذي اكتسب الجرم، ثم ذهب إجرامه في الذرية، فالمرابي يذهب رباه إلى ذريته فيفسدهم، والزاني يذهب زناه إلى ذريته فيفسدهم، والمُعرض عن الله لا يحفظه الله في ذريته.
والدليل في قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)).
فهذا فيه الرزق الحلال، والذرية الصالحة، فمن أراد أن يرزقه الله من حيث لا يحتسب، فليكثر من الاستغفار، وليجعل أوقاته وساعاته كلها استغفاراً، ليرى النتائج العظيمة من الله تبارك وتعالى.
أما تكفير الخطايا: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم بسند حسن من رواية الزبير بن العوام الحواري رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن تسرَّه صحيفته يوم القيامة فليكثر من الاستغفار) (1) .
تُعرض علينا الصحف يوم القيامة فنرى الخطايا، والذنوب، والسيئات، والجرائم رأي العين، ((وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا))، ثم يأتي الاستغفار بين الأسطر فتجد كلمة (أستغفر الله) (أستغفر الله)، فيمحو الله سبحانه وتعالى ما بينها، ويجعلك من المقبولين عنده.
وأما تفريج الكرب: فإنه ثبت في المسند وغيره: (من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه الله من حيث لا يحتسب) (1) .
أما أوقات الاستغفار: فمن أحسن أوقاته: السحر، وهي تلكم الساعة العظيمة الجليلة التي ينام فيها الناس، ويغفل فيها الناس، ويقوم الخواص لعبادت.والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
اللهم اغفر لي وللمؤمنين وللمؤمنات الاحياء والاموات
تعليق