أحوال القلوب المستمعة للقرآن الكريم :
يذكر الإمام "ابن القيم" في هذا المعنى: أن القلب حتى يتأثر بهذه الموعظة، فلابد أن يكون هناك المؤثِّر الذي يُؤثِّر، وهناك المحلُّ الذي يَقْبَل هذا التأثير، ولابد أن يوجد شروط لحصول هذا التأثير ، وأن تنتفي موانع التأثير ([1]) .
و معنى هذا الكلام:
أن يكون هناك القرآن الكريم وهو المؤثر الذي يتأثر به النَّاس، وأن يكون هناك المحل القابل لذلك، وهو القلب، ويُشترط لذلك؛ أن يؤثر المؤثر في المحل؛ يعني: أن يؤثر القرآن في القلب؛ أن يلقى السمع والإنصات إليه ، وهو الشرط.
ورابع ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : أن تنتفي موانع السمع من اللهو عنه، والغفلة عنه، وعدم الإنصات له الإنصات الكافي ، وعدم الاستماع
فشرط تحصيل هذه الرحمات كما قال هو الإنصات والسمع من ناحية.
ومن ناحية ثانية: هو التلاوة والتدبر والفهم
فبَيَّن أن تحصيل الهداية، وتحصيل البركة، وتحصيل الرحمة، وتحصيل الفضل لابد أن يتحقق له السَّمع والإنصات لتلاوته، وأن يتحقق له بعد ذلك التَّدبر والفَهْم، ثم الاتِّبَاع والعمل والتقوى وكأنَّ البركة والرحمة والهداية التي في القرآن متعلقة بالتلاوة والتدبر والإنصات والفهم والعمل
علمت إذن هذه البداية وما عليك إلا أن تتحقق بهذه المعاني لكي تُحصِّل البركة والرحمة،
الجواب: لأن النَّاس المحصلين لذلك فريقان؛ وغيرهم لا يحصل شيئا:
الفريق الأول قلوبهم حيَّة: فهي تتأثر بالقرآن مباشرة؛ تجول في معانيه، وتتدبر في آياته، وتزداد به إيمانًا ، وتزداد به يقينًا كما سنذكر الآيات التي تدل على شيء من ذلك، وهذا هو القلب الحي
فهذه الحياة هي حياة القلب الذي ليس بينه وبين القرآن حواجز، وليس بينه وبين القرآن شهوات، ولا آفات، ولا مرديات، ولا مهلكات، ولا موانع، وإنما يتنزل عليه القرآن فإذا به متدبرٌ له ، سامعٌ له، منصتٌ له، عاملٌ به، يَضَعُه على أمراضه وعِلله فيستشفي بها، والحال الأعلى الأَجَلُّ من ذلك حالُه المشرف صلى الله عليه وسلم كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»([2]) صلى الله عليه وسلم ، يعني: انطبع هذا القرآن في القلب، فظهر على تلك الجوارح.
والفريق الثاني هو الذي
قلبُه ليس بهذه الدرجة من الحياة، فهذا يحتاج لأن يتدبر هذه الآيات، وحتى تقع هذه الآيات على قلبه موقع الشفاء، وحتى يتنزل هذا القرآن على قلبه تَنَزُّل الرحمة، وحتى يصيب منه البركة، وحتى يصيب منه هذا النور وهذه الحياة لابد وأن يُلقِيَ السمع، وأن يجاهد أن يكون وأن يكون في نفس الوقت حاضر القلب مقبلًا عليه ، قد قطع كل الشواغل عنه، حتى يكون سببًا لهدايته، ودخول النور إليه.
فأنت بين أمرين:
بين قلب حي لا يحتاج لشيء غير القرآن، فهو نازلٌ عليه، متفهمٌ له، متدبرٌ له، يعمل به، يَحْزُن لوعيده، ويفرح لرحمته ويقوم بأمره، وينتهي عن نهيه، ويتعظ بقصصه ومواعظه، ويسير به السير الذي كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أنت لم تصل بعد إلى هذه الدرجة فتحتاج إلى الإنصات، وشهود القلب حتى تتنزل عليك هذه الرحمات.
ونحن كما ترون - إلَّا من رحم ربي - حالتنا ليست على الإنصات وحضور القلب حال قراءة القرآن، ولا قلوبنا هذه حيَّة من أصلها حتى تقوم بذلك.
. إذا لم يكن على هذه الدرجة من الحياة، وهو حاضر، شاهد، يشهد قلبه هذه المعاني.
وهذا يُوضِّح لنا الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون،
وقرآن الله تعالى وكلامه كلُّه حَسَنٌ، أما "الأحسن" هذه فهي متعلِّقة بالمُكَلَّف نَفْسِه الذي يرى هذه الأمور التي تُقَرِّبه إلى الله تعالى، فتكون في حقه هي الأحسن والأكثر تأثيرًا من غيرها وبسببها يكون أكثرَ حياةً وإقبالاً وعملاً.
ونرجع إلى السؤال المهم : كيف يحصِّل المرء هذه الأحوال؟
والجواب: أن يجاهد المرء نفسه حتى تكون حالته كحال المؤمنين مع القرآن الكريم كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز. وهو ما سنذكره في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.
) هذا معناه أنهم إذا سمعوا هذه الآيات أصابتهم بهذا البكاء الذي يَدُلُّ على تأثرهم، وإذا البكاء هو أسرع شيء إلى أعينهم؛ لأنها قد رأت الوعد والوعيد، وشاهدت مشاهدَ الآخرة، واقترابَ رحيل الدنيا، وشاهدت القبرَ وعذابَه ، والبعثَ وما فيه من أهوالٍ وكُرَبٍ، وشهادةِ موقفها بين يدي الله تعالى الذي يَبْعَثُ على البكاء ليلاً ونهاراً، «وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن يبكي، ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المِرْجَل» ([3])، وهو القِدْر الذي يغلي الماء فيه ، وكما صوَّرهم الله سبحانه وتعالى فأجلى صورتهم
هذان الأمران مُهمَّان: البُّكاء، وزِيَادَة الْخُشُوع.
لذلك: كان "ابن عباس" رضي الله عنه ([4]) إذا تُليت الآية يقول: انتظر! هذا هو السجود فأين البُّكاء؟
لذلك أيضاً كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ([5]) يقول: ((ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُكَاء فَتَبَاكُوا))([6]). يعني: اتلوا وابكوا، فإذا لم تبكوا فتباكوا، وهي حالة تُظهِرَ مدى ما تأثر القلب به من خشوع، فيظهر هذا الخشوع على الجوارح بقشعريرة الجلد
وإذا لم يستطع المرء أن يبكي، أو أن يتباكى فليبكِ على موت قلبه ... فليبكِ على حاله التي لم تصل إلى هذا التأثر..
فهذا الموضوع إذًا من مُهِمَّاتِ موضوعات الدين: أن ترى نفسك خاشعًا متصدعًا باكيًا عند قراءة القرآن.
الحالة الثالثة: قشعريرة الجلد :
إذا كانت أعينهم تبكي عند سماع القرآن فكذلك أيضاً عند سماعه تقشعر جلودهم له خوفًا وخشية من وعيد الله تعالى فيه ، ومما ذكر، ثم يصيبهم الرجاء والرحمة، فتلين هذه الجلود والقلوب مرة أخرى لله تعالى.
فبالخوف والرجاء يستطيع المرء أن يسير إلى الله تعالى.
فهذه القشعريرة التي تصيب أجسامهم، وهذا الدمع الذي تفيض به أعينهم، هو دليل حياة القلب، ودليل الإقبال على الرَّب، ودليل الاتعاظ بالموعظة والتَّذكر بهذه الذكرى التي أشار الله -تبارك وتعالى- بها إلى المؤمنين.
والمرء لا يحتاج إلى أن نقول له انظر إلى حالك أيها المسكين !! أين بكاؤك وخشوعك الذي تذكر ؟!
([1]) انظر الفوائد لابن القيم /ص3 .
([2])أخرجه الإمام أحمد (6 / 91) من حديث سعد بن هشام t. وقال الشيخ شعيب في التحقيق: حديث صحيح .
([3]) أخرجه الإمام أحمد بنحوه في مسنده (4/25 ميمنية) ، وابنُ حبان في صحيحه (3/30). قال الشيخ شعيب في التحقيق: ( إسناده صحيح على شرط مسلم).اهـ. قال ابنُ حبان رحمه الله تعالى مُعلَّقا على هذا: «في هذا الخبر بيانٌ واضح أن التحزّن الذي أذِنَ اللهُ جل وعلا فيه بالقرآن واستمع إليه هو التحزن بالصوت مع بدايته ونهايته، لأن بداءته هو العزم الصحيح على الانقلاع عن المزجورات ، ونهايته وفور التشمير في أنواع العبادات، فإذا اشتمل التحزّن على البداية التي وصفتُها والنهايةِ التي ذكرتُها صار المتحزِّن بالقرآن كأنه قذف بنفسه في مقلاع القُربة إلى مولاه ولم يتعلق بشيء دونه» اهـ.
([4]) عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ البَحْرُ أَبُو العَبَّاسِ الهَاشِمِيُّ حَبْرُ الأُمَّةِ، وَفَقِيْهُ العَصْرِ، وَإِمَامُ التَّفْسِيْر وترجمان القرآنِ،ابْنُ عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، القُرَشِيُّ، الهَاشِمِيُّ، المَكِّيُّ، الأَمِيْرُ رضي الله عنه. مَوْلِدُهُ: بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ، قَبْلَ عَامِ الهِجْرَةِ بِثَلاَثِ سِنِيْنَ.صَحِبَ النَّبِيَّ رضي الله عنه نَحْواً مِنْ ثَلاَثينَ شَهْراً، وَحَدَّثَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ. قال فيه صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده(1/328) وقال الشيخ شعيب في التحقيق: (إسناده قوي على شرط مسلم) اهـ . توفي سنة 68 هـ بـالطائف. انظر السير وتهذيب التهذيب بتصرف.
([5])عبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ الإِمَامُ، الحَبْرُ، العَابِدُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنُ صَاحِبِهِ، أَبُو مُحَمَّدٍ.وَقِيْلَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ.وَقِيْلَ: أَبُو نُصَيْرٍ القُرَشِيُّ، السَّهْمِيُّ. وَلَيْسَ أَبُوْهُ أَكْبَرَ مِنْهُ إِلاَّ بِإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ نَحْوِهَا.وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيْه م. وَلَهُ مَنَاقِبُ، وَفَضَائِلُ، وَمَقَامٌ رَاسِخٌ فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ، حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْماً جَمّاً. توفي فى ذى الحجة سنة ثلاث و ستين هـ. انظر السير وتهذيب التهذيب بتصرف.
([6]) أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو t موقوفا عليه (4/ 622) وصححه،ووافقه الذهبي بقوله: على شرط البخاري ومسلم .
يذكر الإمام "ابن القيم" في هذا المعنى: أن القلب حتى يتأثر بهذه الموعظة، فلابد أن يكون هناك المؤثِّر الذي يُؤثِّر، وهناك المحلُّ الذي يَقْبَل هذا التأثير، ولابد أن يوجد شروط لحصول هذا التأثير ، وأن تنتفي موانع التأثير ([1]) .
و معنى هذا الكلام:
أن يكون هناك القرآن الكريم وهو المؤثر الذي يتأثر به النَّاس، وأن يكون هناك المحل القابل لذلك، وهو القلب، ويُشترط لذلك؛ أن يؤثر المؤثر في المحل؛ يعني: أن يؤثر القرآن في القلب؛ أن يلقى السمع والإنصات إليه ، وهو الشرط.
ورابع ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : أن تنتفي موانع السمع من اللهو عنه، والغفلة عنه، وعدم الإنصات له الإنصات الكافي ، وعدم الاستماع
فشرط تحصيل هذه الرحمات كما قال هو الإنصات والسمع من ناحية.
ومن ناحية ثانية: هو التلاوة والتدبر والفهم
فبَيَّن أن تحصيل الهداية، وتحصيل البركة، وتحصيل الرحمة، وتحصيل الفضل لابد أن يتحقق له السَّمع والإنصات لتلاوته، وأن يتحقق له بعد ذلك التَّدبر والفَهْم، ثم الاتِّبَاع والعمل والتقوى وكأنَّ البركة والرحمة والهداية التي في القرآن متعلقة بالتلاوة والتدبر والإنصات والفهم والعمل
علمت إذن هذه البداية وما عليك إلا أن تتحقق بهذه المعاني لكي تُحصِّل البركة والرحمة،
الجواب: لأن النَّاس المحصلين لذلك فريقان؛ وغيرهم لا يحصل شيئا:
الفريق الأول قلوبهم حيَّة: فهي تتأثر بالقرآن مباشرة؛ تجول في معانيه، وتتدبر في آياته، وتزداد به إيمانًا ، وتزداد به يقينًا كما سنذكر الآيات التي تدل على شيء من ذلك، وهذا هو القلب الحي
فهذه الحياة هي حياة القلب الذي ليس بينه وبين القرآن حواجز، وليس بينه وبين القرآن شهوات، ولا آفات، ولا مرديات، ولا مهلكات، ولا موانع، وإنما يتنزل عليه القرآن فإذا به متدبرٌ له ، سامعٌ له، منصتٌ له، عاملٌ به، يَضَعُه على أمراضه وعِلله فيستشفي بها، والحال الأعلى الأَجَلُّ من ذلك حالُه المشرف صلى الله عليه وسلم كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»([2]) صلى الله عليه وسلم ، يعني: انطبع هذا القرآن في القلب، فظهر على تلك الجوارح.
والفريق الثاني هو الذي
قلبُه ليس بهذه الدرجة من الحياة، فهذا يحتاج لأن يتدبر هذه الآيات، وحتى تقع هذه الآيات على قلبه موقع الشفاء، وحتى يتنزل هذا القرآن على قلبه تَنَزُّل الرحمة، وحتى يصيب منه البركة، وحتى يصيب منه هذا النور وهذه الحياة لابد وأن يُلقِيَ السمع، وأن يجاهد أن يكون وأن يكون في نفس الوقت حاضر القلب مقبلًا عليه ، قد قطع كل الشواغل عنه، حتى يكون سببًا لهدايته، ودخول النور إليه.
فأنت بين أمرين:
بين قلب حي لا يحتاج لشيء غير القرآن، فهو نازلٌ عليه، متفهمٌ له، متدبرٌ له، يعمل به، يَحْزُن لوعيده، ويفرح لرحمته ويقوم بأمره، وينتهي عن نهيه، ويتعظ بقصصه ومواعظه، ويسير به السير الذي كان عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أنت لم تصل بعد إلى هذه الدرجة فتحتاج إلى الإنصات، وشهود القلب حتى تتنزل عليك هذه الرحمات.
ونحن كما ترون - إلَّا من رحم ربي - حالتنا ليست على الإنصات وحضور القلب حال قراءة القرآن، ولا قلوبنا هذه حيَّة من أصلها حتى تقوم بذلك.
. إذا لم يكن على هذه الدرجة من الحياة، وهو حاضر، شاهد، يشهد قلبه هذه المعاني.
وهذا يُوضِّح لنا الأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون،
وقرآن الله تعالى وكلامه كلُّه حَسَنٌ، أما "الأحسن" هذه فهي متعلِّقة بالمُكَلَّف نَفْسِه الذي يرى هذه الأمور التي تُقَرِّبه إلى الله تعالى، فتكون في حقه هي الأحسن والأكثر تأثيرًا من غيرها وبسببها يكون أكثرَ حياةً وإقبالاً وعملاً.
ونرجع إلى السؤال المهم : كيف يحصِّل المرء هذه الأحوال؟
والجواب: أن يجاهد المرء نفسه حتى تكون حالته كحال المؤمنين مع القرآن الكريم كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز. وهو ما سنذكره في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.
) هذا معناه أنهم إذا سمعوا هذه الآيات أصابتهم بهذا البكاء الذي يَدُلُّ على تأثرهم، وإذا البكاء هو أسرع شيء إلى أعينهم؛ لأنها قد رأت الوعد والوعيد، وشاهدت مشاهدَ الآخرة، واقترابَ رحيل الدنيا، وشاهدت القبرَ وعذابَه ، والبعثَ وما فيه من أهوالٍ وكُرَبٍ، وشهادةِ موقفها بين يدي الله تعالى الذي يَبْعَثُ على البكاء ليلاً ونهاراً، «وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن يبكي، ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المِرْجَل» ([3])، وهو القِدْر الذي يغلي الماء فيه ، وكما صوَّرهم الله سبحانه وتعالى فأجلى صورتهم
هذان الأمران مُهمَّان: البُّكاء، وزِيَادَة الْخُشُوع.
لذلك: كان "ابن عباس" رضي الله عنه ([4]) إذا تُليت الآية يقول: انتظر! هذا هو السجود فأين البُّكاء؟
لذلك أيضاً كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ([5]) يقول: ((ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا بُكَاء فَتَبَاكُوا))([6]). يعني: اتلوا وابكوا، فإذا لم تبكوا فتباكوا، وهي حالة تُظهِرَ مدى ما تأثر القلب به من خشوع، فيظهر هذا الخشوع على الجوارح بقشعريرة الجلد
وإذا لم يستطع المرء أن يبكي، أو أن يتباكى فليبكِ على موت قلبه ... فليبكِ على حاله التي لم تصل إلى هذا التأثر..
فهذا الموضوع إذًا من مُهِمَّاتِ موضوعات الدين: أن ترى نفسك خاشعًا متصدعًا باكيًا عند قراءة القرآن.
الحالة الثالثة: قشعريرة الجلد :
إذا كانت أعينهم تبكي عند سماع القرآن فكذلك أيضاً عند سماعه تقشعر جلودهم له خوفًا وخشية من وعيد الله تعالى فيه ، ومما ذكر، ثم يصيبهم الرجاء والرحمة، فتلين هذه الجلود والقلوب مرة أخرى لله تعالى.
فبالخوف والرجاء يستطيع المرء أن يسير إلى الله تعالى.
فهذه القشعريرة التي تصيب أجسامهم، وهذا الدمع الذي تفيض به أعينهم، هو دليل حياة القلب، ودليل الإقبال على الرَّب، ودليل الاتعاظ بالموعظة والتَّذكر بهذه الذكرى التي أشار الله -تبارك وتعالى- بها إلى المؤمنين.
والمرء لا يحتاج إلى أن نقول له انظر إلى حالك أيها المسكين !! أين بكاؤك وخشوعك الذي تذكر ؟!
([1]) انظر الفوائد لابن القيم /ص3 .
([2])أخرجه الإمام أحمد (6 / 91) من حديث سعد بن هشام t. وقال الشيخ شعيب في التحقيق: حديث صحيح .
([3]) أخرجه الإمام أحمد بنحوه في مسنده (4/25 ميمنية) ، وابنُ حبان في صحيحه (3/30). قال الشيخ شعيب في التحقيق: ( إسناده صحيح على شرط مسلم).اهـ. قال ابنُ حبان رحمه الله تعالى مُعلَّقا على هذا: «في هذا الخبر بيانٌ واضح أن التحزّن الذي أذِنَ اللهُ جل وعلا فيه بالقرآن واستمع إليه هو التحزن بالصوت مع بدايته ونهايته، لأن بداءته هو العزم الصحيح على الانقلاع عن المزجورات ، ونهايته وفور التشمير في أنواع العبادات، فإذا اشتمل التحزّن على البداية التي وصفتُها والنهايةِ التي ذكرتُها صار المتحزِّن بالقرآن كأنه قذف بنفسه في مقلاع القُربة إلى مولاه ولم يتعلق بشيء دونه» اهـ.
([4]) عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ البَحْرُ أَبُو العَبَّاسِ الهَاشِمِيُّ حَبْرُ الأُمَّةِ، وَفَقِيْهُ العَصْرِ، وَإِمَامُ التَّفْسِيْر وترجمان القرآنِ،ابْنُ عَمِّ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، القُرَشِيُّ، الهَاشِمِيُّ، المَكِّيُّ، الأَمِيْرُ رضي الله عنه. مَوْلِدُهُ: بِشِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ، قَبْلَ عَامِ الهِجْرَةِ بِثَلاَثِ سِنِيْنَ.صَحِبَ النَّبِيَّ رضي الله عنه نَحْواً مِنْ ثَلاَثينَ شَهْراً، وَحَدَّثَ عَنْهُ بِجُمْلَةٍ صَالِحَةٍ. قال فيه صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) أخرجه الإمام أحمد في مسنده(1/328) وقال الشيخ شعيب في التحقيق: (إسناده قوي على شرط مسلم) اهـ . توفي سنة 68 هـ بـالطائف. انظر السير وتهذيب التهذيب بتصرف.
([5])عبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العَاصِ بنِ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ الإِمَامُ، الحَبْرُ، العَابِدُ، صَاحِبُ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَابْنُ صَاحِبِهِ، أَبُو مُحَمَّدٍ.وَقِيْلَ: أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ.وَقِيْلَ: أَبُو نُصَيْرٍ القُرَشِيُّ، السَّهْمِيُّ. وَلَيْسَ أَبُوْهُ أَكْبَرَ مِنْهُ إِلاَّ بِإِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، أَوْ نَحْوِهَا.وَقَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ أَبِيْه م. وَلَهُ مَنَاقِبُ، وَفَضَائِلُ، وَمَقَامٌ رَاسِخٌ فِي العِلْمِ وَالعَمَلِ، حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْماً جَمّاً. توفي فى ذى الحجة سنة ثلاث و ستين هـ. انظر السير وتهذيب التهذيب بتصرف.
([6]) أخرجه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو t موقوفا عليه (4/ 622) وصححه،ووافقه الذهبي بقوله: على شرط البخاري ومسلم .
تعليق