بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .. نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
أما بعد :
فكثيراً ما يحصل للتائبين أنهم يحسُّون بهم وغم في أول توبتهم , بل قد يشعرون بذهاب من حولهم , أي وكأنه لا يهتم بهم أحد .. فتظلم عليهم الدنيا ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
بل قد ينتكس بعضهم ويرجع إلى معصيته , فينطبق عليه حينئذٍ قول الله تعالى : {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} سورة الحج
فترى
لماذا يحصل كلُّ ذلك للتائب ؟
يجبيك الإمام ابن القيم رحمه الله . قال :
(( متى أراد العبد شاهد هذا من نفسه , فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح والسرور واللذة التي تحصل له والجزاء من جنس العمل فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أعقبه فرحا عظيما وههنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأن وهي : أن كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة والحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم ولذلك اسباب عديدة منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه وقوة استعداده ولو كان قلبه ميتا واستعداده ضعيفا لم يحصل له ذلك وأيضا فإن الشيطان لص الإيمان واللص إنما يقصد المكان المعمور وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه وأيضا فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضته وضده ومثل هذا إما أن يكون رأسا في الخير أو رأسا في الشر فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست في الخير وإن كانت شريرة رأست في الشر وأيضا فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب لزيادة انشراحه وطمأنينته وأيضا فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه هذه سنة الله في الخلق فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأنس به واتخاذه وليا ووكيلا وكافيا وحسيبا هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه والواقف مع حاله والواقف مع ذوقه وجميعته وحظه من ربه والمطلوب منهم وراء ذلك كله والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاء ويتميز من يصلح ممن لا يصلح قال تعالى الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقال ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلا أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه ))
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم صـــــ369 - 371 ــ
انتـهــى
منقول
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .. نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين
أما بعد :
فكثيراً ما يحصل للتائبين أنهم يحسُّون بهم وغم في أول توبتهم , بل قد يشعرون بذهاب من حولهم , أي وكأنه لا يهتم بهم أحد .. فتظلم عليهم الدنيا ويظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية
بل قد ينتكس بعضهم ويرجع إلى معصيته , فينطبق عليه حينئذٍ قول الله تعالى : {
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} سورة الحج
فترى
لماذا يحصل كلُّ ذلك للتائب ؟
يجبيك الإمام ابن القيم رحمه الله . قال :
(( متى أراد العبد شاهد هذا من نفسه , فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح والسرور واللذة التي تحصل له والجزاء من جنس العمل فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أعقبه فرحا عظيما وههنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأن وهي : أن كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة والحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم ولذلك اسباب عديدة منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه وقوة استعداده ولو كان قلبه ميتا واستعداده ضعيفا لم يحصل له ذلك وأيضا فإن الشيطان لص الإيمان واللص إنما يقصد المكان المعمور وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه وأيضا فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضته وضده ومثل هذا إما أن يكون رأسا في الخير أو رأسا في الشر فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست في الخير وإن كانت شريرة رأست في الشر وأيضا فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب لزيادة انشراحه وطمأنينته وأيضا فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه هذه سنة الله في الخلق فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأنس به واتخاذه وليا ووكيلا وكافيا وحسيبا هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه والواقف مع حاله والواقف مع ذوقه وجميعته وحظه من ربه والمطلوب منهم وراء ذلك كله والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاء ويتميز من يصلح ممن لا يصلح قال تعالى الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقال ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلا أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه ))
طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن القيم صـــــ369 - 371 ــ
انتـهــى
منقول