حتى يغيروا ما بأنفسهم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فإن الله تعالى قال في كتابه الكريم : (( إن الله لايغيروا ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ... الآية )) سورة الرعد (11) ، ومعنى هذه الآية ضمونها العام : كما قال السعدي رحمه الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم ) من النعمة والإحسان ، ورغد العيش . ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ، ومن الطاعة إلى المعصية ، أو من شكر نعم الله تعالى إلى البطر بها ، فيسلبهم الله إياها عند ذلك . وكذلك إذا غيّر العباد ، ما بأنفسهم من المعصية ، فانتقلوا إلى طاعة الله غيّر الله عليهم ، ما كانوا فيه من الشقاء ، إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة .(143). ويعلّق سيد رحمه الله تعالى في ظلاله على الآية فيقول : فإنه لايغير نعمة أو بؤسى ، ولا يغيّر عزاً أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة .... إلا أن يغيّر الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم ..... اهـ رحمه الله .(144) . إن كثيراً من الناس يشعرون بألم المعصية ، ويتحسسون لواقع الجهد في نفوسهم الذي تجلبه عليهم معاصيهم ، وضياع أوامر الله تعالى في حياتهم لكنهم في المقابل ينتظرون قراراً من غير أنفسهم يخرجهم مما يعيشون فيه من ألم ، وتجد أحدهم يسوّف في التوبة ، ويؤجل في اتخاذ القرار الذي به سعادته وحياته . وهذا النص القرآني يرشد إلى أن القرار منوط بالبداية التي هي من عند الشخص لا من عند غيره . أرأيتم قصة قاتل المئة كيف وفقه الله تعالى إلى طريق التوبة ، حينما بدأ يسأل ، ويُلح في السؤال ، ويبحث عن مخرج مما هو فيه . حينها هيأ الله له الخلاص ورزقه توبة في آخر عمره . والله تعالى لم يكتب القرب من أحد إلا بسعي منه وإقبال ألا ترى أنه قال في الحديث القدسي : من تقرّب إلىّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً ، ومن تقرّب إلى ذراعاً تقرّبت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هروله )(145) . إن كثيراً من هؤلاء ينتظر أحدهم بتوبته التخرج من الجامعة أو اللحاق بالوظيفة أو تجاوز مناسبة قادمة ، وقد يتحقق لهم هذا فيعودون للتسويف من جديد ، وقد لا يتحقق ، ويكون الموت أسرع إلى أحدهم من وقوع هذه المناسبات ، وليت شعري حينما يرحلون إلى باريهم ، ويعاينون عند الموت ملائكة الرحمن ، ويشهدون تفريطهم ، وتسويفهم ، أنّا لهم العودة ! وكيف يصححون هذه الأخطاء . إن رمضان أيها المسلمون فرصة من أعظم الفرص لاستدراك العمر ، والإقبال على الله تعالى ، وكم ممن عاش رمضان من قبلنا كانوا يأملون أن يأتي رمضان آخر ليقررون فيه قرار التوبة المنتظر فخانهم الأمل ، وغرّهم التسويف ، وهم اليوم في ظلمة القبر ، وفي ضيق اللحود ، فلئن فاتت أؤلئك الفرصة فأنت أحرى من تكون بالاستفادة . فالله الله أن يرحل رمضان من عمرك وأنت على سابق حالك ، فإن الفرص قد لاتتكرر ، والأيام شواهد لك أو عليك . وفقنا الله وإياكم إلى التوبة ، وأرشدنا إلى طري النجاة إنه أعظم مسؤول .
الرحمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
لقد أثنى الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم على تمثّله لخلق الرحمة فقال تعالى : (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله .. الآية )) سورة آل عمران (159) .
يقول محمد رشيد رضا في تفسيرألاية عند قوله : ولو كنت فظاً غليظ القلب .... قال : لأن الفظاظة وهي الشراسة والخشونة في المعاشرة وهي القسوة والغلظة وهما من الأخلاق المنفّرة للناس لايصبرون على معاشرة صاحبها وإن كثُرت فضائله ، ورجيت فواضله بل يتفرقون ، ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه ، والتحلّق حوله ، إذاً لفاتتهم هدايتك ، ولم تبلغ قلوبهم دعوتك . اهـ رحمه الله . (146)
وقال سيد رحمه الله في ظلاله معقباً على الآية : فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم ، فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيماً بهم ، ليناً معهم ولو كان فظاً غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ، ولا تجمّعت حوله المشاعر ، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لايضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم ولا يعنيهم همه ويجدون دائماً عنده الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضا ... وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهكذا كانت حياته مع الناس . ما غضب لنفسه قط . ولا ضاق صدره بضعفهم البشري ولا احتجز لنفسه شيء من أعراض هذه الحياة . بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية ، وسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم . وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه ، نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيمة . اهـ رحمه (147)
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة لهذا الخلق عموماً وكيف لايكون كذلك وقد جاءت السنة بكثير من أحاديثه في الحث على هذا الجانب . فعن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لايرحم الله من لايرحم الناس ))(148) وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا أهل الأرض ، يرحمكم من في السماء ))(149) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال سمعت أبا القاسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم صاحب هذه الحجرة يقول : (( لاتنزع الرحمة إلا من شقي )) (150)
يقول الغزالي رحمه الله : للرحمة كمال في الطبيعة يجعل المرء يرق لآلام الحلق ويسعى لإزالتها ، ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهم الهدى . هي كمال في الطبيعة لأن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة الحيوان ، ويسلبه أفضل ما فيه ، وهو العاطفة الحية النابضة بالحب والرأفة ..... ومن ثم كانت القسوة ارتكاساً بالفطرة إلى منزلة البهائم ، بل إلى منازل الجماد الذي لايعي ولا يهتز . ...إن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبداً إلى الصفح والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والاضطعنان . إن القسوة في خلق إنسان دليل نقص كبير ، وفي تاريخ أمة دليل فساد خطير . اهـ رحمه الله . (151)
إن الرحمة أيها الصائمون تتمثّل في : اليتيم الذي يترقرق الدمع في عينيه ألا يجد من يواسيه فقد أبيه . وقد تراه أو تلمحه في زوايا بيوتات تشرئب عنقه حين رأى فاكهة أو حلوى قَدِم بها والد جيرانه إلى أهل بيته . أو حتى حين يخرج إلى زوايا المدرسة لا يجد ما يفطر به مع زملائه فيعود حبيس الفصل لا يشارك زملاءه فسحتهم . أو حين يشارك الناس في العيد لا يجد برهاناً على حاله أوضح من تلك الثياب التي هتّكها الزمن يشهد بها العيد مع أقرانه . والرحمة أيها الصائمون في جار فقير لا يجد قوت يومه أوليلته ، أو أرملة أبقاها الزمان وحيدة دون رفيق يحمل همها أو يشاركها في لأواء الحياة المريرة . أو مشلول أو مريض يقلبه أهله من سرير لآخر لا يجدون من يشاركهم هذه الهموم والآلام.
الرحمة أيها المسلمون : في عامل ترك أهله وأبناءه منذ سنوات ، يبحث عن لقمة عيش لهم فيجهد لهم فلا يجد غير العرق برهاناً على جهده وعيشه الصعب . والرحمة أيها المسلمون في كل مخلوق حي أياً كان هذا المخلوق سواء إنساناً أو حتى حيواناً . فلئن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج ، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله تعالى له فغفر له . وفي رواية : إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش ، فنزعت له موقها فغفر لها به .(152) . فإن الرحمة بالمخلوق أعظم من هذا بكثير حتى قال : الغزالي : لئن كانت رحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا ، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب .(153) . فأين هذه الرحمة من قلوب تحجرت ، ونسيت هذه المعالم الرحمانية فتأتي بالعمال من بلادهم لتأكل أموالهم أو لتأخّر حقوقهم أو حتى لتتناول عصا من حديد لتضربهم دون سبب واضح أو عذر مقبول . ونسوا هؤلاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ابن مسعود يضرب غلام له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك عليه .(154) . فإن لم يلحق هؤلاء الظلمة قصاص في الدنيا لوجاهتهم عند الناس فإن عرصات القيامة لا تستر الظالم من الفضيحة ، ولا تؤوي الآبق من الجريمة ، وسيرىحين يقف بين يدي الله تعالى هذه العواقب أوضح معالم الحياة العادلة هناك .
(143) تيسير الكريم الرحمن
(144) الظلال
(145) متفق عليه
(146) تفسير المنار
(147) ظلال القرآن
(148) متفق عليه
(149) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني .
(150) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني
(151) خلق المسلم
(152) رواه مسلم
(153) خلق المسلم
(154) رواه مسلم
تعليق