بسم الله الرحمن الرحيم
فضل الجهاد في سبيل الله (38-46)
فضل الجهاد في سبيل الله (38-46)
(38)
الفرع الثاني:الأحاديث الواردة في فضل الجهادحِرْصُ الصحابة على معرفة أفضل الأعمال وممارستها:
لقد كان أصحاب رسول الله – لشدة حرصهم على الإكثار من طاعة الله والاستزادة منها – يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال التي تُرضي ربهم عنهم، فيجيب على أسئلتهم، وقد تختلف إجابته من شخص لآخر، أو من حالة لأخرى، إذ أن السائل قد ينقصه أداء عمل من الأعمال الصالحة، فيذكره الرسول صلى الله عليه وسلم حثاًّ على أدائه، وقد يكون المقام يقتضي أداء عمل آخر من الأعمال الصالحة لحاجة المسلمين إليه، فيذكره صلى الله عليه وسلم حثاً على أدائه، وقد يكون المقام يقتضي أداء عمل آخر من الأعمال الصالحة لحاجة المسلمين إليه، فيذكره صلى الله عليه وسلم في إجابته حضاً على القيام به.. وهكذا.
سأل ابن مسعود رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، كما روى ذلك هو قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة على ميقاتها) قلت ثم أي ؟ قال: (ثم بر الوالدين) قلت ثم أي ؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني) [البخاري مع فتح الباري (6/3)، ومسلم (1/89)].
فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الجهاد في هذا الحديث في الدرجة الثالثة بعد حق الله، وحق الوالدين.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دُلني على عمل يعدل الجهاد، قال: (لا أجده)، قال: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر ؟) قال: ومن يستطيع ذلك ؟ قال أبو هريرة: (إن فرس المجاهد ليستنُّ في طِوَله [أي يذهب ويجيء في مرح ونشاط وهو مربوط في حبله، الفتح (6/5)]، فيكتب له حسنات) [البخاري رقم الحديث 2785، فتح الباري (6/4)، ومسلم (3/1498).
هذا الصحابي السائل كان يعلم فضل الجهاد، فأراد – والله أعلم – أن يدله الرسول صلى الله عليه وسلم على عمل يساويه يستطيع المداومة عليه في غير وقت الحرب. أو أنه إذا عجز عن مباشرة الجهاد الذي علم فضله يأتي بالعمل الذي يعدله وهو يقدر عليه، وفي كلتا الحالتين هو يدلُّ على حرص الصحابة رضي الله عنهم على زيادة العلم بالأعمال التي لها فضل كبير ليزاولوها وينالوا من الله ثوابها.
وقد أجابه الرسول صلى الله عليه وسلم بجوابين، كل منهما يدل على فضل الجهاد العظيم: الجواب الأول قوله: (لا أجده) أي لا أجد عملاً يعدل الجهاد وهو واضح في أفضلية الجهاد على ما سواه من الأعمال.
الجواب الثاني قوله: (هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر ؟)، وهذا الجواب كذلك يدل على أفضلية الجهاد على ما سواه من الأعمال، لأن القيام المستمر الذي لا فتور معه، والصيام المتواصل الذي لا إفطار معه عير مستطاعَيْن، كما أجاب بذلك السائل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن يستطيع ذلك ؟) وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الجواب. وقد نهى هو صلى الله عليه وسلم عن إجهاد النفس في القيام والوصال في الصيام، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين للسائل أن الاستمرار في القيام بالأعمال الصالحة مجتمعة – لو كانت مستطاعة – قد تعدل الجهاد، وفي هذا ما فيه من بيان فضل الجهاد في سبيل الله.
قال الحافظ: (وهذه فضيلة ظاهرة للمجاهد في سبيل الله تقتضي ألاَّ يعدل الجهادَ شيء من الأعمال)، وقال أيضاً: (قال القاضي عياض: اشتمل حديث الباب على تعظيم أمر الجهاد، لأن الصيام وغيره مما ذكر من فضائل الأعمال قد عدلها كلها الجهاد، حتى صارت جميع حالات المجاهد وتصرفاته المباحة معادلة لأجر المواظب على الصلاة وغيرها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تستطيع ذلك) [الفتح (6/5)].
يضاف إلى ذلك تعقيب أبي هريرة رضي الله عنه: (إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات)، والظاهر أن القاضي عياض يشير إلى هذا بحالات المجاهد وتصرفاته المباحة.
وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مؤمن يجاهد بنفسه وماله) قالوا: ثم من؟ قال: (مؤمن في شِعْب من الشِعاب، يتقي الله ويَدَع الناس من شره) [البخاري،مع فتح الباري (6/6)، ومسلم (3/1503)].
في هذا الحديث – كذلك – يبدوا حرص الصحابة على التنافس في الأعمال الصالحة التي هي أحب إلى الله، والسؤال هنا عن أفضل الناس، ولا يكون أفضل الناس إلا إذا أتى بأفضل ما يحبه الله ورسوله، وإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة في تعظيم الجهاد في سبيل الله حيث جعل المؤمن المجاهد هو أفضل الناس. بخلاف المؤمن المتقي الذي قَصَر نفسه على نفسه – أي إن أعماله الصالحة لا تتعداه إلى غيره – فإنه جاء في الدرجة الثانية، ثم إن هذا المؤمن المتقي الذي انزوى في شِعْب من الشِّعاب لا يكون له هذه الدرجة الثانية إلا إذا كان لابد من الانزواء مثل أن يكون الزمن زمن فتنة بين المسلمين، [راجع فتح الباري (6/84)]،وإلا فإن الاختلاط بالناس ونصحهم مع تقوى الشخص في نفسه أفضل من المتقي المنزوي بدون سبب.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد ؟ قال: (لَكُنَّ أفضل الجهاد، حج مبرور) [صحيح البخاري، مع فتح الباري (6/4)].
وفي الحديث دلالة واضحة على فضل الجهاد وتعظيمه من وجوه:
الوجه الأول: تطلُّع النساء إلى ما سبقهن به الرجال من هذا الفضل.
الوجه الثاني: قول عائشة رضي الله عنها: نرى الجهاد أفضل العمل وإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لقولها.
الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (لَكُنَّ أفضل الجهاد، حج مبرور) قيَّد كَوْن الحج أفضل الجهاد بكونه للنساء: (لَكُنَّ) وفي هذه زيادة تأكيد لكون الجهاد أفضل الأعمال لغير النساء.
وفي حديث أنس رضي الله عنه، قال: كُنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلالاً صاحب الكِساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر) [البخاري مع فتح الباري (6/84)، ومسلم (2/788)].
ويظهر في هذا الحديث فضل من قام بالخدمة في الغزو وهو مفطر، على من صام وعجز عن الخدمة لمشقة الصوم.
قال الحافظ رحمه الله: (بالأجر، أي الوافر، وليس المراد نقص أجر الصوم، بل المراد أن المفطرين حصل لهم أجر عملهم ومثل أجر الصوام لتعاطيهم أشغالهم وأشغال الصُوَّام) إلى أن قال: (قال ابن أبي صُفْرة: فيه أن أجر الخدمة في الغزو أعظم من أجر الصيام، قلت: وليس ذلك على العموم) [فتح الباري (6/84)].
قلت: هو كذلك في كل حالة تشبه هذه الحالة: من قام بأعمال الغزو كان أفضل ممن قام بعبادة لازمة شغلته عن عمل الغزو، لأن الجهاد أفضل العمل لا سيما في مثل هذا الوقت الذي يكون المسلمون أحوج فيه إلى التعاون في أعمال الجهاد. والله أعلم.
(39)
درجات المجاهدينوفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشِّر الناس ؟ قال: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة) [البخاري مع فتح الباري (6/11)].
بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حداً أدنى يقف عنده من أراد دخول الجنة غير منافِسٍ في درجاتها العُلاَ، وهو أن يؤمن بالله ورسوله، ويقيم الصلاة ويصوم رمضان، ولو لم يجاهد في سبيل الله، وحداً أعلى لمن طمحت نفسه إلى الفردوس والمنافسة في الدرجات العُلا.
وعندما سمع الصحابة رضي الله عنهم الشِّقَّ الأول من الحديث فرحوا به وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم بأن يبشروا الناس بذلك، فانتقل بهم إلى ما هو أعظم وأفضل، وهو بيان درجات المجاهدين التي لا ينالها غيرهم من الصنف الأول.
وليس في الحديث تسوية بين الجهاد وعدمه، كما توهم بعض العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم: (جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها) بل فيه أن أصل دخول الجنة مضمون له جاهد أو لم يجاهد، وهذا هو الحدّ الأدنى كما مضى، أما الحدّ الأعلى فقد ذكره بقوله: (إن في الجنة مائة درجة) الحديث، وهذه علة لترك التبشير، أي لا تبشِّروهم بما سبق، لئلا يتركوا الأفضل وهو أن في الجنة مائة درجة.. الخ
كما بين ذلك الحافظ مستدلاً برواية الترمذي ونصها: (قلت يا رسول الله ألا أخبر الناس ؟ قال: (ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة) قال الحافظ فظهر أن المراد لا تبشر الناس بما ذكرته من دخول الجنة لمن آمن وعمل الأعمال المفروضة عليه، فيقفوا عند ذلك ولا يتجاوزوه إلى ما هو أفضل منه من الدرجات التي تحصل بالجهاد [فتح الباري (6/12)].
(40)
الجنة تحت ظلالا السيوفعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، كتب إلى عمر بن عبيد الله حين خرج إلى الحروريَّة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال: (يا أيها الناس لا تمنَّو لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) [البخاري رقم 3024، فتح الباري (6/156) ومسلم (3/1362)].
وأي فضل أكبر من هذا الفضل ؟ يصول المجاهد ويجول في حومة الوغى وهو يعلم أنه يتجوَّل في عرصات الجنة تحت ظل سيفه وسيف عدوه، وما أن يسقط في هذه الأرض حتى يرى مقعده في الجنة وتظِله الملائكة [سيأتي هذان المعنيان قريباً].
==== يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليكرر الشهادة الغالية ! =======
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله لمن خرج في سبيله، لا يُخرجه إلا الإيمان بي وتصديق برسلي، أن أُرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خَلْف سريَّة، ولوددت أني أُقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أُقتل، ثم أحيا ثم أُقتل) [البخاري مع فتح الباري (1/92) ومسلم (3/1497)].
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) [البخاري رقم 2817، فتح الباري (6/32) ومسلم (3/1498)].
فالمجاهد – كما يظهر من حديث أبي هريرة – رابح على كل حال، انتصر على عدوه فعاد إلى بيته غانماً مأجوراً، أم استشهد فدخل الجنة، وهذه الأخيرة هي الكرامة التي ميَّز الله بها الشهيد حيث لا يتمنى أحد غيره أن يحييه الله فيقتل مراراً، لما رأى من الخير العظيم المترتب على الشهادة في سبيل الله، لا بل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود الذي ما كان يقعد خَلْف سراياه إلا إشفاقاً على أمته بأن تكلِّف نفسها الخروج في كل سرية مثله فيشق ذلك عليها، إنه صلى الله عليه وسلم ليتمنَّى أن يقتل ثم يحيا ثم يقتل في سبيل الله حباً في كرامة الشهادة عند الله، قال الحافظ: (قال ابن بطال: هذا الحديث – حديث أنس – أجل ما جاء في فضل الشهادة) [فتح الباري (6/33)].
أي شيء نشتهي ؟!
عن مسروق قال سألنا عبد الله – هو ابن مسعود – عن هذه الآية: (ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزقون) [آل عمران: 169] قال: أما إنَّا قد سألنا عن ذلك فقال: (أرواحهم في جوف طير خُضر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربهم اطِّلاعةً، فقال: تشتهون شيئاً ؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا) [مسلم (3/1502)].
(41)
وإنه في جنة الفردوسعن أنس رضي الله عنه، قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، قد عرفتَ منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: (ويحك أو هَبِلْتِ ؟ أَوَ جنةٌ واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) [البخاري مع فتح الباري (6/25)].
اللون لون الدم والريح ريح المسك
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كل كَلْمُ يُكْلَمُه المسلمُ في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها إذا طعنت تفجَّر دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك) [البخاري مع فتح الباري (1/344) ومسلم (3/1496)].
ينطلقون في الغرف العلا من الجنة
عن نعيم بن همار الغطفاني رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الشهداء أفضل ؟ قال: (الذين إن يُلْقَوا في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك ينطلقون في الغرف العلا في الجنة، ويضحك إليهم ربهم، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه) [أحمد (5/287) قال البنَّا في الفتح الرباني (13/30): وقال الهيثمي رجال أحمد وأبي يعلى ثقات]
نقد الثمن !
عن قيس الجُذامي – رجل كانت له صحبة – قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يُكفَّر عنه كل خطيئة، ويُرى مقعده في الجنة، ويُزوَّج من الحور العين، ويُؤمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر، ويُحلَّى حُلة الإيمان) [أحمد (4/200) قال البنَّا في الفتح الرباني (13/30): أخرجه ابن سعد وسنده جيد].
قال الحافظ: (وروى ابن ماجة من طريق شِهْر بن حَوْشَب عن أبي هريرة قال: ذُكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (لا تجف الأرض من دم الشهيد حتى تبتدره زوجاته من الحور العين، وفي يد كل واحدة منهما حُلة خير من الدنيا وما فيها). ولأحمد والطبراني من حديث العبادة بن الصامت مرفوعاً: (إن للشهيد عند الله سبع خصال – فذكر الحديث، وفيه: - ويُزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين) إسناده حسن، وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن مَعْدِ يكرب، وصححه) [فتح الباري (6/15-16)].
(42)
لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة عن عتبة بن عبد السُّلمي رضي الله عنه – وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القتلى ثلاثة: رجل مؤمن قاتل بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، فذلك الشهيد المفتخر) وفي رواية الممتحن [رجَّح هذه الرواية البنا في الفتح الرباني (13/32)] في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا، وجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، مُحيت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محَّاء الخطايا، وأُدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل في سبيل الله في ظاهر أمره حتى يقتل، فإن ذلك في النار، السيف لا يمحوا النفاق) [أحمد (4/185)، قال البنا: وإسناده جيد، وانظر الجهاد لابن المبارك (1/30)].
تُظِلُّه الملائكة بأجنحتها
عن جابر قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثواب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهونني، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبكِه مازالت الملائكة تظلُّه بأجنحتها حتى رفع) [البخاري مع فتح الباري (7/374)].
رضي الله عنهم وأرضاهم
عن أنس رضي اله عنه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين، فلما قدموا قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمَّنُوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريباً، فتقدَّم فأمَّنوه، فبينما يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أومئوا إلى رجل منهم، فطعنه فأنفذه، فقال: (الله أكبر، فُزْت وربِّ الكعبة) ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلا رجل أعرج صعد الجبل، قال همام – أحد رجال السند – فأراه آخر معه، فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد لقوا ربهم رضي الله عنهم وأرضاهم،فكُنا نقرأ: أن بلِّغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، ثم نسخ بعد. فدعا عليهم أربعين صباحاً على رَعْل وذَكْوان وبني لحيان وبني عُصَيّة، الذين عَصُوا الله ورسوله [البخاري رقم 2801، فتح الباري (6/18) ومسلم (3/1511).
ورضا الله هو غاية ما يسعى إلى حصوله المؤمنون.
دار الشهداء !
عن سمرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت الليلة رجلين أتياني، فصعدا بي الشجرة، وأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، لم أر أرَ قط أحسن منها، قال: أمَّا هذه الدر فدار الشهداء) [البخاري رقم 2791، فتح الباري (6/11)]
(43)
الأوسمة النبوية للمجاهدين: 1-سيف من سيوف الله
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، نعى زيداً وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: (أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب – وعيناه تذرفان – حتى أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم) [البخاري رقم 3952، فتح الباري (7/287)].
إذ كان من يُسَمَّونَ بالقواد العظام من عُبَّاد الدنيا والطغاة والجاه والثناء يستبسلون في بعض المعارك مع أعدائهم لينالوا رتباً عسكرية، أو تُخلَّد ذكراهم – كما يقولون – بإطلاق أسمائهم على بعض الشوارع في المدن أو غير ذلك مما يرونه تكريماً لهم؛ فإن المجاهد المسلم ينال أشرف ثناء وينال أعلى الأوسمة الإلهية والنبوية، ثناء صدق ووسام شرف، وهاهو ذا أحد أبطال الإسلام وقادته العظام حقاً ينال هذا اللقب النبوي الخالد على مدى الدهر: (سيف من سيوف الله) وهو وسام يناسب العمل الذي قام به خالد رضي الله عنه، لأن وظيفته كانت الجهاد في سبيل الله، فناسب أن يلقب بسيف الله، لأنه أذل أعداء الله وانتصر عليهم بمقارعته لهم بالسيوف فإذا ذكره المسلمون على ألسنتهم لم يذكروا اسمه أولاً، وإنما يذكرون هذا اللقب الذي أكرمه الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: سيف الله خالد.
ولو لم يكن خالد رضي الله عنه أبلى في سبيل الله بلاءً حسناً وقاد جيوش الإسلام للجهاد في سبيل اله لما حاز هذا الشرف وما نال هذا الوسام النبوي العظيم.
2- يا ابن ذي الجناحين !
وينتقل المجاهد إلى جوار ربه وينال رضوانه، وينال أقاربه التكريم من أجله.
وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سلَّم على ابن جعفر قال له: (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) [البخاري رقم 3709، فتح الباري (7/75).
بعد أن هنأه الرسول صلى الله عليه وسلم باستشهاد أبيه وما ناله من تكريم الله بقوله: (هنيئاً لك، أبوك يطير مع الملائكة في السماء)، قال الحافظ: (أخرجه الطبراني بإسناد حسن. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة) أخرجه الترمذي والحاكم، وفي إسناده ضعف لكن له شاهد من حديث علي عند ابن سعد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (مر بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة، وهو مُخضَّب الجناحين بالدم) أخرجه الترمذي والحاكم بإسناد على شرط مسلم، وأخرجه أيضاً هو والطبراني عن ابن عباس مرفوعاً: (دخلت البارحة الجنة، فرأيت فيها جعفر يطير مع الملائكة) وفي طريق أخرى عنه أن جعفر يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله من يديه، وإسناد هذه جيد، وطريق أبي هريرة في الثانية قوي إسناده على شرط مسلم) [فتح الباري (7/76)].
المجاهدة أولى بالتكريم من ذات النسب !
عن ثعلبة بن أبي مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسَّم مُروطاً بين نساء من نساء أهل المدينة، فبقي منها مِرْط جيد، فقال له بعض من عنده: (يا أمير المؤمنين، أعْطِ هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم – يريدون أم كلثوم بنت علي -) فقال عمر: (أم سليط أحقُّ به من نساء الأنصار ممَّن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال عمر: فإنها كانت تَزْفُر لنا القِرَب يوم أحد) [البخاري رقم 4071، فتح الباري (7/366)]
فقد قدّم عمر رضي الله عنه أم سليط على زوجه أم كلثوم حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً لها على خدمتها في الغزو.
(44)
الثناء على القوم بكثرة شهدائهم عن قتادة قال: ما نعلم حيّاً من أحياء العرب أكثر شهيداً أغر يوم القيامة من الأنصار، قال: (وحدّثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون) [البخاري رقم 4078، فتح الباري (7/374)].
=== فضل المجاهدين من الملائكة ===
عن رافع الزُّرَقي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما تعدّون أهل بدر فيكم؟) قال: (من أفضل المسلمين – أو كلمة نحوها -) قال: (وكذلك من شهد بدراً من الملائكة) [البخاري رقم 3992، فتح الباري (7/311)].
الملائكة الذين اشتركوا في معركة بدر مع المسلمين خيار الملائكة، كما أن الصحابة الذين شهدوا خيار المسلمين كما ورد ذلك صريحاً في بعض الروايات، سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم كيف أهل بدر فيكم ؟ قال: (خيارنا) قال: (وكذلك من شهد بدراً من الملائكة هم خيار الملائكة) [فتح الباري (7/313) فالمجاهدون من الملائكة أفضل ممَّن سواهم.
الزمن يسير والأجر كبير !
عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَغدوةٌ في سبيل الله أو رواحة خير من الدنيا وما فيها) وفي رواية من حديث أبي هريرة: (خير ممَّا تطلع عليه الشمس وتغرب) [البخاري رقم 3792، فتح الباري (6/13)، ورقم 2793 أيضاً، ومسلم (3/1499).
يخرج المجاهد في سبيل الله خَرْجة واحدة في أول النهار، أو خَرْجة واحدة في آخره، فتكون خرجته الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها، أي عمل يعدل هذا العمل؟ وأي نشاط يقوم به الإنسان ينيله هذا الفضل الكبير؟.
وليس المراد من الحديث المفاضلة بين الدنيا وما فيها وبين الغدوة الواحدة أو الروحة الواحدة في سبيل الله، بمعنى أنهما يشتركان في الخير وتفضل الغدوة أو الروحة على الدنيا في الخير، كما قد يتوهَّم ذلك، لأن الدنيا لا تساوي ذرة من الجنة.
قال الحافظ: (قال ابن دقيق العيد [إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام (4/504) بحاشية العدّة للأمير الصنعاني، وما نقله الحافظ ليس مطابقاً تماماً لنص ابن دقيق العيد وإن كان المعنى واضحاً فيه]: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من باب تنزيل المُغَيَّب منزلة المحسوس تحقيقاً له في النفس، لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع، فلذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة).
والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها، لأنفقها في طاعة الله تعالى. قال- القائل هو ابن حجر -: ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد [الجهاد (1/34)] من مرسل الحسن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فيهم عبد الله بن رواحة فتأخَّر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل غدوتهم).
والحاصل أن المراد تسهيل أمر الدنيا، وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قَدْرَ سَوْطٍ يصير كأنه حصل له أمر أعظم من جميع ما في الدنيا، فكيف بمن حصل منها أعلى الدرجات؟ والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسباب الدنيا، فنبه هذا المتأخر أن هذا القدر اليسير من الجنة أفضل من جميع ما في الدنيا [فتح الباري (6/14)].
أمن دائم ورزق مدرار وعمل صالح مستمر
عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباطُ يوم في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما عليها، وموضعُ سَوْط أحدكم من الجنة خيرٌ من الدنيا وما عليها، والرَّوْحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خيرٌ من الدنيا وما عليها) [البخاري رقم 2892، فتح الباري (6/85)].
وعن سلمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجري عليه رزقه، وأُمن الفتَّان) [مسلم (3/1520)].
مرابطة المجاهد في ثغر من ثغور المسلمين لحماية البلاد الإسلامية من الأعداء، أو للانقضاض عليهم عند الحاجة؛ لها منزلة عظيمة عند الله تعالى، فهي خير من الدنيا وما عليها يحوزها المؤمن فينفقها في طاعة الله، لا بل إن رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، يضاف إلى ذلك أن رزقه دائم لا ينقطع، وأمنه مستمر، لا يخاف من موت ولا نصب ولا غير ذلك، وهذا جزاء من الله للمجاهد الذي اقتحم المكاره وألقى بنفسه في المخاوف والأتعاب من جوع وعطش وغيرهما.
قال النووي رحمه الله: (هذه فضيلة ظاهرة للمرابط، وجَرَيان عمله عليه بعد موته فضيلة مختصة به لا يشاركه فيه أحد، وقد جاء صريحاً غي غير مسلم: (كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمى له إلى يوم القيامة) [شرح النووي على مسلم (13/61)] وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأجري عليه رزقه) موافق لقول الله تعالى في الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169]، والأحاديث السابقة أن أرواح الشهداء تأكل من ثمار الجنة) [شرح النووي على صحيح مسلم (13/16)].
وقال ابن قدامة رحمه الله في تفسير معنى الرباط وبيان فضلة: (معنى الرباط، الإقامة بالثغر مقوِّياً للمسلمين على الكفار، والثَّغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم.
وأصل الرباط من ربط الخيل، لأن هؤلاء يربطون خيولهم، كلٌ يُعِدُّ لصاحبه، فسُمِّي المقام بالثغر رباطاً، وإن لم يكن فيه … وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً، لأنهم إليه أحوج، ومقامه به أنفع..) [المغني (9/203) وما بعدها].
(45)
فضل المجاهد في أي موقع من ساحات المعركة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنان فرسه في سبيل الله، أشعثَ رأسهُ، مغبَّرةٍ قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شُفِّع له يُشفَّع) [البخاري رقم 2887، فتح الباري (6/81)].
أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على المجاهد في سبيل الله الذي لزم سلاحه وأعدَّ نفسه لذلك، حتى اغبرَّ جسمه، وانتفش شَعره، لبعده عن الترف والتنعم والراحة، ومظهره الذي لا وجاهة فيه، أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أينما كان عمله ما دام في سبيل الله، حارساً أم في مؤخرة الجيش، وطوبى اسم للجنة ونعيمها [راجع النهاية في غريب الحديث (3/141)].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم سَهِر، فلما قدم المدينة، قال: (ليت رجلاً من أصحابي صالحاً يحرسني الليلة) إذْ سمع صوت سلاح، فقال: (من هذا؟) فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك، ونام النبي صلى الله عليه وسلم [البخاري رقم الحديث 2885، فتح الباري (6/81) ومسلم (4/1875)].
أثنى صلى الله عليه وسلم على من يحرسه من أصحابه بصفة الصلاح، وذو الصلاح في اصطلاح الشرع من نماذج القدوة الحسنة التي أثنى الله على من رافقها في صراطه المستقيم: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) [النساء: 69].
قال الحافظ: (ورد في فضل الحراسة عدة أحاديث ليست على شرط البخاري منها حديث عثمان مرفوعاً: (حرس الليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة يُقام ليلها ويصام نهارها) أخرجه ابن ماجة [(2/924) ولكن لفظه: (من رابط ليلة في سبيل الله سبحانه كانت كألف ليلة صيامها وقيامها) واللفظ المقارب لما ذكره الحافظ هو من حديث أنس (2/925)] والحاكم [(2/81) ولفظه كما ذكر الحافظ إلا أن فيه (أفضل) بدل (خير)]، وحديث سهل بن معاذ عن أبيه مرفوعاً: (من حرس وراء المسلمين متطوعاً لم يَرَ النار بعينه إلا تَحلّة القسم) أخرجه أحمد [(3/437) من حديث معاذ بن أنس الجهني].
وحديث أبي ريحانة مرفوعاً: (حُرِّمت النار على عين سهرت في سبيل الله) أخرجه النسائي [(6/13) ولفظه: (حُرِّمت عين على النار سهرت في سبيل الله)]، ونحوه للترمذي عن ابن عباس [الترمذي رقم الحديث 1690 تحفة الأحوذي، وقال الشارح وأما حديث أبي ريحانة فأخرجه أحمد ورواته ثقات … والحاكم وقال: صحيح الإسناد كذا في الترغيب، تحفة الأحوذي (5/269)]، وللطبراني في حديث معاوية،ولأبي يَعْلَى من حديث أنس، وإسنادها حسن، وللحاكم عن أبي هريرة نحوه [فتح الباري (6/83)].
والمراد من الحديث أن الحارس في الجهاد لا تمسه النار، وإنما خص العين لأن يمنعها عن الإغماض بنوم أو سِنَة، فنالت شرف الذكر.
(46)
فداك أبي وأمي عن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جُعِلْتُ أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء، فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً، فلما رجعت قلت: يا أبتي رأيتك تختلف، قال: أو هل رأيتني يا بني ؟ قلت: نعم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم) فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه، فقال: (فداك أبي وأمي) [البخاري رقم الحديث 3720، فتح الباري (7/81)، ومسلم (4/1879)].
لقد كان من النادر أن يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أبويه، فيقول: (فداك أبي وأمي)، وكان الذي يُعطاها يتلذَّذ بها ويذكرها على سبيل الاعتزاز والإكرام، فهي من الأوسمة النبوية التي استحقها المجاهد في سبيل الله، وقد نالها الزبير رضي الله عنه، وهو ينفِّذ رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع المعلومات عن العدو، وهذا من الأدلة الواضحة على فضل أي عمل يؤدِّيه المسلم في باب الجهاد في سبيل الله. فليهنأ الزبير بهذا التكريم، وليقتد به من أراد فضل الله وثوابه في أخذ الحذر من العدو وجمع المعلومات عن كيده المسلمين، وليخسأ من سلك السبيل الأخرى سبيل التجسس على المسلمين لأعداء الله.
جبريل لم يضع السلاح !
عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أُصيب سعد يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له حِبّان بن العَرِفة، رماه في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح، واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: (قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعتُه، اخرج إليهم) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأين ؟) فأشار إلى بني قريظة، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه، فرد الحكم على سعد، قال: (فإني أحكم فيهم أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى النساء والذريَّة، وأن تقسم الأموال) [البخاري رقم الحديث 4117، فتح الباري (7/407)، ومسلم (3/1389)].
إن عملاً يجتمع عليه أهل السماء بأهل الأرض من عباد الله لإعلاء كلمة الله لهو أفضل الأعمال وأعلاها، وإذا كان جبريل عليه السلام لا يضع سلاحه، بل يواصل التحريض لأولياء الله على أعدائه، ويخوض غمار المعارك حتى يغطِّي الغبار رأسه فينفضه بيده؛ إذا كان جبريل يفعل ذلك ويحرص على الجهاد في سبيل الله، وهو مجبول على طاعة الله، فما بالك بفضيلة هذه العبادة العظيمة وكيف يزهد في الجهاد أهل الأرض من المسلمين، وفيه عزهم، وفي تركه ذلهم ومهانتهم؟.
من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
وممَّا يُظهر فضل الجهاد في سبيل الله هدفه العام الذي شرع من أجله، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) [البخاري رقم 2810، فتح الباري (6/27) ومسلم (3/1512)].
فالذي يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، لا لمغنم، ولا لذكر ورياء، ولإعلاء كلمة الله يتحقق به كل خير ويُقضى به على كل شر. الذي يجاهد لذلك لا شك يحوز فضلاً لا يحوزه إلا من سلك سبيله.
كتبه
د . عبد الله قادري الأهدل
د . عبد الله قادري الأهدل
تعليق