أي هجران بعد هذا الهجران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران..؟!
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
نقف وقفة تأمل مع قول الله -تبارك وتعالى-:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(17) سورة القمر. فنتأمل أقوال المفسرين في ذلك، لنعلم أن الله تعالى قد سهَّل تلاوة وحفظ كتابه الكريم. فهو حاضرٌ سهل التناول، ميسر الإدراك فيه جاذبية متكررة؛ ليقرأ ويتدبر، وفيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة واستجابة الطبع، لا تنفذ عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، وكلما تدبره القلب عاد منه بزادٍ جديد وكلما صحبته النفس زادت به ألفة وله أنساً.
قال القرطبي -رحمه الله-وهو يفسر هذه الآية:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}
أي: "سهّلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالبٍ لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، مأخوذ من يسَّر ناقته للسفر: إذا رحَلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه كما قيل :
وقمت إليه باللجام ميسراً هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن. وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظراً غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلب، فيسَّر الله -تعالى- على هذه الأمة حفظ كتابه؛ ليذكروا ما فيه، أي: يفتعلوا الذكر والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}قارئ يقرؤه . وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكُرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. 1
وقال الألوسي في روح المعاني: "وقيل المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وخلوه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب، وحلاوة في السمع فهل من طالبٍ لحفظه ليعان عليه ؟ ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن. وأخرج ابن المنذر وجماعة أنه قال: يسرنا القرآن هوّنا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله يسّره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الناس أن يتكلم بكلام الله -تعالى-.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مر برجل يقول: سورة خفيفة، فقال: لا تقل ذلك ولكن قل : سورة يسيرة؛ لأن الله -تعالى- يقول :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}والمعنى: الذي ذكر أنسب بالمقام. 2
وقال ابن كثير:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}أي: سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده؛ ليتذكر الناس كما قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}وقال -تعالى-: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين }، وقال الضحاك :عن ابن عباس: لولا أنّ الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى. قلت: ومن تيسيره -تعالى- على الناس تلاوة القرآن: ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف)3.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: تعلُّم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، والله -جل وعلا- يقول في سورة القمر مرات متعددة:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، ويقول -تعالى- في الدخان:{فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه للعمل به والله -جل وعلا- يقول: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}....إلى أن قال: ولتعْلَم أن كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى.4
وهنا ندرك أن حفظ القرآن ميسر وسهل بإذن الله -تعالى-، لمن أراد حفظ كتاب الله تعالى ، وأنه سيتجاوز بإذن الله أي معوقات قد تعوقه ، لأن سبحانه سيسهل عليه حفظ كتابه إن كان صادقاً في ذلك ، مخلص النية ...
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحفظ كتابه ، وحسن عبادته ،...
والحمد لله رب العالمين .
________________
1 -انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/134).
2 -روح المعاني للألوسي (14/84).
3 -تفسير ابن كثير (4/266).والحديث في الصحيحين
4 -أضواء البيان (7/435-436).
فلقد أرسل الله تعالى نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من غياهب الظلمات.. وأيده سبحانه بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وكان القرآن الكريم أعظمها قدراً، وأعلاها مكانة وفضلاً. قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله أومن أو آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم تابعاً يوم القيامة) أخرجه البخاري برقم4696. إنه القرآن؛ كتاب الله ووحيه المبارك.. {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}هود:1. القرآن كلام الله المنزل، غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}الشعراء:192-194.
أحسن الكتب نظاماً، وأبلغها بياناً، وأفصحها كلاماً، وأبينها حلالاً وحراماً.{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}فصلت:42.
فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.. هو الجد ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد.. لا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.. {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء:166.
أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين. أعز الله مكانه، ورفع سلطانه، ووزن الناس بميزانه. من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، قال -صلى الله عليه وسلم-:(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين)رواه مسلم برقم817. إنها كرامة، وأي كرامة أن يكون بين أيدينا كتاب ربنا، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
حالنا مع القرآن:
من تأمل حالنا مع هذا الكتاب العظيم ليجد الفرق الشاسع والبون الواسع بين ما نحن فيه وما كان عليه سلفنا الصالح.
إهمالاً في الترتيل والتلاوة، وتكاسلاً عن الحفظ والقراءة، وغفلة عن التدبر والعمل، والأعجب من ذلك أن ترى كثيراً من المسلمين ضيعوا أوقاتهم في مطالعة الصحف والمجلات، ومشاهدة البرامج والمسلسلات، وسماع الأغاني والملهيات، ولا تجد لكتاب الله تعالى في أوقاتهم نصيباً!، ولا لروعة خطابه منهم مجيباً فأي الأمرين إليهم أحب؟! وأيهما إليهم أقرب؟!
ورسول الهدى-صلى الله عليه وسلم- يقول:(المرء مع من أحب يوم القيامة) أخرجه البخاري برقم5816. إن الكثير من الناس اليوم إذا قرؤا القرآن لم يحسنوا النطق بألفاظه، ولم يتدبروا معانيه ويفهموا مراده. فيمرون على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل{لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}الحشر:21، فلا ترق قلوبهم، ولا تخشع نفوسهم، ولا تدمع عيونهم، وصدق الله إذ يقول:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}البقرة:74. إننا - ولا حول ولا قوة إلا بالله- نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك مراميها، وكأن أمرها لا يعنينا، وخطابها لا يناجينا.. فقل لي بربك ما معنى الصَّمَدُ ؟ وما المراد بـ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ؟، وما هو الْخَنَّاسِ ؟.. والواحد منا يتلو هذه الآيات في يومه وليلته أكثر من مرة..؟!
أي هجران بعد هذا الهجران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران..؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والقرآن حجة لك أو عليك) رواه مسلم برقم223.
وقال عثمان -رضي الله عنه-:"لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
من هم أهل القرآن؟
اسمع - رعاك الله - إلى شيء من خبر أهل القرآن وفضلهم. فلعل في ذكرهم إحياء للعزائم والهمم، وترغيباً فيما نالوه من عظيم النعم.
فأهل القرآن هم الذين جعلوا القرآن منهج حياتهم، وقيام أخلاقهم، ومصدر عزتهم واطمئنانهم، هم الذين أعطوا كتاب الله تعالى حقه.. حقه في التلاوة والحفظ، وحقه في التدبر والفهم، وحقه في الامتثال والعمل. وصفهم الله تعالى بقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}الأنفال:2.
أنزلوا القرآن منزلته؛ فأعلى الله تعالى منزلتهم.. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله:(إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم2165.
رفعوا القرآن وأعطوه قدره، فرفع الله قدرهم، وأكرمهم. عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنّ من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه..) الحديث رواه أبو داود برقم4843 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم2199. ففضلهم ليس كفضل أحد، وعزهم ليس كعز أحد، فهم أطيب الناس كلاماً، وأحسنهم مجلساً ومقاماً.. تغشى مجالسهم الرحمة، وتتنزل عليهم السكينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)رواه مسلم برقم2699. وهم أولى الناس بالإمامة والإمارة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة) رواه مسلم برقم 673. ولما جاءت الواهبة نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجلست، قام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، وفيه.. قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا وكذا، فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم، فقال: (اذهب فقد ملكتها لما معك من القرآن)أخرجه البخاري برقم 1956. بل وحتى عند الدفن فلصاحب القرآن فيه شأن.. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول:(أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟)أخرجه أبو داود برقم213 وصححه الألباني. فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد.وهم مع ذلك في حرز من الشيطان وكيده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)رواه مسلم برقم870. وهم كذلك في مأمن من الدجال وفتنته.. فعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )رواه مسلم برقم809.
هذا شيء من منزلتهم في دار الفناء، أما في دار البقاء فهم من أعظم الناس كرامة وأرفعهم درجة وأعلاهم مكانة.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) رواه أبو داود برقم1464وصححه الألباني في صحيح أبي دواد برقم 1300.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلّهِ، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة)رواه الترمذي برقم2915 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم8030. وهم مع هذا في موقف القيامة آمنين إذا فزع الناس، مطمئنين إذا خاف الناس، شفيعهم القرآن، وقائدهم هنالك سوره الكرام..
فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)رواه مسلم برقم804، وعن النواس بن سمعان الكلابي قال:: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد- قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان1 سوداوان بينهما شرق2 أو كأنهما حزقان3 من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)رواه مسلم برقم805.
فهل يا ترى يضيرهم بعد ذلك شيء..؟!
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0000000000000
1 - الظلة : كل ما يستظل به.
2 - ضياء ونور.
3 - جماعتان
===================
القرآن الميسر
نقف وقفة تأمل مع قول الله -تبارك وتعالى-:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(17) سورة القمر. فنتأمل أقوال المفسرين في ذلك، لنعلم أن الله تعالى قد سهَّل تلاوة وحفظ كتابه الكريم. فهو حاضرٌ سهل التناول، ميسر الإدراك فيه جاذبية متكررة؛ ليقرأ ويتدبر، وفيه جاذبية الصدق والبساطة وموافقة الفطرة واستجابة الطبع، لا تنفذ عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد، وكلما تدبره القلب عاد منه بزادٍ جديد وكلما صحبته النفس زادت به ألفة وله أنساً.
قال القرطبي -رحمه الله-وهو يفسر هذه الآية:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}
أي: "سهّلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ، فهل من طالبٍ لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، مأخوذ من يسَّر ناقته للسفر: إذا رحَلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه كما قيل :
وقمت إليه باللجام ميسراً هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله يقرأ كله ظاهراً إلا القرآن. وقال غيره: ولم يكن هذا لبني إسرائيل، ولم يكونوا يقرؤون التوراة إلا نظراً غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلب، فيسَّر الله -تعالى- على هذه الأمة حفظ كتابه؛ ليذكروا ما فيه، أي: يفتعلوا الذكر والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم.
{فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}قارئ يقرؤه . وقال أبو بكر الوراق وابن شوذب: فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه، وكُرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام. 1
وقال الألوسي في روح المعاني: "وقيل المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وخلوه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب، وحلاوة في السمع فهل من طالبٍ لحفظه ليعان عليه ؟ ومن هنا قال ابن جبير : لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن. وأخرج ابن المنذر وجماعة أنه قال: يسرنا القرآن هوّنا قراءته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله يسّره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الناس أن يتكلم بكلام الله -تعالى-.
وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مر برجل يقول: سورة خفيفة، فقال: لا تقل ذلك ولكن قل : سورة يسيرة؛ لأن الله -تعالى- يقول :{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}والمعنى: الذي ذكر أنسب بالمقام. 2
وقال ابن كثير:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}أي: سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده؛ ليتذكر الناس كما قال: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}وقال -تعالى-: {فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين }، وقال الضحاك :عن ابن عباس: لولا أنّ الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى. قلت: ومن تيسيره -تعالى- على الناس تلاوة القرآن: ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف)3.
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: تعلُّم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة، والله -جل وعلا- يقول في سورة القمر مرات متعددة:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، ويقول -تعالى- في الدخان:{فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه للعمل به والله -جل وعلا- يقول: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}....إلى أن قال: ولتعْلَم أن كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى.4
وهنا ندرك أن حفظ القرآن ميسر وسهل بإذن الله -تعالى-، لمن أراد حفظ كتاب الله تعالى ، وأنه سيتجاوز بإذن الله أي معوقات قد تعوقه ، لأن سبحانه سيسهل عليه حفظ كتابه إن كان صادقاً في ذلك ، مخلص النية ...
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحفظ كتابه ، وحسن عبادته ،...
والحمد لله رب العالمين .
________________
1 -انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/134).
2 -روح المعاني للألوسي (14/84).
3 -تفسير ابن كثير (4/266).والحديث في الصحيحين
4 -أضواء البيان (7/435-436).
=================
القرآن يا أمة القرآن
أحسن الكتب نظاماً، وأبلغها بياناً، وأفصحها كلاماً، وأبينها حلالاً وحراماً.{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}فصلت:42.
فيه نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا.. هو الجد ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.. وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم.. هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلَق على كثرة الرد.. لا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم.. {لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً}النساء:166.
أنزله الله رحمةً للعالمين، ومحجةً للسالكين، وحجةً على الخلق أجمعين، ومعجزةً باقية لسيد الأولين والآخرين. أعز الله مكانه، ورفع سلطانه، ووزن الناس بميزانه. من رفعه؛ رفعه الله، ومن وضعه؛ وضعه الله، قال -صلى الله عليه وسلم-:(إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين)رواه مسلم برقم817. إنها كرامة، وأي كرامة أن يكون بين أيدينا كتاب ربنا، الذي أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
حالنا مع القرآن:
من تأمل حالنا مع هذا الكتاب العظيم ليجد الفرق الشاسع والبون الواسع بين ما نحن فيه وما كان عليه سلفنا الصالح.
إهمالاً في الترتيل والتلاوة، وتكاسلاً عن الحفظ والقراءة، وغفلة عن التدبر والعمل، والأعجب من ذلك أن ترى كثيراً من المسلمين ضيعوا أوقاتهم في مطالعة الصحف والمجلات، ومشاهدة البرامج والمسلسلات، وسماع الأغاني والملهيات، ولا تجد لكتاب الله تعالى في أوقاتهم نصيباً!، ولا لروعة خطابه منهم مجيباً فأي الأمرين إليهم أحب؟! وأيهما إليهم أقرب؟!
ورسول الهدى-صلى الله عليه وسلم- يقول:(المرء مع من أحب يوم القيامة) أخرجه البخاري برقم5816. إن الكثير من الناس اليوم إذا قرؤا القرآن لم يحسنوا النطق بألفاظه، ولم يتدبروا معانيه ويفهموا مراده. فيمرون على الآيات التي طالما بكى منها الباكون، وخشع لها الخاشعون، والتي لو أنزلت على جبل{لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}الحشر:21، فلا ترق قلوبهم، ولا تخشع نفوسهم، ولا تدمع عيونهم، وصدق الله إذ يقول:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}البقرة:74. إننا - ولا حول ولا قوة إلا بالله- نمر على الآيات تلو الآيات، والعظات تلو العظات، ولا نفهم معانيها، ولا ندرك مراميها، وكأن أمرها لا يعنينا، وخطابها لا يناجينا.. فقل لي بربك ما معنى الصَّمَدُ ؟ وما المراد بـ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ ؟، وما هو الْخَنَّاسِ ؟.. والواحد منا يتلو هذه الآيات في يومه وليلته أكثر من مرة..؟!
أي هجران بعد هذا الهجران، وأي خسران أعظم من هذا الخسران..؟!
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والقرآن حجة لك أو عليك) رواه مسلم برقم223.
وقال عثمان -رضي الله عنه-:"لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم".
من هم أهل القرآن؟
اسمع - رعاك الله - إلى شيء من خبر أهل القرآن وفضلهم. فلعل في ذكرهم إحياء للعزائم والهمم، وترغيباً فيما نالوه من عظيم النعم.
فأهل القرآن هم الذين جعلوا القرآن منهج حياتهم، وقيام أخلاقهم، ومصدر عزتهم واطمئنانهم، هم الذين أعطوا كتاب الله تعالى حقه.. حقه في التلاوة والحفظ، وحقه في التدبر والفهم، وحقه في الامتثال والعمل. وصفهم الله تعالى بقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}الأنفال:2.
أنزلوا القرآن منزلته؛ فأعلى الله تعالى منزلتهم.. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله:(إن لله تعالى أهلين من الناس، أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم2165.
رفعوا القرآن وأعطوه قدره، فرفع الله قدرهم، وأكرمهم. عن أنس بن مالك قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إنّ من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه..) الحديث رواه أبو داود برقم4843 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم2199. ففضلهم ليس كفضل أحد، وعزهم ليس كعز أحد، فهم أطيب الناس كلاماً، وأحسنهم مجلساً ومقاماً.. تغشى مجالسهم الرحمة، وتتنزل عليهم السكينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)رواه مسلم برقم2699. وهم أولى الناس بالإمامة والإمارة.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة) رواه مسلم برقم 673. ولما جاءت الواهبة نفسها للنبي -صلى الله عليه وسلم- فجلست، قام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها، وفيه.. قال: (ماذا معك من القرآن؟) قال: معي سورة كذا وكذا، فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك؟) قال: نعم، فقال: (اذهب فقد ملكتها لما معك من القرآن)أخرجه البخاري برقم 1956. بل وحتى عند الدفن فلصاحب القرآن فيه شأن.. فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول:(أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟)أخرجه أبو داود برقم213 وصححه الألباني. فإذا أشير إلى أحدهما قدّمه في اللحد.وهم مع ذلك في حرز من الشيطان وكيده. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)رواه مسلم برقم870. وهم كذلك في مأمن من الدجال وفتنته.. فعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال )رواه مسلم برقم809.
هذا شيء من منزلتهم في دار الفناء، أما في دار البقاء فهم من أعظم الناس كرامة وأرفعهم درجة وأعلاهم مكانة.
فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) رواه أبو داود برقم1464وصححه الألباني في صحيح أبي دواد برقم 1300.وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلّهِ، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ وارق، ويزداد بكل آية حسنة)رواه الترمذي برقم2915 وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم8030. وهم مع هذا في موقف القيامة آمنين إذا فزع الناس، مطمئنين إذا خاف الناس، شفيعهم القرآن، وقائدهم هنالك سوره الكرام..
فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)رواه مسلم برقم804، وعن النواس بن سمعان الكلابي قال:: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد- قال: كأنهما غمامتان أو ظلتان1 سوداوان بينهما شرق2 أو كأنهما حزقان3 من طير صواف تحاجان عن صاحبهما)رواه مسلم برقم805.
فهل يا ترى يضيرهم بعد ذلك شيء..؟!
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
0000000000000
1 - الظلة : كل ما يستظل به.
2 - ضياء ونور.
3 - جماعتان
===================
تعليق