التهجد وطول القيام
· قيام الليل في شعبان استعداداً لرمضان.
· من فوائد قيام الليل:
§ من أحسن القربات إلى الله تعالى.
§ مشاركة الصالحين من قبلنا في دأبهم.
§ مطردة للداء عن البدن.
§ مكفرة للسيئات.
§ يخفف قيام يومٍ مقداره خمسين ألف سنة.
· الترهيب من ترك قيام الليل: " لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ "
· قيام الليل في شعبان استعداداً للقيام في رمضان
وهذا العمل الجديد الذي ينبغي أن يقوم به المرء في "شعبان" تَحَسُّبًا لـ"رمضان"، واستعدادًا لقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »([1]).
كل تاجر من وراء تجارته ، وتجارة القرآن هي التجارة التي لا تبور كما قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور )[فاطر:30:29].
وهذه التجارة من القرآن الكريم تظهر في قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا .. » ([2]).
يعني: من قام بهذا القرآن الذي هو من وراء تجارة كل تاجر، من قام به إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وإذا لم يُعوِّد المرء نفسه في هذه الأيام على هذا القيام الطويل الذي يرجو به المغفرة، ويرجو به الرحمة، ويرجو به العتق من النار، فإن "رمضان" يأتي عليه، ويمر حتى إذا تعوَّد على طول القيام وجد "رمضان" قد انتهى. ولماذا طول القيام؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ » ([3]) ، وطول القنوت يعني أن يطيل المصلي من قيامه، وقال صلى الله عليه وسلم : «وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ »([4]).
وهذا الأحاديث نُنَبِّه بها أنفسَنا وإخواننا المتكاسلين عن القيام لربهم والتلذذ بالإقبال عليه سبحانه وتعالى ، والمحبة لكلامه والتدبر فيه، وتَنَعُّمِ القلب والبدن بهذهالصلاة، وبذلك الإقبال على الله تعالى.
· من فوائد قيام الليل:
ونذكر شيئا قليلا من فوائد وعواقب قيام الليل حتى يكون ذلك سببا معينا لنا على قيام الليل لله سبحانه وتعالى:
الفائدة الأولى: قيام الليل من أحسن القربات إلى الله تعالى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْعَبْدِ جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرَ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» ([5]) . فإذا علم المرءُ المُحِبُ المُقْبِلُ على الله تعالى أن ربه أقرب ما يكون إليه في جوف الليل، لا شك أنه ينتظر تلك الساعة، ويقوم فيها لِقُرْب ربه منه.
لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِى؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِى؟ فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِى أَظْمَأْتُكَ فِى الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ. فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟! فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ . ثُمَّ يُقَالُ: لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِى دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا. فَهُوَ فِى صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلاً ». هذا حديث صحيحٌ ([6]). «أسهرتُ ليلك» يعني: حال أنْ يتلوه ويدعو به ربَّه ويَتَمَلَّقه به جل وعلا.
وقد ذكرنا أن أفضل قراءة القرآن أن يقرأه قائمًا يصلي في المسجد
الفائدة الثانية: مشاركة الصالحين مِن قبلنا في دأبهم
قول النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ[وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ]» ([7])
قيام الليل: شعار الصالحين قبلكم، دأب الصالحين قبلكم، والصالحون قبلكم لابد وأن تشاركوهم فيه، وأن تنافسوهم عليه، ولا يكون الصالحون قبلكم أوْلَى بالله تعالى منكم، وأولى بمجاورته سبحانه وتعالى في جنته مع "النبيين والصديقين والشهداء " منكم.
انظر لهؤلاء الصالحين كيف قضَوْا ليلهم يستنصرون ربَّهم ويدعونه ويناشدونه، ثم يُصْبحون ليقاتلوا عدوهم، فما كانوا يستنصرون ويَتَقَوَّوْنَ ويستمدون المدد والعون من الله تعالى إلا بذلك القيام.
لذلك: لما وصفوهم قالوا: لهم دَوِيٌ بالقرآن كدوي النحل في ليلهم. كانوا فرسانًا بالنهار، رهبانًا بالليل، وذلك في أشد المواطن فزعًا، وفي أشدها خطرًا، و مخافةً، وهي عند مواجهة عدوهم -ليس عندما يَسْعَون إلى رزقهم أو معاشهم أو دراستهم- يقومون ليلهم، بل في أشد من ذلك؛ إذا لاقَوْا عدوهم كانوا يقومون ليلهم، مع أنهم كانوا ينبغي أن يناموا حتى يستطيعوا أن يقاتلوا، وإنما قاموا ليكون ذلك القيام مددَهم، وعَوْنَهُم على ذلك كله.
كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون
الهجوع: النوم، والتهجد: هو قيام الليل.
وصف ليلَهم بقلة الهجوع، ووصف أيضاً ليلهم بالتجافي عن المضاجع، ووصف ليلهم سبحانه وتعالى بالبيات سُجَّدًا لله تعالى وقيامًا.
فتلك أحوالٌ غريبة، وتلك أمور تكاد أن تكون صعبة، ولكنها تَخِفُّ كما أشرنا عندما يَعلم المرءُ أن ذلك سببه محبة الله تعالى والشوق إليه والتنعم بالوقوف بين يديه، وقرة العين بالإقبال عليه، فهذه حال المؤمنين الذين بَشَّرَهُم ربهم بالجنة
، تُوَضِّح أولَ صفات المؤمنين قبل "رمضان"، وتزداد هذه الصفة في "رمضان" كحال النبي صلى الله عليه وسلم المُشَرَّف: "أن تتجافى جنوبهم عن المضاجع" يعني: أن تتباعد هذه الجُنُوب عن مكانها التي تضجع فيه لتستريح ... تَبْعُد هذه الجُنُوب عن مواضع الراحة، إذ الراحة الحقَّة في قيامها لله تعالى.
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين جزاءاً بما كانوا يعملون)
فليس نومهم طويلًا، وليس نومهم ثقيلًا، وليس النوم أحب إليهم، بل على العكس.
فهذه الحالة إذاً تُبَيِّن محبَّتهم لربِّهم، بل محبةَ ربِّهم لهم.
وقد ذكرنا في الثلاثة الذين يحبُّهم الله تعالى ذلك الرجل الذين كان معهم في سفرهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يَعْدِلُ به – أي كان النوم أحب شيء إليهم ولا يساويه شيء-" قام إليَّ أحدهم يدعوني ويتلو آياتي ويتملقني "([8]).
هؤلاء يحبهم الرب جل وعلا، وكفى بذلك شرفًا تلك الحالة، وتلك المنزلة وهذه المرتبة العالية التي تُبين قَرْبَهم من ربِّهم واصطفاءَ اللهِ لهم واجتباءه سبحانه وتعالى إيَّاهم.
ولا شك أن حال المؤمنين اليوم على العكس؛ كلما وجد وقتًا فارغًا بَدَلًا أن يصلي ويقوم ويدعوَ ويأخذ حظه من الله تعالى.. إذا به ينام هذا الوقت،ويَحْزُن أن ضاع حظه من نومه، ويَحْزُن أن قَلَّت ساعات نومه، ولا يحزن أن قَلَّتْ ساعاتُ إقباله على الله وتَمَلُّقه له، ودعائه له، وإقباله عليه، وأن يأخذ من ربه -جل وعلا- النصيب الأوفى من المحبة والإقبال عليه، والنظر له واصطفائه واجتبائه.
بل إن الله -تبارك وتعالى- قد بَيَّن أن ليلهم ليس النومَ -كما هو الحال في طبيعة المرء- بل وصفهم ربهم في وصف عباد الرحمن وانظُرْ إلى هذا التركيب القرآنِّي البديع؛ يبيتون سجدًا! الأصل في استعمال "يبيت" لغويا في غير القرآن أن يقول: "يبيت الرجل نائمًا". فكأنه رفع "نائمًا" هذه ووضع بدلها "سُجَّدًا وقيامًا".
فبدلًا أن يقول: بِتُّ الليلة، يعني: نِمْتُ هذه الليلة، يقول: نام قائمًا راكعًا، ساجدًا. كأن نومه وراحته هو السجود والركوع ... كأن نومه وراحته هو الإقبال على الله تعالى وعلى طاعته. فلا يكون المرءُ مطمئنًا مستريحًا هادئَ البال قد أخذ قِسْطَهُ من الراحة التي يرجو والاستجمام الذي يسعى إليه إلا راكعًا وساجدًا.
فكان ذلك حالهم الذي ينبغي التفكر فيه ومقارنة أحوالنا على كلام القرآن؛ ليضع المرء الدواء على موطن الداء، وليقوم لله تعالى تلك القَوْمة التي أمره بها
وقد كان حالٌ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه بالليل هذا الحال، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم ما تُريد أن تراه قائمًا إلا رأيتَه، وما تريد أن تراه نائمًا إلا رأيتَه ([9]).
ومعني ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم -كما يقول العلماء-كان يُكابِد حال قيامه لليل. وصفةُ مكابدة الليل: أن يقوم فيتوضأ، فيصلي، ثُم تغلبه عينه، فينام قليلًا، فيفزع مرة أخرى، فيقوم، فيتوضأ، فيصلي ثُم تغلبه عينه، فينام قليلًا، فيقوم فيتوضأ فيصلي، وهي شدة المكابدة، وهي حال من أحواله صلى الله عليه وسلم التي تُبَيِّن هذا التجافي عن المضاجع، والتي تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت لربه راكعًا وساجدًا وقائمًا؛ يرجو رحمة ربه كما ذكر المولى
لذلك:
كان عِلْمُ المرء بقرب الربِّ جلَّ وعلا في جوف الليل منه عونًا له على القيام لله تعالى؛ إذا به يَهُبُّ من نومه لقرب ربه منه، ولإقباله على ربه، فيقوم حالئذ، وقد ترك نومه وراحته وزوجته، ليقوم لله تعالى في تلك الليلة التي أقامه الله تعالى فيها.
فقد رُوِيَ أن الله تعالى يقول لجبريل: «أقمْ فلانًا، وأنمْ فلانًا»، يُقيم فلانًا ليذكر الله تعالى، وأنمْ فلانًا؛ لأنه لا يريد منه ذِكْرًا لله تعالى لِمَا صدر منه.
قد أتت الأيام الجميلة، وأتت مواسم الرحمة لِيَنْفُضَ المرءُ عنه ثوبَ الغفلة، وثوب النوم، وثوب البُعْد، والجفاء عن الله تعالى؛ لتكون راحته ولذته ونعيمه وسروره وشوقه في الإقبال على الله تعالى.
الفائدة الثالثة: قيام الليل مطردة للداء عن الجسد
يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ»([10]) يعني: إن أولئك المتخوفين من قيام الليل بسب مرضهم وتعبهم و شقائهم، وبسبب كذا وكذا مما يكون عائقًا عن القيام، إذا القيام على العكس مما يخافون، فهو سببٌ لطرد الداء عن البدن، وسببٌ لشفاء هذا البدن. فإذا ما قام لله تعالى كان سببًا لشفائه، ورفع تعبه، وعدم شعوره بهذه المشقة التي أصابته في يومه؛ لأنه أقبل على ربه فنسي به الشقاء؛ "حتى إذا كان النوم أحب إليه مما يعدل به قام إليه".
وهذا القيام لا يُشْعِرُ المرء بهذا التعب؛ لأن قرة عينه فيه؛ لأن لذته ونعيمه لا تكون إلا بذلك، تَعِسَ من كان نعيمه وسعادته في الدنيا الزائلة، في امرأته وولده وماله وشُغله وأصحابه، وأُنْسِه بغير الله تعالى.
الفائدة الرابعة: قيام الليل مكفرة للسيئات
وإنه كذلك كما أشرنا «وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ »([11]) .
يعني: سبب تكفير السيئات والذنوب والمعاصي قيام الليل كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنهم كانوا يُصلُّون ليلهم حتى إذا أسحروا - يعني: إذا دخلوا في السَّحَرِ - قاموا فاستغفروا الله تعالى].
قاموا ليلهم، حتى إذا أسحروا أخذوا يستغفرون الله تعالى، وهو معنًى دقيقٌ؛ أنهم بعد صلاتهم في ليلهم إذا بهم لا يَرَون أنهم قد عملوا شيئًا لله تعالى، وإنما يستغفرون؛ كأنهم قد باتوا يَعْصون الله تعالى!!
سُئِل الحسن رضي الله عنه عن المُتَهَجِّدين: ما بَالُهم أحسن النَّاس وجوهًا؟ قال: قاموا إلى ربهم، فألبسهم من نوره سبحانه وتعالى .
هذه الأمور تَحْمِلُكَ على القيام، وتأخذك إلى الله تعالى.
وما رأينا القوة والنور في أولئك الصالحين إلا بسبب ذلك: إذا جَنَّهُم الليل صَفُّوا أقدامهم لربهم، فمنهم باكٍ، ومنهم صارخ، ومنهم داعٍ، ومنهم راكعٌ، ومنهم ساجدٌ.
الفائدة الخامسة : قيام الليل يخفف قيام يوم مقداره خمسين ألف سنة
وأَمْرٌ آخر وهو أن طول القيام يُخفف قيامَ يوم طوله خمسون ألف سنة، فيتذكر المرء ذلك فتهون عليه المشقة، كما يعلم أن هذه الجوارح الزائلة ستشهد له عند الله تعالى يوم القيامة من ناحية، وتكون منيرة له بنور القرآن والقيام من ناحية أخرى.
عن أبي ذر رضي الله عنه ([12]) قال: «صوموا يومًا شديدًا حَرُّه لِحَرِّ يوم النشور، وصَلُّوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور » ([13]) .
فإن مما يُنير قبر المرء، ويزيد نوره عند مروره على الصراط ذلك القيام الذي يزهد المرءُ فيه اليوم، مع أن راحة جسده وشفاء بدنه إنما هو في ذلك القيام.
تشهد لهم هذه الجوارح الضعيفة اليوم بِطُول قيامهم، وتُنِير لهم قبرهم، وتنير لهم طريقهم على صراطهم، إذ المرور على الصراط على حسب هذا النور هذه الصلوات وطولها وتعبها ومشقتها - التي يظن المرء أن لها تعبًا ومشقة - إذا بها هي الراحة ([14])، وإذا بها هي نورهم
3- الترهيب من ترك قيام الليل
لذلك: لمَّا كان الأمر على هذا الحال الذي ذكرنا، إذا بالنبي r يُحَذِّر: « لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ » ([15]) . ويقول في حقِّ عبد الله بن عمر ب: « إِنَّ عَبْدَ اللهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ»([16]).
يقول سالم بن عبد الله بن عمر ([17])مراوي الحديث عن أبيه عبدِ الله بن عمر([18]): فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً0.
وإن مما يُقَوِّي المرء على يومه، ويَحْفَظُه عليه وتتنزل عليه بركته هو ذلك القيام.
وما يُترك قيام الليل إلا بحرمان من الله تعالى بسبب المعصية، يقول أحد الصالحين : أذنبتُ ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل خمسة أشهر. ويقول آخر: أذنبت ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل سنة. وانظُرْ إلى نفسك !! تَراك يومًا أو يومين أو ثلاثة تقوم الليل، ثم بعد ذلك تنقلب أحوالك، وتقع في المعصية أو الغفلة فإذا بك تُحْرَمُ أيامًا كثيرة من قيام الليل.
قالِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاَثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ»، لم يُصِبْ خيرًا، وهذا هو حالنا اليوم للأسف، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الذي نام الليل كله: «ذاك رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ» ([19]) . وإن بَوْلَه ثقيل ينبغي أن يَنْفُرَ منه المؤمن، وأن يُسارِعإلى رضا الله تعالى، وأن يكون قِيامُهُ هذه الأيام استعدادًا للمغفرة؛ حتى يكون ذلك دأبَه كما كان دأبَ الصالحين قبلنا ([20]). ([1]) [ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة t.
([2]) [ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة t.
([3]) أخرجه مسلم (756) من حديث جابر t.
([4])أخرجه النسائي (3939) من حديث أنس بن مالك t . قال الحافظ في الفتح(11/340): أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْره بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.اهـ.
([5])أخرجه النسائي (572) ، والترمذي (3579) وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وابنُ خزيمة في صحيحه(1147) كلهم من حديث عمرو بن عبسة t.
([6]) أخرجه الإمامُ أحمد في مسنده عن بُرَيْدَةَ الأسلمي t مرفوعًا(5/348)،وغيرهٌ. قال الشيخ ناصر في الصحيحة (2829): «الحديث حسنٌ أو صحيح».اهـ. وفي حاشية السندي على ابن ماجه: «قَوْله ( كَالرَّجُلِ الشَّاحِب ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ الْمُتَغَيِّر اللَّوْن وَالْجِسْم لِعَارِضٍ مِنْ الْعَوَارِض؛ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَر وَنَحْوهَا. وَكَأَنَّهُ يَجِيء عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَة لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا تَغَيَّرَ لَوْنه فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْقِيَام بِالْقُرْآنِ كَذَلِكَ الْقُرْآن لِأَجْلِهِ فِي السَّعْي يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَنَال صَاحِبه الْغَايَة الْقُصْوَى فِي الْآخِرَة.» اهـ. وقد شرح المؤلف هذا الحديث الشريف شرحا مفصّلا به كثير من الإفادات في رسالة «من بركات وأنوار القرآن الكريم» - يسّر الله نشرها والنفع بها -، وهي تفريغٌ مهذب لسلسة خطب ينفس الاسم، ألقاها في سنة 1431هـ.
([7]) أخرجه الترمذي (3549) من حديث أبي أمامة t . وما بين المعقوفتين زيادة من حديث بلال t عنده أيضا. وحديث أبي أمامة قال فيه العراقي في تخريج الإحياء: (رواه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة بسند حسن) اهـ، ورواه بنحوه بالزيادة المذكورة الطبراني في االكبير(6154) عن سلمان الفارسي t يرفعه ، قال الهيثمي في المجمع: (رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون؛ وثَّقه دحيم وابن حبان وابن عدي وضعَّفه أبو داود وأبو حاتم) اهــ .
([8]) انظر تمام نص الحديث وشرحه وتخريجه في الفصل الثاني: الوظيفة الثانية.
([9]) عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال «مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنَ الشَّهْرِ صَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ، وَلاَ مُفْطِراً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ مِنَ اللَّيْلِ قَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ نَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ مَسِسْتُ خَزَّةً وَلاَ حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلاَ شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلاَ عَبِيرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم» . أخرجه الإمام البخاري (1973).
([10]) سبق تخريجه .
([11]) سبق تخريجه .
([12])أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ الغِفَارِيُّ أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .وَكَانَ يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَكَانَ رَأْساً فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالاً بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (ما أظلتِ الخضراءُ و لا أقلتِ الغبراءُ على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر) رواه الحاكم في المستدرك (8478) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، قال الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم .اهـ توفي t سنة 32 هـ بالربذة.
([13])أخرجه أبو نُعيم الأصبهاني في الحلْية عن أبي ذر t في ترجمته موقوفا عليه ، و نذكر تمام الأثر للفائدة: (عن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري tعند الكعبة، فقال: يا أيها الناس أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجَّةً لعظام الأمور، صوموا يوماً شديداً حرّه لطول النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدقْ بمالك لعلك تنجو من عسيرها، اجعل الدنيا مجلسين؛ مجلساً في طلب الآخرة، ومجلساً في طلب الحلال، والثالث يضرك ولا ينفعك لا تريده. اجعل المالَ درهمين، درهماً تنفقه على عيالك مِن حِلِّه، ودرهما تقدمه لآخرتك، والثالث يضرك ولا ينفعك لا تريده. ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبداً) .
([14]) وليس في القيام الراحة والنور فقط، بل فيه أيضاً شرف المؤمن: «جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد: عشْ ما شئتَ فإنك ميت، واعملْ ما شئت فإنك مجزيٌ به، وأحببْ من شئت فإنك مفارقه، واعلمْ أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس». قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني بإسناد حسن. اهـ.
كما أن قيام الليل هو أفضل النوافل عند كثير من العلماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ. وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ » رواه الإمام مسلم.
وبقيام الليل يتوسل العبدُ إلى ربِّه لينالَ رحمتَه سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ في وَجْهِهَا الْمَاءَ. رَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ في وَجْهِهِ الْمَاءَ » الحديث رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وبالقيام أيضاً يرجو به العبدُ نيل عطايا الرب سبحانه وتعالى واستجابة الدعوات؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ فِى اللَّيْلِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْراً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ » . رواه الإمام مسلم .وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ». أخرجه أبو داود (1398) وسكت عنه، وقال الحافظ ابن حجر: حسنٌ لشواهده. انتهى من نتائج الأفكار (3/253) ، ط. دار ابن كثير. وقوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ الْقَانِتِينَ): يَرِدُ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَة وَالْقِيَام وَالسُّكُوت فَيُصْرَفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظ الْحَدِيث الْوَارِدِ فِيهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَة ، وَالْمُرَاد هَاهُنَا الْقِيَام فِي اللَّيْل، ( كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنْ الْمَالِكِينَ مَالًا كَثِيرًا ، وَالْمُرَاد كَثْرَةُ الْأَجْرِ، وَقِيلَ أَيْ مِمَّنْ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ؛ أَيْ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَهُ السِّنْدِيُّ. انتهى من عون العبود.قال الحافظ المنذري – : «من سورة «تبارك الذي بيده الملك» إلى آخر القرآن ألف آية والله أعلم».
([15])أخرجه البخاري (1152) ، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو t .
([16])أخرجه البخاري (7029) ، ومسلم (2479) من حديث سالم عن عبد الله بن عمر بيرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
([17]) سَالِمُ بنُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ الإِمَامُ، الزَّاهِدُ، الحَافِظُ، مُفْتِي المَدِيْنَةِ و أحد الفقهاء السبعة ، أَبُو عُمَرَ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ ، التابعيُ، القُرَشِيُّ، العَدَوِيُّ، المَدَنِيُّ. ثبتٌ عابدٌ فاضلٌ، مَوْلِدُهُ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ t .
عَنْ مَالِكٍ بن أنس الإمام، قَالَ: (لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي زَمَانِ سَالِمٍ أَشْبَهَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الصَّالِحِيْنَ، فِي الزُّهْدِ، وَالفَضْلِ، وَالعَيْشِ مِنْهُ؛ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ بِدِرْهَمَيْنِ !)،وكان أبوه عبد الله بْنَ عُمَر لصلاحه يحبه حبا شديدا حتى يُلاَمَ فِي ذلك ، فَكَانَ يَقُوْلُ:
توفي سنة: 106 هـ . انظر بتصرف السير وتهذيب التهذيب
([18]) عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ الإِمَامُ، القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، العَدَوِيُّ، المَكِّيُّ، ثُمَّ المَدَنِيُّ. أَسْلَمَ وَهُوَ صَغِيْرٌ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ أَبِيْهِ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَاسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَوَّلُ غَزَوَاتِهِ الخَنْدَقُ، وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. رَوَى عِلْماً كَثِيْراً نَافِعاً عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ كثير من الصحابة ، والحديث أعلاه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على فضله. توفي سنة 73 أو 74 هـ .
([19]) أخرجه البخاري (3270) ، ومسلم (774) من حديث عبد الله بن مسعود t .
([20]) ومن الأحاديث الواردة في الترهيب من ترك قيام الليل ما رواه ابْنُ عُمَرَ معَنِ النَّبِىِّ e أنه قال «وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ». أخرحه الإمام مسلم في صحيحه (789)، ومفهومُ قوله e: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ » - سبق تخريجه قريبا- يُفيد الترهيب من القيام بأقل من عشر آيات.
· قيام الليل في شعبان استعداداً لرمضان.
· من فوائد قيام الليل:
§ من أحسن القربات إلى الله تعالى.
§ مشاركة الصالحين من قبلنا في دأبهم.
§ مطردة للداء عن البدن.
§ مكفرة للسيئات.
§ يخفف قيام يومٍ مقداره خمسين ألف سنة.
· الترهيب من ترك قيام الليل: " لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ "
· قيام الليل في شعبان استعداداً للقيام في رمضان
وهذا العمل الجديد الذي ينبغي أن يقوم به المرء في "شعبان" تَحَسُّبًا لـ"رمضان"، واستعدادًا لقوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »([1]).
كل تاجر من وراء تجارته ، وتجارة القرآن هي التجارة التي لا تبور كما قال تعالى: (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور )[فاطر:30:29].
وهذه التجارة من القرآن الكريم تظهر في قوله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا .. » ([2]).
يعني: من قام بهذا القرآن الذي هو من وراء تجارة كل تاجر، من قام به إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، وإذا لم يُعوِّد المرء نفسه في هذه الأيام على هذا القيام الطويل الذي يرجو به المغفرة، ويرجو به الرحمة، ويرجو به العتق من النار، فإن "رمضان" يأتي عليه، ويمر حتى إذا تعوَّد على طول القيام وجد "رمضان" قد انتهى. ولماذا طول القيام؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ » ([3]) ، وطول القنوت يعني أن يطيل المصلي من قيامه، وقال صلى الله عليه وسلم : «وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ »([4]).
وهذا الأحاديث نُنَبِّه بها أنفسَنا وإخواننا المتكاسلين عن القيام لربهم والتلذذ بالإقبال عليه سبحانه وتعالى ، والمحبة لكلامه والتدبر فيه، وتَنَعُّمِ القلب والبدن بهذهالصلاة، وبذلك الإقبال على الله تعالى.
· من فوائد قيام الليل:
ونذكر شيئا قليلا من فوائد وعواقب قيام الليل حتى يكون ذلك سببا معينا لنا على قيام الليل لله سبحانه وتعالى:
الفائدة الأولى: قيام الليل من أحسن القربات إلى الله تعالى
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْعَبْدِ جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرَ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» ([5]) . فإذا علم المرءُ المُحِبُ المُقْبِلُ على الله تعالى أن ربه أقرب ما يكون إليه في جوف الليل، لا شك أنه ينتظر تلك الساعة، ويقوم فيها لِقُرْب ربه منه.
لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِى؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِى؟ فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ . فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِى أَظْمَأْتُكَ فِى الْهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ. فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لاَ يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولاَنِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟! فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ . ثُمَّ يُقَالُ: لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِى دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا. فَهُوَ فِى صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلاً ». هذا حديث صحيحٌ ([6]). «أسهرتُ ليلك» يعني: حال أنْ يتلوه ويدعو به ربَّه ويَتَمَلَّقه به جل وعلا.
وقد ذكرنا أن أفضل قراءة القرآن أن يقرأه قائمًا يصلي في المسجد
الفائدة الثانية: مشاركة الصالحين مِن قبلنا في دأبهم
قول النبي صلى الله عليه وسلم : «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ[وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ]» ([7])
قيام الليل: شعار الصالحين قبلكم، دأب الصالحين قبلكم، والصالحون قبلكم لابد وأن تشاركوهم فيه، وأن تنافسوهم عليه، ولا يكون الصالحون قبلكم أوْلَى بالله تعالى منكم، وأولى بمجاورته سبحانه وتعالى في جنته مع "النبيين والصديقين والشهداء " منكم.
انظر لهؤلاء الصالحين كيف قضَوْا ليلهم يستنصرون ربَّهم ويدعونه ويناشدونه، ثم يُصْبحون ليقاتلوا عدوهم، فما كانوا يستنصرون ويَتَقَوَّوْنَ ويستمدون المدد والعون من الله تعالى إلا بذلك القيام.
لذلك: لما وصفوهم قالوا: لهم دَوِيٌ بالقرآن كدوي النحل في ليلهم. كانوا فرسانًا بالنهار، رهبانًا بالليل، وذلك في أشد المواطن فزعًا، وفي أشدها خطرًا، و مخافةً، وهي عند مواجهة عدوهم -ليس عندما يَسْعَون إلى رزقهم أو معاشهم أو دراستهم- يقومون ليلهم، بل في أشد من ذلك؛ إذا لاقَوْا عدوهم كانوا يقومون ليلهم، مع أنهم كانوا ينبغي أن يناموا حتى يستطيعوا أن يقاتلوا، وإنما قاموا ليكون ذلك القيام مددَهم، وعَوْنَهُم على ذلك كله.
كانوا قليلًا من الليل ما يهجعون
الهجوع: النوم، والتهجد: هو قيام الليل.
وصف ليلَهم بقلة الهجوع، ووصف أيضاً ليلهم بالتجافي عن المضاجع، ووصف ليلهم سبحانه وتعالى بالبيات سُجَّدًا لله تعالى وقيامًا.
فتلك أحوالٌ غريبة، وتلك أمور تكاد أن تكون صعبة، ولكنها تَخِفُّ كما أشرنا عندما يَعلم المرءُ أن ذلك سببه محبة الله تعالى والشوق إليه والتنعم بالوقوف بين يديه، وقرة العين بالإقبال عليه، فهذه حال المؤمنين الذين بَشَّرَهُم ربهم بالجنة
، تُوَضِّح أولَ صفات المؤمنين قبل "رمضان"، وتزداد هذه الصفة في "رمضان" كحال النبي صلى الله عليه وسلم المُشَرَّف: "أن تتجافى جنوبهم عن المضاجع" يعني: أن تتباعد هذه الجُنُوب عن مكانها التي تضجع فيه لتستريح ... تَبْعُد هذه الجُنُوب عن مواضع الراحة، إذ الراحة الحقَّة في قيامها لله تعالى.
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين جزاءاً بما كانوا يعملون)
فليس نومهم طويلًا، وليس نومهم ثقيلًا، وليس النوم أحب إليهم، بل على العكس.
فهذه الحالة إذاً تُبَيِّن محبَّتهم لربِّهم، بل محبةَ ربِّهم لهم.
وقد ذكرنا في الثلاثة الذين يحبُّهم الله تعالى ذلك الرجل الذين كان معهم في سفرهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يَعْدِلُ به – أي كان النوم أحب شيء إليهم ولا يساويه شيء-" قام إليَّ أحدهم يدعوني ويتلو آياتي ويتملقني "([8]).
هؤلاء يحبهم الرب جل وعلا، وكفى بذلك شرفًا تلك الحالة، وتلك المنزلة وهذه المرتبة العالية التي تُبين قَرْبَهم من ربِّهم واصطفاءَ اللهِ لهم واجتباءه سبحانه وتعالى إيَّاهم.
ولا شك أن حال المؤمنين اليوم على العكس؛ كلما وجد وقتًا فارغًا بَدَلًا أن يصلي ويقوم ويدعوَ ويأخذ حظه من الله تعالى.. إذا به ينام هذا الوقت،ويَحْزُن أن ضاع حظه من نومه، ويَحْزُن أن قَلَّت ساعات نومه، ولا يحزن أن قَلَّتْ ساعاتُ إقباله على الله وتَمَلُّقه له، ودعائه له، وإقباله عليه، وأن يأخذ من ربه -جل وعلا- النصيب الأوفى من المحبة والإقبال عليه، والنظر له واصطفائه واجتبائه.
بل إن الله -تبارك وتعالى- قد بَيَّن أن ليلهم ليس النومَ -كما هو الحال في طبيعة المرء- بل وصفهم ربهم في وصف عباد الرحمن وانظُرْ إلى هذا التركيب القرآنِّي البديع؛ يبيتون سجدًا! الأصل في استعمال "يبيت" لغويا في غير القرآن أن يقول: "يبيت الرجل نائمًا". فكأنه رفع "نائمًا" هذه ووضع بدلها "سُجَّدًا وقيامًا".
فبدلًا أن يقول: بِتُّ الليلة، يعني: نِمْتُ هذه الليلة، يقول: نام قائمًا راكعًا، ساجدًا. كأن نومه وراحته هو السجود والركوع ... كأن نومه وراحته هو الإقبال على الله تعالى وعلى طاعته. فلا يكون المرءُ مطمئنًا مستريحًا هادئَ البال قد أخذ قِسْطَهُ من الراحة التي يرجو والاستجمام الذي يسعى إليه إلا راكعًا وساجدًا.
فكان ذلك حالهم الذي ينبغي التفكر فيه ومقارنة أحوالنا على كلام القرآن؛ ليضع المرء الدواء على موطن الداء، وليقوم لله تعالى تلك القَوْمة التي أمره بها
وقد كان حالٌ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم في قيامه بالليل هذا الحال، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم ما تُريد أن تراه قائمًا إلا رأيتَه، وما تريد أن تراه نائمًا إلا رأيتَه ([9]).
ومعني ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم -كما يقول العلماء-كان يُكابِد حال قيامه لليل. وصفةُ مكابدة الليل: أن يقوم فيتوضأ، فيصلي، ثُم تغلبه عينه، فينام قليلًا، فيفزع مرة أخرى، فيقوم، فيتوضأ، فيصلي ثُم تغلبه عينه، فينام قليلًا، فيقوم فيتوضأ فيصلي، وهي شدة المكابدة، وهي حال من أحواله صلى الله عليه وسلم التي تُبَيِّن هذا التجافي عن المضاجع، والتي تبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يبيت لربه راكعًا وساجدًا وقائمًا؛ يرجو رحمة ربه كما ذكر المولى
لذلك:
كان عِلْمُ المرء بقرب الربِّ جلَّ وعلا في جوف الليل منه عونًا له على القيام لله تعالى؛ إذا به يَهُبُّ من نومه لقرب ربه منه، ولإقباله على ربه، فيقوم حالئذ، وقد ترك نومه وراحته وزوجته، ليقوم لله تعالى في تلك الليلة التي أقامه الله تعالى فيها.
فقد رُوِيَ أن الله تعالى يقول لجبريل: «أقمْ فلانًا، وأنمْ فلانًا»، يُقيم فلانًا ليذكر الله تعالى، وأنمْ فلانًا؛ لأنه لا يريد منه ذِكْرًا لله تعالى لِمَا صدر منه.
قد أتت الأيام الجميلة، وأتت مواسم الرحمة لِيَنْفُضَ المرءُ عنه ثوبَ الغفلة، وثوب النوم، وثوب البُعْد، والجفاء عن الله تعالى؛ لتكون راحته ولذته ونعيمه وسروره وشوقه في الإقبال على الله تعالى.
الفائدة الثالثة: قيام الليل مطردة للداء عن الجسد
يقول صلوات ربي وسلامه عليه: «وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ»([10]) يعني: إن أولئك المتخوفين من قيام الليل بسب مرضهم وتعبهم و شقائهم، وبسبب كذا وكذا مما يكون عائقًا عن القيام، إذا القيام على العكس مما يخافون، فهو سببٌ لطرد الداء عن البدن، وسببٌ لشفاء هذا البدن. فإذا ما قام لله تعالى كان سببًا لشفائه، ورفع تعبه، وعدم شعوره بهذه المشقة التي أصابته في يومه؛ لأنه أقبل على ربه فنسي به الشقاء؛ "حتى إذا كان النوم أحب إليه مما يعدل به قام إليه".
وهذا القيام لا يُشْعِرُ المرء بهذا التعب؛ لأن قرة عينه فيه؛ لأن لذته ونعيمه لا تكون إلا بذلك، تَعِسَ من كان نعيمه وسعادته في الدنيا الزائلة، في امرأته وولده وماله وشُغله وأصحابه، وأُنْسِه بغير الله تعالى.
الفائدة الرابعة: قيام الليل مكفرة للسيئات
وإنه كذلك كما أشرنا «وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ »([11]) .
يعني: سبب تكفير السيئات والذنوب والمعاصي قيام الليل كما ذكر الله تبارك وتعالى، وكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنهم كانوا يُصلُّون ليلهم حتى إذا أسحروا - يعني: إذا دخلوا في السَّحَرِ - قاموا فاستغفروا الله تعالى].
قاموا ليلهم، حتى إذا أسحروا أخذوا يستغفرون الله تعالى، وهو معنًى دقيقٌ؛ أنهم بعد صلاتهم في ليلهم إذا بهم لا يَرَون أنهم قد عملوا شيئًا لله تعالى، وإنما يستغفرون؛ كأنهم قد باتوا يَعْصون الله تعالى!!
سُئِل الحسن رضي الله عنه عن المُتَهَجِّدين: ما بَالُهم أحسن النَّاس وجوهًا؟ قال: قاموا إلى ربهم، فألبسهم من نوره سبحانه وتعالى .
هذه الأمور تَحْمِلُكَ على القيام، وتأخذك إلى الله تعالى.
وما رأينا القوة والنور في أولئك الصالحين إلا بسبب ذلك: إذا جَنَّهُم الليل صَفُّوا أقدامهم لربهم، فمنهم باكٍ، ومنهم صارخ، ومنهم داعٍ، ومنهم راكعٌ، ومنهم ساجدٌ.
الفائدة الخامسة : قيام الليل يخفف قيام يوم مقداره خمسين ألف سنة
وأَمْرٌ آخر وهو أن طول القيام يُخفف قيامَ يوم طوله خمسون ألف سنة، فيتذكر المرء ذلك فتهون عليه المشقة، كما يعلم أن هذه الجوارح الزائلة ستشهد له عند الله تعالى يوم القيامة من ناحية، وتكون منيرة له بنور القرآن والقيام من ناحية أخرى.
عن أبي ذر رضي الله عنه ([12]) قال: «صوموا يومًا شديدًا حَرُّه لِحَرِّ يوم النشور، وصَلُّوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور » ([13]) .
فإن مما يُنير قبر المرء، ويزيد نوره عند مروره على الصراط ذلك القيام الذي يزهد المرءُ فيه اليوم، مع أن راحة جسده وشفاء بدنه إنما هو في ذلك القيام.
تشهد لهم هذه الجوارح الضعيفة اليوم بِطُول قيامهم، وتُنِير لهم قبرهم، وتنير لهم طريقهم على صراطهم، إذ المرور على الصراط على حسب هذا النور هذه الصلوات وطولها وتعبها ومشقتها - التي يظن المرء أن لها تعبًا ومشقة - إذا بها هي الراحة ([14])، وإذا بها هي نورهم
3- الترهيب من ترك قيام الليل
لذلك: لمَّا كان الأمر على هذا الحال الذي ذكرنا، إذا بالنبي r يُحَذِّر: « لا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؛ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ » ([15]) . ويقول في حقِّ عبد الله بن عمر ب: « إِنَّ عَبْدَ اللهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ»([16]).
يقول سالم بن عبد الله بن عمر ([17])مراوي الحديث عن أبيه عبدِ الله بن عمر([18]): فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً0.
وإن مما يُقَوِّي المرء على يومه، ويَحْفَظُه عليه وتتنزل عليه بركته هو ذلك القيام.
وما يُترك قيام الليل إلا بحرمان من الله تعالى بسبب المعصية، يقول أحد الصالحين : أذنبتُ ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل خمسة أشهر. ويقول آخر: أذنبت ذنبًا فَحُرِمْتُ قيام الليل سنة. وانظُرْ إلى نفسك !! تَراك يومًا أو يومين أو ثلاثة تقوم الليل، ثم بعد ذلك تنقلب أحوالك، وتقع في المعصية أو الغفلة فإذا بك تُحْرَمُ أيامًا كثيرة من قيام الليل.
قالِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : « يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلاَثَ عُقَدٍ إِذَا نَامَ، بِكُلِّ عُقْدَةٍ يَضْرِبُ عَلَيْكَ لَيْلاً طَوِيلاً، فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، وَإِذَا تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَتَانِ، فَإِذَا صَلَّى انْحَلَّتِ الْعُقَدُ فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ»، لم يُصِبْ خيرًا، وهذا هو حالنا اليوم للأسف، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الذي نام الليل كله: «ذاك رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ» ([19]) . وإن بَوْلَه ثقيل ينبغي أن يَنْفُرَ منه المؤمن، وأن يُسارِعإلى رضا الله تعالى، وأن يكون قِيامُهُ هذه الأيام استعدادًا للمغفرة؛ حتى يكون ذلك دأبَه كما كان دأبَ الصالحين قبلنا ([20]). ([1]) [ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة t.
([2]) [ متفق عليه ] أخرجه البخاري (37)، ومسلم (760) من حديث أبي هريرة t.
([3]) أخرجه مسلم (756) من حديث جابر t.
([4])أخرجه النسائي (3939) من حديث أنس بن مالك t . قال الحافظ في الفتح(11/340): أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْره بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.اهـ.
([5])أخرجه النسائي (572) ، والترمذي (3579) وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه ، وابنُ خزيمة في صحيحه(1147) كلهم من حديث عمرو بن عبسة t.
([6]) أخرجه الإمامُ أحمد في مسنده عن بُرَيْدَةَ الأسلمي t مرفوعًا(5/348)،وغيرهٌ. قال الشيخ ناصر في الصحيحة (2829): «الحديث حسنٌ أو صحيح».اهـ. وفي حاشية السندي على ابن ماجه: «قَوْله ( كَالرَّجُلِ الشَّاحِب ) قَالَ السُّيُوطِيُّ: هُوَ الْمُتَغَيِّر اللَّوْن وَالْجِسْم لِعَارِضٍ مِنْ الْعَوَارِض؛ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَر وَنَحْوهَا. وَكَأَنَّهُ يَجِيء عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَة لِيَكُونَ أَشْبَهَ بِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ كَمَا تَغَيَّرَ لَوْنه فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِ الْقِيَام بِالْقُرْآنِ كَذَلِكَ الْقُرْآن لِأَجْلِهِ فِي السَّعْي يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يَنَال صَاحِبه الْغَايَة الْقُصْوَى فِي الْآخِرَة.» اهـ. وقد شرح المؤلف هذا الحديث الشريف شرحا مفصّلا به كثير من الإفادات في رسالة «من بركات وأنوار القرآن الكريم» - يسّر الله نشرها والنفع بها -، وهي تفريغٌ مهذب لسلسة خطب ينفس الاسم، ألقاها في سنة 1431هـ.
([7]) أخرجه الترمذي (3549) من حديث أبي أمامة t . وما بين المعقوفتين زيادة من حديث بلال t عنده أيضا. وحديث أبي أمامة قال فيه العراقي في تخريج الإحياء: (رواه الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة بسند حسن) اهـ، ورواه بنحوه بالزيادة المذكورة الطبراني في االكبير(6154) عن سلمان الفارسي t يرفعه ، قال الهيثمي في المجمع: (رواه الطبراني في الكبير وفيه عبد الرحمن بن سليمان بن أبي الجون؛ وثَّقه دحيم وابن حبان وابن عدي وضعَّفه أبو داود وأبو حاتم) اهــ .
([8]) انظر تمام نص الحديث وشرحه وتخريجه في الفصل الثاني: الوظيفة الثانية.
([9]) عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال «مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ أَرَاهُ مِنَ الشَّهْرِ صَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ، وَلاَ مُفْطِراً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ مِنَ اللَّيْلِ قَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ نَائِماً إِلاَّ رَأَيْتُهُ ، وَلاَ مَسِسْتُ خَزَّةً وَلاَ حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلاَ شَمِمْتُ مِسْكَةً وَلاَ عَبِيرَةً أَطْيَبَ رَائِحَةً مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم» . أخرجه الإمام البخاري (1973).
([10]) سبق تخريجه .
([11]) سبق تخريجه .
([12])أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ الغِفَارِيُّ أَحَدُ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ، مِنْ نُجَبَاءِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم .وَكَانَ يُفْتِي فِي خِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ. وَكَانَ رَأْساً فِي الزُّهْدِ، وَالصِّدْقِ، وَالعِلْمِ، وَالعَمَلِ، قَوَّالاً بِالحَقِّ، لاَ تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائِمٍ. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال: (ما أظلتِ الخضراءُ و لا أقلتِ الغبراءُ على ذي لهجةٍ أصدق من أبي ذر) رواه الحاكم في المستدرك (8478) وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، قال الذهبي قي التلخيص : على شرط مسلم .اهـ توفي t سنة 32 هـ بالربذة.
([13])أخرجه أبو نُعيم الأصبهاني في الحلْية عن أبي ذر t في ترجمته موقوفا عليه ، و نذكر تمام الأثر للفائدة: (عن سفيان الثوري قال: قام أبو ذر الغفاري tعند الكعبة، فقال: يا أيها الناس أنا جندب الغفاري، هلموا إلى الأخ الناصح الشفيق، فاكتنفه الناس، فقال: أرأيتم لو أن أحدكم أراد سفراً أليس يتخذ من الزاد ما يصلحه ويبلغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعد ما تريدون، فخذوا منه ما يصلحكم، قالوا: وما يصلحنا؟ قال: حجوا حجَّةً لعظام الأمور، صوموا يوماً شديداً حرّه لطول النشور، صلوا ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، كلمة خير تقولها، أو كلمة سوء تسكت عنها لوقوف يوم عظيم، تصدقْ بمالك لعلك تنجو من عسيرها، اجعل الدنيا مجلسين؛ مجلساً في طلب الآخرة، ومجلساً في طلب الحلال، والثالث يضرك ولا ينفعك لا تريده. اجعل المالَ درهمين، درهماً تنفقه على عيالك مِن حِلِّه، ودرهما تقدمه لآخرتك، والثالث يضرك ولا ينفعك لا تريده. ثم نادى بأعلى صوته: يا أيها الناس قد قتلكم حرصٌ لا تدركونه أبداً) .
([14]) وليس في القيام الراحة والنور فقط، بل فيه أيضاً شرف المؤمن: «جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد: عشْ ما شئتَ فإنك ميت، واعملْ ما شئت فإنك مجزيٌ به، وأحببْ من شئت فإنك مفارقه، واعلمْ أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس». قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني بإسناد حسن. اهـ.
كما أن قيام الليل هو أفضل النوافل عند كثير من العلماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ. وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ » رواه الإمام مسلم.
وبقيام الليل يتوسل العبدُ إلى ربِّه لينالَ رحمتَه سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم : «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ في وَجْهِهَا الْمَاءَ. رَحِمَ اللهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ في وَجْهِهِ الْمَاءَ » الحديث رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وبالقيام أيضاً يرجو به العبدُ نيل عطايا الرب سبحانه وتعالى واستجابة الدعوات؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ فِى اللَّيْلِ لَسَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْراً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ » . رواه الإمام مسلم .وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ». أخرجه أبو داود (1398) وسكت عنه، وقال الحافظ ابن حجر: حسنٌ لشواهده. انتهى من نتائج الأفكار (3/253) ، ط. دار ابن كثير. وقوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ الْقَانِتِينَ): يَرِدُ بِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالطَّاعَةِ وَالْخُشُوعِ وَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْعِبَادَة وَالْقِيَام وَالسُّكُوت فَيُصْرَفُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي إِلَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظ الْحَدِيث الْوَارِدِ فِيهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَة ، وَالْمُرَاد هَاهُنَا الْقِيَام فِي اللَّيْل، ( كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ مِنْ الْمَالِكِينَ مَالًا كَثِيرًا ، وَالْمُرَاد كَثْرَةُ الْأَجْرِ، وَقِيلَ أَيْ مِمَّنْ أُعْطِيَ مِنْ الْأَجْرِ؛ أَيْ أَجْرًا عَظِيمًا قَالَهُ السِّنْدِيُّ. انتهى من عون العبود.قال الحافظ المنذري – : «من سورة «تبارك الذي بيده الملك» إلى آخر القرآن ألف آية والله أعلم».
([15])أخرجه البخاري (1152) ، ومسلم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو t .
([16])أخرجه البخاري (7029) ، ومسلم (2479) من حديث سالم عن عبد الله بن عمر بيرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
([17]) سَالِمُ بنُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ الإِمَامُ، الزَّاهِدُ، الحَافِظُ، مُفْتِي المَدِيْنَةِ و أحد الفقهاء السبعة ، أَبُو عُمَرَ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ ، التابعيُ، القُرَشِيُّ، العَدَوِيُّ، المَدَنِيُّ. ثبتٌ عابدٌ فاضلٌ، مَوْلِدُهُ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ t .
عَنْ مَالِكٍ بن أنس الإمام، قَالَ: (لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي زَمَانِ سَالِمٍ أَشْبَهَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الصَّالِحِيْنَ، فِي الزُّهْدِ، وَالفَضْلِ، وَالعَيْشِ مِنْهُ؛ كَانَ يَلْبَسُ الثَّوْبَ بِدِرْهَمَيْنِ !)،وكان أبوه عبد الله بْنَ عُمَر لصلاحه يحبه حبا شديدا حتى يُلاَمَ فِي ذلك ، فَكَانَ يَقُوْلُ:
يَلُوْمُوْنَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُوْمُهُمْ َجِلْدَةُ بَيْنَ العَيْنِ وَالأَنْفِ سَالِمُ
([18]) عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بنِ نُفَيْلٍ الإِمَامُ، القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، العَدَوِيُّ، المَكِّيُّ، ثُمَّ المَدَنِيُّ. أَسْلَمَ وَهُوَ صَغِيْرٌ، ثُمَّ هَاجَرَ مَعَ أَبِيْهِ لَمْ يَحْتَلِمْ، وَاسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَوَّلُ غَزَوَاتِهِ الخَنْدَقُ، وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. رَوَى عِلْماً كَثِيْراً نَافِعاً عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ كثير من الصحابة ، والحديث أعلاه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على فضله. توفي سنة 73 أو 74 هـ .
([19]) أخرجه البخاري (3270) ، ومسلم (774) من حديث عبد الله بن مسعود t .
([20]) ومن الأحاديث الواردة في الترهيب من ترك قيام الليل ما رواه ابْنُ عُمَرَ معَنِ النَّبِىِّ e أنه قال «وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ». أخرحه الإمام مسلم في صحيحه (789)، ومفهومُ قوله e: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ » - سبق تخريجه قريبا- يُفيد الترهيب من القيام بأقل من عشر آيات.
تعليق