: الخطوات العملية لزيادة ثوابت الإيمان بعد رمضان
بعد إيراد بعض هذه الثوابت التي قد لا يشبع منها الربانيون السالكون إلى الله تعالى طريقهم ، فهم ينهلون من أبواب الخير لنفع أنفسهم والغير لعل لحظة الموت تدركهم وهم يجدّون السير إلى رب العزة سبحانه وتعالى ، وهذه نصائح عملية لزيادة ثوابت الإيمان في حياة الإنسان الذي وهب حياته للرحمن ، يرجو رضاه وسكنى الجنان ، مع النبي صلى الله عليه وسلم : العدنان ، وصحبه وآل بيته وأهل الإيمان .الخطوة الأولى : العلم :-
مما لاشك فيه أن طلب العلم يرفع الإنسان إلى أعلى الدرجات لقوله تعالى: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" (المجادلة: 11).
ويلحق بالملائكة الشهود على الوحدانية لقوله تعالى:"شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ" (آل عمران: 18) ، وهو أول باب لمعرفة الرحمن ، وفهم رسالة الإسلام ، ومعرفة مداخل الشيطان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "فقيه أشد على الشيطان من ألف عابد" (سنن الترمذي - كتاب العلم عن رسول الله - باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة - حديث رقم: 2681), وأقترح لذلك مايلي :.
1. الانتظام في حلقات تجويد وتفسير وحفظ القرآن الكريم كله أو جزء منه .
2. قراءة الأربعين نووية وحفظها وهي من أصح الأحاديث النبوية ، ثم قراءة في كتاب رياض الصالحين باباً كل أسبوع مع بعض إخوانك أو أخواتك في الله ، وتجعلون الأهم هو التواصي بتطبيق ما جاء فيه .
3. دراسة السيرة النبوية من كتاب الرحيق المختوم للمباركافوري، أو كتاب آخر موثق .
4. دراسة الأخلاق الإسلامية ، ولعل من أفضلها ما كتبه الشيخ الغزالي في كتابه "خلق المسلم".
5. دراسة مدخل إلى العقيدة الإسلامية في العقيدة الطحاوية والعقيدة الإسلامية لسيد سابق .
6. دراسة كتاب في علوم الحديث مثل كتاب مصطلح الحديث للشيخ محمود الطحان .
7. دراسة كتاب في أصول الفقه وأيسره الآن كتاب"تيسير أصول الفقه" للدكتور عبد الله الجديع ، وإضاءات على متن الورقات د. عبد السلام بن إبراهيم الحصين .
8. دراسة مدخل إلى الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى شلبي .
9. تعميق الصلة باللغة العربية، وقراءة الشعر والأدب العربي بشكل منتظم ، وتكوين ملكة لغوية تؤدي إلى أن تكون العربية لغة انتماء ، وغيرها لغات استعمال .
10. قراءة في الفقه الإسلامي للحديث"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" رواه البخاري، ويحسن في هذا البدء بكتاب فقه السنة ، ثم من أراد التوسع ففي كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبه الزحيلي ، ثم قراءة في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد .
11. قراءة كتاب "شمس الله تشرق على الغرب" للدكتورة نجريد هونكا وهو أفضل ما كتب عن روائع الحضارة الإسلامية.
12. قراءة متأنية في كتب العلماء والدعاة الموثوق منهم خاصة الذين يجمعون بين الحجة الشرعية والخشية القلبية ، ويلتزمون منهج الإسلام في الوسطية .
13. متابعة نشرات الأخبار في الفضائيات ، والجرائد والمجلات الموثوق بها حتى يعلم المسلم ماذا يجري في العالم حوله عامة ، ولأمته الإسلامية خاصة حيث روى الحاكم بسنده عن حذيفة وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء و من لم يهتم للمسلمين فليس منهم" (مستدرك الحاكم - كتاب الرقاق - حديث رقم: 7902).
هذه الخطوة ضرورية لأنها تربط الإنسان حقاً بحقائق الوجود وأصله وهو الله تعالى ، ثم رسالته في القرآن والسنة، وتاريخ الأمة وإنجازاتها الفقهية والأخلاقية والحضارية ، وهي تحفظ للعقل نضارته ومرونته واتساعه، وتحفظ للقلب قوته ، وصفاءه ونضارته ، وتحفظ للمسلم وقته أن يكون رخيصاً مصروفاً فيما لا يغني . لأن هذه تعطي الإنسان تواصلاً دائما مع هموم أمته وعالمه ، وتشعره بالمسئولية عن الإصلاح والتغيير الذي يجب أن يبدأ من النفس أولاً .
الخطوة الثانية : مجاهدة النفس :-
إذا كان العلم يزيل الشبهات ، فإن المجاهدة للنفس هي التي تعالج الشهوات، ومجاهدة النفس لكبح جماحها وامتلاك زمامها، وحملها علي ما يرضي ربها، وتصفية كدرها، وتنقية فطرتها، ولذا كان الأمر الرباني لنبيه صلي الله عليه وسلم وللمؤمنين معه بالقيام بالليل والذكر الدائم بالنهار، وهو أمر يحتاج إلي رياضة نفسية وعزيمة إيمانية، وهمة أخلاقية، وإرادة قوية.قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " (العنكبوت: ٦٩).
والمجاهدة بغير علم كمن يقود شاحنة كبيرة إلي جبل وعر توشك ان تهوي في مكان سحيق ، أو من بذل النفس والمال حميةً جاهلية أو عصبية قبلية، أو من أجهد نفسه ليجمع مالاً لأولاده دون تربية إيمانية، فيلقي منهم عقوقاً وإنكاراً للجميل، وإهمالاً له في ذات كبره. قال تعالى: " فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ" (التوبة: ٥٥).
ويمكن بيان مجاهدة النفس من جوانب عدة أهمها مايلي:
1. تعريف مجاهدة النفس :
قال ابن منظور المصري في لسان العرب في تعريف المجاهدة بأنها مصدر جاهد يجاهد جهاداً ومجاهدة وهو مأخوذ من مادة "ج هـ د" التي تدل علي المشقة. ويقال المجهود هو اللبن الذي أخرج زبده لأنه لا يخرج إلا بتعب ومشقة. ولذا لا يقال اجتهد فلان في حمل حّبة، بل اجتهد في حمل صخرة، لما في الصخرة من المشقة والعناء، وسمي قيام الليل تهجداً لما فيه من تعب ومعاناة في حمل النفس على ترك النوم في الفراش الوثير ليقوم بين يدي الله رب العالمين.
أما المجاهدة للنفس اصطلاحاً فقد عرفها الجرجاني في كتاب التعريفات ( 204 ) بأنها محاربة النفس الأمارة بالسوء بتحميلها ما يشق عليها بما هو مطلوب في الشرع، وقال المناوي هي حمل النفس علي المشاق البدنية ومخالفة الهوى، وقيل هي بذل المستطاع في أمر المطاع وهو الله عز وجل.
ويبدو لي أن أعرف مجاهدة النفس بأنها حمل النفس على أداء الواجبات، والتزامات المكارم والمروءات، وترك المحرمات، والترفع عن السفاسف والمكروهات.
2. أهمية مجاهدة النفس :
1. نجد في الواقع بعضا ًمن الأطباء يدخنون أو يشربون الخمور وهم أعلم الناس بضررهما لكن شهوتهم تغلبهم ولا يعقل أن يكون إصلاحهم عن طريق شرح آثار التدخين والخمر لأنهم أعلم من غيرهم في هذا، لكن لابد من تدريبهم على مجاهدة النفس حتى يمنع نفسه من إدمانها.
2. لو جلس أي إنسان في قاعات التدريس في أحسن الجامعات أو المعاهد التدريبية فتعلم فنون الخطابة، وقواعد السباحة، وآداب القيادة للسيارات فلن يجدي هذا العلم شيئاً حتى يجاهد الإنسان نفسه في مواجهة الجمهور خطيباً، أو ينزل إلى عباب البحار أو حمامات السباحة، أو يتحرك بالسيارة في الطرقات، وهى تحتاج إلى مواجهة الخوف والهلع الذي يعترى كل من يبدأ شيئاً جديداً مثل ذلك.
3. إن مواجهة ضغط شهوة الرجال إلى النساء أو النساء إلى الرجال والوصول إلى غض البصر وحفظ الفرج لا يحدث فقط باستحضار نصوص العفة، وعقوبة مقترف الزنا أو مقدماته، بل يلزم أن يواجه هذا الطوفان من سعار الشهوة بالصيام الذي هو وجاء لهذه الشهوة في وسط المثيرات حولنا، وبالقيام الذي يعظم الخشية لله، وبمواجهة النفس في نزواتها أن يخوض مع الخائضين سواء عن طريق الانترنت أو التليفزيون أو الأفلام الهابطة والمجلات الفاسدة، ويلزم مع هذا إشغال النفس بالحلال الطيب من التريض، وأن يكون يومه وليله مليئاً بالواجبات الشريفة، والأعمال الكثيفة فإن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أيما مفسدة كما قال الشاعر.
4. مهما توسع الأخ أو الأخت في حفظ النصوص الشرعية والآثار التربوية عن فضل القيام والصلاة مع الخشوع والخضوع، وسكب الدموع خشية رب الأرض والسماوات، فلن يحصل على انتظامه في القيام والصلاة على وقتها والخشوع في أركانها حتى يجاهد نفسه ويعصر قلبه، ويظل ذاكراً لذنبه، متذكراً موقفه بين يدي ربه، وعندئذ سيذوق حلاوة مجاهدته ولذا قال أحد الصالحين: جاهدت نفسي في قيام الليل عاما فذقت حلاوته عشرين عاماً، وهو معنى قوله تعالى: "تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّہُمۡ خَوۡفً۬ا وَطَمَعً۬ا وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ يُنفِقُونَ" (السجدة: ١٦).
5. يقول سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نفسي، مرة لي ومرة عليّ. ويقول الحسن البصري: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك. راجع إحياء علوم الدين للغزالى ص (3/71).
6. ذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (172) أن أبا بكر الصديق كتب لعمر بن الخطاب عندما استخلفه: إن أول ما أحذرك منه نفسك التي بين جنبيك. فإذا كان سيدنا أبو بكر يرى أن أول الخطر من نفس عمر ، ويري سفيان الثوري أن علاج أهواء النفس من أشق الأعمال، ويرى الحسن البصري أن جهاد النفس أشد من اللجام للدابة الجموح، فإننا يجب أن نهتم في هذه الفتن المتراكبة والأهواء المتعاقبة، والأجواء الهابطة بأعلى درجات المجاهدة للنفس حتى يسلس قيادها، ولذا قال الله تعالى: "فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (٤٠)" (النازعات: 37-40) ومن الآيات يبدو جلياً أن مدار الصلاح والنجاح والفوز بالجنة على جهاد النفس ومعالجة الأهواء، وأن الإخفاق فى ذلك يورد الإنسان المهالك ويعرضه لغضبة ربه وشدة نقمته والاكتواء بناره.
3. صور من المجاهدة للنفس:
1- قصة طالوت : اجتاز قوم طالوت اختبارين ورسبوا في اختبار هوى النفس حتى مع المباح، حيث ادعى عشرات الآلاف أنهم يعزمون على الجهاد فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم، وهؤلاء القليل كانت عندهم شبهات علمية في الفهم لصفات القائد، وخرج بعضهم وعالج العلم بعضاً آخر عندما ذكر لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم، ومع نجاحهم في الاختبارين، لكن يحكي القرآن بأسى شديد أن كثيراً منهم لم يوفقوا في مواجهة أهوائهم، كما قال سبحانه: "فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيڪُم بِنَهَرٍ۬ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّى وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُ ۥ مِنِّىٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلاً۬ مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ ۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ ٱللَّهِ ڪَم مِّن فِئَةٍ۬ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةً۬ ڪَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ" (البقرة: ٢٤٩).
2- عرب الجاهلية لما أسلموا: لم يكن الأمر سهلاً أن يتحول عرب الجاهلية من مجالس السكر في الليل، والظلم بالنهار إلى عبّادٍ قائمين فى الليل، وصوامٍ خاشعين في النهار، حتى نزل القرآن فى آخر سورة المزمل يطلب التخفيف على أنفسهم، بل مرّ هذا- قطعا - عبر مجاهدة كبيرة للنفس .
3- روى البخاري ومسلم بسندهما عن أنس بن مالك أن أنس بن النضر قال- بعد أن فاتته غزوة بدر – لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون دخل يضرب في صفوف الكافرين حتى ُوجد به بضع وثمانون ضربة بالسيف، وطعنة بالرمح ورمية بسهم، وقد قتل ومثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. ونزل فيه قوله تعالى:"مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٌ۬ صَدَقُواْ مَا عَـٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيۡهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُ ۥ وَمِنۡہُم مَّن يَنتَظِرُۖ ...۬" (الأحزاب: من الآية ٢٣)وهذا قطعا ًمرّ عبر مجاهدة كبيرة للنفس حتى ينال هذا الرضا الرباني.
4- هاجر كثيرٌ من هؤلاء المخلصين لدينهم وأمتهم إلى أوربا وأمريكا والصين واستراليا واليابان وكانت الأهواء حولهم تدعوهم إلى تلبية غرائز النفس والانغماس في شهوات المجتمع لكنهم كانوا أوفياء لدينهم وجاهدوا أنفسهم وأحيوا ليلهم بالقيام والذكر والدعاء والقنوت، وأحيوا نهارهم بالحركة والدعوة وبناء المراكز الإسلامية والمدارس والمؤسسات التي صارت واجهات للدعوة الإسلامية تقدم للناس النور والخير والهدى والرشاد، وهؤلاء أرجو أن يصدق فيهم حديث الإمام مسلم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلىّ " والهرج هو الفتن واختلاط الأمور وقلة من يعين على الطاعة لأن العبادة هنا تحتاج إلى مجاهدة شديدة.
4. : كيف نجاهد أنفسنا؟
هناك قواعد عامة وأساليب خاصة تعين على مجاهدة أنفسنا ولا تغني إحداهما عن الأخرى.
أ- القواعد العامة في مجاهدة النفس:
1- إحياء حب الله تعالى فى القلب حتى يكون حبه سبحانه أرقى من حب النفس والأهل والولد والمال وذلك بالإكثار من النظر في الكون المنظور والكتاب المسطور، ودوام الذكر، والتلذذ بالأوراد الإيمانية من صلاة في الليل وصيام في النهار.
2- إحياء الخوف من الله تعالى بمطالعة مصارع الظالمين، ومهالك الفاسقين ومآلات المفسدين، ويقارن الإنسان حاله بحالهم، ويتهم نفسه، ويعظم عنده الخوف على نفسه لكثرة النعم الإلهية، وقلة الأعمال الخيرية، وكثرة الذنوب اليومية، ويتذكر الموت وسكراته والقبر وظلماته، والحشر وأنّاته، والصراط وسقطاته، والنار ولهيبها، وجهنَّم وسعيرها، والزقوم والحميم والمقامع الحديدية، والصرخات التي تخرج من العصاة وهم فى النار يعذَّبون، وفي هذا يروي ابن أبى الدنيا في كتابه محاسبة النفس ص (34) أن إبراهيم التيمي قال : مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أىْ نفس، أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت فى الأمنية فاعملي.
3 - قوة الإرادة والعزيمة على مواجهة النفس بقوة الجناجين السابقين "الخوف والرجاء" "الرهبة والرغبة" واليقين أن العبد مهما كان ضعفه إذا لجأ إلى ربه واستعان به أعانه، وقد دعا سيدنا يوسف فى الفتنة التي تعرض لها فقال :
"رَبِّ ٱلسِّجۡنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدۡعُونَنِىٓ إِلَيۡهِۖ وَإِلَّا تَصۡرِفۡ عَنِّى كَيۡدَهُنَّ أَصۡبُ إِلَيۡہِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلۡجَـٰهِلِينَ" (يوسف: من الآية ٣٣)فصرف الله عنه كيدهن واحتمل بهمة عالية السجن مظلوماً بسبب عِفَّته، وانشغل في سجنه بنشر دعوته حتى كتب الله له الخروج إلى التمكين بتقواه وحسن صبره، ولعل مما يعين فى هذا حديث البخاري: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى من الجنة.
ونذكر قول الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر
أبارك فى الناس أهل الطموح ومن يستلذ ركوب الخطر
ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
ومن لم يعانقه شوك الحياة تبخر في جوها واندثر
لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
ب- الأساليب الخاصة في مجاهدة النفس :
هذه الأساليب الخاصة تعتمد على صدق العبد مع ربه ومعرفته بمواضع ضعفه وقوته فلا يضع نفسه فى موضع يعلم أن نفسه تميل مع الهوى وتخالف الرشاد والهدى.
وبناء عليه أحب أن أسوق هذه الأمثلة الخاصة في مجاهدة النفس :
1- من اعتاد على شراب متكرر من الشاي أو القهوة أو غيرهما يلزم أن يجاهد نفسه حتى لا يكون أسيراً لعادة، ولذلك يقال أفضل عادة ألا تكون لك عادة.
2- أن تترك بين فترة وأخرى على المائدة نوعاً من الطعام وهو أحب الأنواع إليك فإنك بهذا تهذب في النفس سطوتها فى التلذذ بالمطاعم الخاصة.
3- إن كان من طبع الأخ أو الأخت الإسراف والتبذير حتى فى أبواب الخير، فيجب أن يجاهد نفسه أو أن تجاهد نفسها فى الادخار والتوفير ولو بالقليل، وإن كان عكس ذلك شحيحاً بخيلاً فيجب أن يجاهد نفسه فى البذل والإنفاق والتوسعة على الأهل والأقارب والمؤسسات الخيرية.
4- إن كان من طبع الأخ أنه سريع الغضب بطئ الفيء فيجب أن يلاحظ نفسه ويتذكر أن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ، فإن انفلتت نفسه فى غضبة لغير الله تعالى عالجها بالصيام والقيام وعاقبها بالحرمان مما تحب ومن عقوبته لنفسه سرعة الفيء، والمبادرة إلى خصمه" وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
5- إن كان الأخ أو الأخت يميل إلى الصمت الطويل حتى إنه ليوغر صدر زوجته التى تنتظر منه كلمة طيبة أو لفتة كريمة بعد طعام، أو حسن لبس، أو جمال هيئة، فيجب أن يجاهد نفسه في الالتفات إلى أن الكلمة الطيبة صدقة وأن من أدخل السرور على أهل بيت من بيوت المسلمين لم يرض الله له جزاءاً إلا الجنة.
أما كثير الكلام بطبعه فيجب أن تأتي عليه فترات يجاهد نفسه بحسن الاستماع وقلة الكلام، وضبط اللسان ويتذكر حديث الترمذي بسند حسن صحيح عن معاذ ابن جبل: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم، ولعله يعالج نفسه بطول الخلوة وقلة الجولة مع الآخرين، فإن الخلوة تعين على الصمت إلا من ذكر الله أو تفكر فى آلائه".
6- هناك إخوة وأخوات لا يحبون القراءة ويملون من قراءة فصل فى كتاب وهؤلاء يجب أن يجاهدوا أنفسهم بالبدء فى قراءة منهجية بدلاً من القراءات العشوائية لوريقات مبعثرة، فيتمون بعض الكتب الصغيرة، ثم يتجهون إلى الكتب الكبيرة ويتذكرون أن خير جليس فى الأنام كتاب، وأن أصحاب العلم هم شركاء الملائكة الكرام فى الشهادة لله بالوحدانية لقوله تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ " (آل عمران: من الآية١٨).وأن الدنيا رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما كما أخبرنا الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم :.
7- إذا اعتاد الأخ أن يقود سيارته بسرعة زائدة فليجاهد نفسه بأن يقول هذا الأسبوع لن أتجاوز ولا مرة في السرعة، فإن حدث عاقب نفسه بمشيٍ طويل أو حرمان من شراب سلسبيل ، أو طعام شهي، أو يتصدق بشيء كأنه أخذ نصف مخالفة، لكنه يقدمها صدقة لباب من أبواب الخير، حتى يعود ضابطاً لنفسه فى القيادة مجاهدا لنفسه فى جوانب أخرى.
8- من اعتاد أن يتوضأ لكل صلاة فقط فلينظر فى قوله تعالى:"إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " (البقرة: من الآية٢٢٢).وليعاهد ربه أن يلزم نفسه بالوضوء فى كل وقت وحين، فكلما انتقض الوضوء توضأ سواء للصلاة أو الطعام أو القراءة أو الخروج حتى يكون دائماً حاملاً لسلاح الإيمان وقادراً على مواجهة وساوس الشيطان، ومستعداً للقاء الرحمن .
9- من تشبع قلبه واقتنع عقله بفضل عبادة فليتخذ قراره بأن تكون ثابتاً من ثوابت حياته، مثل صلاة السنن، وصلاة الضحى ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وصدقة السر، وأذكار دائمة، "فخير الأعمال أقلها وأدومها" كما روى البخاري بسنده عن عائشة فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :.
10- من استهوته شهوة النساء وغلبت عليه فتنة الجمال، وأهواء الإعلانات والأفلام ، فليفزع إلى الصوم فهو الوجاء، وليهرع إلى ملاطفة أهله، وأن يشبع من الحلال أو يبادر إلى الزواج إن لم يكن متزوجاً، ويشغل ليله ونهاره بأعمال تستغرق طاقاته وهمومه، ولا يدع الفراغ والفكر ليفسد عليه عفته ومروءته.
أخيراً لا يُعرف نظام أو قانون عادل في أية دولة أو شركة أو مؤسسة إلا وفيها نظام الإحسان لمن أحسن وعقاب من يخالف، ونحتاج بحق أن نتعامل مع أنفسنا بهذا المنطق .
لو حاولنا أن نربط بين زيادة ثوابت الدنيا، ومحاولات الشيطان أن نتراجع في ثوابت الآخرة، فقد يكون من المناسب لمن أدرك أن الدنيا مليئة بالخداع والزينة، وهي دار الغرور والآخرة هي دار القرار فأقترح لمن قصر في ثابت من ثوابت الآخرة أن يمنع نفسه من شيء يحبه من ثوابت الآخرة ، ليس تحريما بل تعليما، ليس قسوة بل قوة في مواجهة انفلات النفس من الواجبات، وانجرار الهوى وراء الشيطان والنزوات، والمدرب في الملاعب أو للقوات، والقوات المحاربة لا يمكن أن يصنع لاعبا أو محاربا إلا إذا عوده على عادات جديدة ومنع عنه أشياء مباحة حتى يقدر أن يقاوم هواه . ومن هنا اقترح بعضا من العقوبات التي لها صلة بثوابت الدنيا والآخرة منها ما يلي :-
1. إذا فاتتك صلاة الفجر في المسجد، فاحرم نفسك من نوعٍ من الطعام تحبه أو شراب تعودت عليه طوال اليوم ، أو امنع نفسك من النوم على سرير ليلة واحدة.
2. من فاته في يوم قراءة القرآن الكريم ضاعف القراءة في اليوم التالي، وامنع نفسك من مشاهدة التلفزيون ساعة من ليل أو نهار وخصصها لقراءة القرآن .
3. من فاتته الأذكار في الصباح والمساء يمكنه أن يغلق التلفون النقال ساعة فقط من يومه يفرغ فيها في خلوة مع الله ،ليعوض ما فاته، ويحمل نفسه على أنوار الذكر.
بهذا فقط تسلس النفس وتنقاد ، يقول الشاعر :
والنفس كالطفل أن تتركه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقيم
الخاتمة
الخاتمة
2. هناك زيادة كبيرة في ثوابت الدنيا ، توجب لدى أصحاب القلوب وأولي الألباب أن يزيدوا في ثوابت الآخرة ، ذكراً وشكراً لنعم الرازق عز وجل .
3. من الضروري لكل ذي قلب أن يراجع نصوص القرآن والسنة حول صفات وخصائص الدنيا والآخرة، كي يعيد التوازن إلى حياته ، ويزيد من ثوابت الإيمان استعداداً للقاء الرحمن ، وينال من رضاه وجنته ما يجعله سعيداً في معاشه ومعاده .
4. كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثوابت عامة إيمانية ، وثوابت خاصة لكل منهم في جانب نبغ فيه من جوانب الخير ، ونحتاج أن نكتشف أنفسنا لتكون لنا الصبغة العامة والثوابت الخاصة .
5. من ثوابت الإيمان بعد رمضان الانتقال إلى عمارة المساجد عدداً ونوعاً في توسيع رسالة المسجد الروحية والعلمية والصحية والاجتماعية والفنية .
6. من ثوابت الإيمان بعد رمضان تجويد القرآن والانتظام في ختمه قراءة ومعايشة لآياته تدبراً بالعقل وتأثراً بالقلب، وتغيراً بالنفس، وإنشاء حِلَق للقرآن في المساجد والمدارس والبيوت .
7. من ثوابت الإيمان بعد رمضان الاحتفاظ بقدر من الصيام طوال العام سواء الست البيض أم عرفه وتاسوعاء وعاشوراء وشعبان والاثنين والخميس ولكسر الشهوة أو الصيام الواجب نذراً أو كفارة .
8. من ثوابت الإيمان بعد رمضان الاندماج في أعمال البر ومؤسسات النفع العام قتلاً للرتابه وملأ للفراغ بما ينفع الناس ، ويجعل لحياة الإنسان قيمة عليا في الدنيا والآخرة .
9. من الجوانب العملية المفيدة في الالتزام بثوابت الإيمان بعد رمضان العلم المنهجي الذي يزيل الشبهات، ويزكي الطاقات والقدرات ، ثم مجاهدة النفس التي تعالج نزغات الهوى وضغط الشهوات، ومعاقبة النفس إن تخلت عن ثابت من ثوابت الآخرة ، بترك ثابت من ثوابت الدنيا .
تعليق